في زيارته الخامسة للشرق الأوسط، بدا بلينكن كرجل إطفاء، أهمل لعقود حديقته، فتراكم العشب اليابس في أرجائها، ثم اشتعل. فراح الرجل يهرول في الأصقاع علّه يضبط الحرائق، وعلّه يتلافى أكبر نكسة في علاقات السياسة الأميركية في الإقليم بعد كل ذاك التقصير المدقع والتحيز الفادح. ليكتشف بلينكن، مرة أخرى، حقيقة أن العرب لن يشتروا السمك الأميركي في الماء، فكيف بالسمك الإسرائيلي الذي لم يولد بعد. وإذ يسمع العرب بلينكن في المنتدى الاقتصادي بالرياض: «على ما أعتقد، من المحتمل جداً، أن ينتهي العمل الذي تقوم به المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة لإنجاز اتفاقياتنا الخاصة قريباً جداً»، ولكن بعد ذلك ينبغي المضي قدماً في التطبيع، حيث ستكون هناك حاجة إلى أمرين: «الهدوء في غزة، ومسار موثوق به إلى دولة فلسطينية». فإنهم يطربون، ولكنهم ينتظرون الأفعال! لكنهم يدركون أن «أولئك الذين لا يستطيعون تذكر الماضي، محكوم عليهم بتكراره». والعرب يتذكرون الماضي جيداً!

لا تسمح تجارب العرب مع الدبلوماسية الأميركية، بالثقة المطلقة، ولا بالاحتفال المبكر! لكنهم يتركون الباب موارباً لبعض من الأمل المشوب بالكثير من الحذر والترقب! فهم يدركون مصلحتهم في سلم حقيقي لا يموّه، ولا يرقّع، ويفتح طريق الانفراج في الإقليم. فحتى لو صدقت النوايا، ندرك أن الوقت ليس حليفاً لهذه الإدارة، كيف لها أن تنجز ما تعد به؟ وهل يملك بلينكن حقيقة ما يعد به؟

فبعد حرب 1973، وجدت الدبلوماسية الأميركية نفسها في مأزق خطر مشابه، هدد مكانتها وعلاقاتها في الإقليم والعالم. ورغم ذلك سرعان ما صار المشهد احتفالياً: مؤتمر دولي في جنيف، وتوافق أميركي - سوفياتي، لتكتب «الأوبزرفر» البريطانية: «نجا الانفراج الأميركي - السوفياتي الجديد بشكل قاطع من ضغوط حرب الشرق الأوسط».

لكن، حقيقة الأمر، أن أياً من كيسنجر، وغروميكو، لم يكونا مهتمين بسلام مستدام في الشرق الأوسط. بل، يقول كيسنجر في مذكراته: «إنها الخطوة المنطقية في ظل تمسك إسرائيل بالأراضي»... فكان من الضروري السعي «لتجميع مؤتمر متعدد الأطراف، لكن هدفنا كان استخدامه كإطار لدبلوماسية ثنائية بشكل أساسي». وبالفعل، بعد ساعات من الخطب والاحتفالات في جنيف، تأجل المؤتمر!

في حينه، ومثلما يتحدث الأميركيون اليوم، تحدث صانعو السياسة الأميركيون «بغضب» عن تعنت وتعسف الحكومة الإسرائيلية، بل اعتبر كيسنجر، وهو الذي فقد العديد من أفراد عائلته في المحرقة، «أن إسرائيل مصدر قلق شخصي»، ووصف قادة إسرائيل بأنهم «أشرار» و«أوغاد». وتساءل: «عما إذا كانت أمة من ثلاثة ملايين يهودي يمكنها الاحتفاظ بأمن الولايات المتحدة والعالم في أيديهم». بل، وصف مواقف بعض القادة الإسرائيليين، بأنها «غادرة، وتافهة، وخادعة - لم يعاملونا كحلفاء». وأخبر نيكسون حكومته، أنه يجب ألا «تكون للولايات المتحدة سياسات... تسمح لهوس دولة واحدة (قاصداً إسرائيل) بتدمير وضعنا في الشرق الأوسط». لكن ذلك ما لبث أن صار هباءً منثوراً. بل يذكر العرب أيضاً، تعهد جورج بوش للرياض 2008، بوعد تاريخي بدعم حصول المملكة على تقنيات الطاقة النووية المدنية.

وفي المشهد الراهن في الشرق الأوسط، حيث تتحرك الكثير من الأجزاء ويفخخ المعرقلون كل الساحات، تبدو محاولة بلينكن ربط التوافقات الأميركية - السعودية، بالعلاقات مع إسرائيل والتزام إسرائيل بحل الدولتين، كمن يبيع السمك في الماء. في حين يستمر بعض نواب الكونغرس بالتهديد بقطع الطريق على الاتفاق الأميركي - السعودي.

ثم من قال إن العرب يمكن أن يشتروا السمك الإسرائيلي الذي يبيعه بلينكن حتى قبل أن يولد؟

وإذ يصغي العرب لتبجح رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بقدرته على «التطبيع مع دول الخليج الأخرى من دون أي تنازلات»، فإنهم يلاحظون ببساطة أن نتنياهو لا يعارض بقوة أي أفق يفضي لحل الدولتين مراعاة للمتطرفين اليمينيين في حكومته، بل إنه يستقوي بهم وينتمي إليهم، ويقودهم.

ثم، حتى لو قبل نتنياهو شكلياً بوقف إطلاق النار وبأفق محتمل لحل الدولتين، لا يوحي الواقع السياسي المهتز في إسرائيل، بأي ثقة بالتوصل لحكومة قوية تكون جاهزة لسلام إقليمي حقيقي قريب. بل يتطلب الأمر كثيراً من شطح الخيال، حتى نتصور حملة انتخابية في إسرائيل، شعارها «يجب ألا نهدر فرصة التطبيع مع العرب، مقابل إقامة دولة فلسطينية».

فبعد أن أدخلت القيادات الإسرائيلية نفسها في مستنقع غزة، وطاش حجرها بعيداً عن أي منطق، يدرك العرب، أن إدارة بايدن غير قادرة على أن تهبط، بين عشية وضحاها، بتسوية من السماء فوق حطام وأطلال غزة.

أمام هذا الواقع الإسرائيلي البائس والمهتز، تهتز بدورها الافتراضات الأميركية. فالحديث عن اعتراف العواصم الغربية رسمياً بالدولة الفلسطينية، يبدو مجرد تطييب رمزي للخواطر، لا يفيد إلا في التهرب من الإجابة عن الأسئلة الجوهرية: «وماذا عن الاحتلال؟ وماذا عن نصف مليون إسرائيلي في الضفة الغربية؟ وماذا عن القدس؟» لا يبدو أن الحكومة الإسرائيلية الراهنة ولا المقبلة ستكون جاهزة بحق لإنهاء احتلال.

للمضي قدماً، تتطلع المملكة العربية السعودية لخطة استراتيجية بديلة تتجاوز المستنقع الإسرائيلي، وتركز على التعاون الدفاعي، والنووي والتقني العالي، في سياق حزمة من الاتفاقيات الإطارية تصوغ مستقبل العلاقة بينها وبين الولايات المتحدة، وتحمل التزامات أمنية أميركية واضحة، وتعترف بالمصالح الأمنية الاستراتيجية للمملكة، وبحقها وطموحها في التطور والنمو المستقل على الصعيد الاجتماعي والتقني والتكنولوجي.

لا يحتاج العرب لشهادة بالتزامهم بمبادئ عملية السلام المنصف. فلقد قدموا في كل مراحل الصراع مبادرات عديدة ومهولة تعكس التزامهم بالسلام وتفهمهم لمخاوف الأطراف الأخرى. وحين تبلورت المبادرة العربية التي قدمها الملك عبد الله في قمة بيروت 2002، والتي أعيد طرحها في 2005، لم تكلف إسرائيل نفسها عناء تقديم أي مبادرة مقابلة، بل راهنت على النخر في جسد الحل بالتقسيط، وفي بنية العرب والفلسطينيين، حتى تصبح كل الحلول مستحيلة. ومن جهتها لم تكلف الدبلوماسية الأميركية نفسها، أي جهد للاستثمار في هذه الفرصة التاريخية.

طبيعي، أن يستنتج العرب أن الخيط الجامع للسياسات الأميركية، هو الفشل في مقاربة متكاملة لحل الدولتين، وانقطاع نفسها المتكرر لحظة الحاجة الفعلية للضغط على إسرائيل.

في ثقافتنا العربية: «لا نقول فول حتى يصير في المكيول». لذلك يبقى السؤال، هل استفادت الولايات المتحدة هذه المرة من مأزقها الإقليمي العميق، ومن الورطة التي جرها إليها نتنياهو؟ سنرى!