يظل الإنسان ابن بيئته، وكذا الأديب - شاعراً كان أم ناثراً - هو ابن بيئته التي وُلِد فيها، ونشأ في محيطها، وترعرع في أرجائها، وعاش في نواحيها، ودبّ على أكنافها، فتنفس هواءها، وشرب ماءها، ومشى على ترابها، وحنّ إلى أرضها، واشتاق إلى أهلها، وتضاريسها، وكل ما يذكّره بها، فالبيئة ذات ارتباط بمحل الإنسان، أو المحيط الذي يعيش فيه؛ ومن هنا كانت البيئة في معناها اللغوي تشير إلى المكان، أو المنزل؛ إذ اشتُقّتْ من الفعل (بَوّأ)، و(تَبَوّأ) أي: نزل وأقام، ومن ذلك أيضاً (التبوء) بمعنى التمكّن، والاستقرار.

والبيئة يصح أن تطلق على المنزل، أو الموضع الذي يجعله الإنسان منزلاً له؛ ليعيش فيه، وربما اتّسع مفهومها اللغوي؛ فصار متعلقاً بما يهواه المرء من داره، وما يحبه فيها، وقد ورد ذكر الفعل (بَوّأ)، والاسم (المبَوَّأ)، في القرآن الكريم، وذلك في قوله تعالى: «وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ»، وقوله تعالى: «وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ»، وقد ذكر بعض المفسرين أن المبّوَأ هنا هي المنازل، وذكر بعضهم أنها الشام، ومصر، والأردن، وفلسطين.

ولئن كانت البيئة شاملة لكل عوامل الطبيعة التي يتعامل معها الإنسان، فإن الأدب الذي هو تعبير إنساني، لا بد أن يكون متأثراً بتلك البيئة، ومؤثراً فيها، بل إن الأدب لا يمكنه أن يعلو ويسمو إلا حين يكون متحاوراً مع بيئته، ومتعاطياً معها، ومنطلقاً منها؛ ولهذا كان الشعراء والكتّاب منذ القديم يصدرون في إبداعهم من بيئاتهم المختلفة، فنجد المتأثر ببيئته الصحراوية البدوية، والمتأثر ببيئته الريفية، والمتأثر ببيئته العلمية، والمتأثر ببيئته الحضرية، كل بحسب بيئته؛ ومن هنا أصبحت البيئة جزءاً من الإنسان بحسب ميوله واهتماماته؛ ولهذا صاروا يطلقون على كل مجال بيئته، فيقولون: بيئة علمية، اجتماعية، ثقافية، اقتصادية، رياضية، سياسية، منطلقين من ذلك التأثر.

لقد انبعث الاهتمام بالأدب البيئي من قبل المهتمين بعلم البيئة المتقدم، حيث نشأت فكرة (الإيكولوجيا الأدبية) مع (جوزيف ميكر) في كتابه (كوميديا البقاء: دراسات في علم البيئة الأدبية) عام 1972م، ثم تبع ذلك صياغة مصطلح (النقد البيئي) في عام 1978م عن طريق (ويليام روكيرت) في مقالته (الأدب والبيئة: تجربة في النقد البيئي)، عندما قام بتحليل بعض الأعمال الأدبية لشعراء وكتّاب في سياق قضايا بيئية وطبيعية، وهو ما يعني أن الاهتمام بهذا الأدب ما زال في طور البداية، لكننا في الحقيقة على مستوى الأدب العربي لم نجد من قام بالتأسيس المصطلحي لهذا الأدب ونقده إلا على نحو ضئيل، إذ ما زال في مرحلة التبلور والبناء، على الرغم من كثرة الأعمال الأدبية (العربية والعالمية) التي تحرّض على مزيد من الدراسات العلمية في هذا التخصص الحيوي الجديد.

ويحسب للإخوة الأعزاء في (وحدة السرديات) بجامعة الملك سعود إسهامهم الفاعل في التأسيس لهذا الميدان، وذلك من خلال إصدار كتاب (النقد البيئي: مفاهيم وتطبيقات)، كما يحسب لمختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية اهتمامه مؤخراً بالنقد الإيكولوجي، ويعد كتاب (النقد البيئي: مقدمات، مقاربات، تطبيقات) من الكتب المؤسسة أيضاً، غير أن هذا المجال ما زال يتطلب إنتاجاً أغزر من قبل النقاد والباحثين والمهتمين.