العمالة الوافدة قضية مؤرقة لشعوب وأنظمة الحكم في الخليج العربي منذ نهاية السبعينيات من القرن المنصرم. لا زلت أتذكر التحذيرات التي وجهتها الأمم المتحدة الى حكومات دول الخليج في تلك الفترة من مغبة الافراط في استقدام العمالة الوافدة غير العربية، والتي اوجزتها في ثلاثة مخاطر رئيسية:
تدخل الدول المصدرة لهذه العمالة في الشؤون الداخلية لدول الخليج بحجة حماية حقوق ومصالح مواطنيها.
مطالبة الدول المصدرة للعمالة دول الخليج بمنح الجنسية لأغلبية هذه العمالة كونها استقرت في المنطقة فترة طويلة وانقطعت صلتها الى حد كبير ببلدانها الاصلية.
التأثير السلبي الخطير لهذه العمالة في الهوية الدينية والثقافية والفكرية والاجتماعية لدول الخليج.
وقد حثت الأمم المتحدة دول الخليج وقتها على استقدام العمالة العربية لتفادي المخاطر المشار اليها، ولمساعدة الدول العربية ذات الكثافة السكانية العالية على خفض معدل البطالة فيها، غير ان أصحاب القرار – للأسف الشديد – لم يصغوا الى تلك التحذيرات التي ثبت صحتها على ارض الواقع.
لنحتكم الآن الى لغة الأرقام، ونرى ما تكشف عنه الاحصائيات الرسمية وغير الرسمية لعام 2015م:
بلغ عدد السكان في الدول الخليجية الست 47.5 مليون شخص، وعدد العمالة الوافدة قرابة 17 مليون عامل (حوالي 36% من عدد السكان)، وبلغ مجموع تحويلاتهم المالية حوالي 80 مليار دولار سنويا "بعض المصادر تقدر التحويلات بحوالي 100 مليار"، موزعة كالاتي:
عدد السكان في السعودية بلغ 29.56 مليون شخص (العمالة الوافدة 9 مليون أي 30%)، ومبلغ التحويلات حوالي 35 مليار دولار.
دولة الإمارات 6.44 مليون شخص (العمالة الوافدة 4 مليون أي 62%)، ومبلغ التحويلات 16 مليار دولار. الكويت 4.40 مليون شخص (العمالة الوافدة 1.5 مليون أي 34%)، ومبلغ التحويلات 12 مليار دولار.
عمان 3.32 مليون شخص (العمالة الوافدة 0.9 مليون أي 27%)، ومبلغ التحويلات 7.5 مليار دولار.
قطر 2.33 مليون شخص (العمالة الوافدة 1.1 مليون أي 47%)، ومبلغ التحويلات 8 مليار دولار.
البحرين 1.45 مليون شخص (العمالة الوافدة 0.6 مليون أي 41%)، ومبلغ التحويلات 1.5 مليار دولار.
اما نسبة العمالة الوافدة مقابل العمالة الوطنية فهي كالاتي: السعودية ما بين 40 الى 50%. دولة الامارات تصل الى 90%. الكويت تتجاوز الـ 60% بقليل. عمان حوالي 30%. قطر 85%، والبحرين قريبا من الـ 60%.
ويرتفع العدد الكلي للأجانب الى حوالي 23 مليون شخص او أكثر بعد إضافة افراد أسر العمالة الوافدة، مما يعني تشكيلهم قرابة نصف عدد السكان في دول الخليج. هذه الأرقام والنسب (المخيفة والتي تنذر بكارثة) تقديرية كما تصفها المصادر المأخوذة منها، اما الأرقام والنسب الحقيقية فلا تعرفها إلا الجهات الرسمية في كل دولة خليجية، وهذه الجهات – للأسف الشديد – لن تعلن الأرقام والنسب الحقيقية خوفا من ردود الفعل الشعبية. كذلك تقدر المؤشرات الحالية ان عدد العمالة الوافدة سيتجاوز الـ 30 مليون شخص بحلول عام 2025م.
لم تقتصر العمالة الوافدة، وخصوصا العمالة الهندية والباكستانية على العمال فقط، بل شملت مهنيين ومتخصصين في مجالات عدة، ومجوعة من التجار على مستويات مختلفة. وقد تمكنت شرائح واسعة من هؤلاء من إحكام سيطرتهم على الكثير من المؤسسات الاقتصادية والمالية، فهم حاليا الرؤساء التنفيذيون لبعض البنوك والمؤسسات المالية وشركات التأمين، وهم كذلك كبار التجار المسيطرون على تجارة الأغذية والتجزئة والإلكترونيات والملابس، إضافة الى التملك العقاري بعد ان سمحت لهم مؤخرا بعض دول الخليج.
هذا على الجانب المالي والاقتصادي حيث يستنزفون الكثير من أموال هذه الدول، ويتحكمون في بعض القطاعات الاقتصادية الحيوية ويزاحمون المواطنين على الوظائف العليا والمتوسطة، اما على الجوانب السياسية والاجتماعية والثقافية فإن لهذه العمالة آثارا بالغة الخطورة على منطقة الخليج العربي لكونها تنتمي الى ثقافات ومجتمعات مختلفة، مما يؤدي حتما الى إيجاد تشوهات ثقافية واجتماعية تترك اثرا بعيد المدى في مجتمعات المنطقة. وان التفوق الديموغرافي للجاليات الأجنبية يشكل خطرا على الأمن القومي العربي – ليس على دول الخليج وحدها – بل على الدول العربية جمعاء.
في العام 2005م، كنت في زيارة لإحدى دول الخليج ذات العمالة الوافدة العالية جدا فأخبرني أحد المقيمين من الاخوة العرب المهتمين بهذا الشأن ان ممثلي إحدى الجاليات الآسيوية الكبيرة المستقرة في تلك البلد منذ فترة طويلة، بعثوا بخطاب الى الأمين العام للأمم المتحدة وقتها "كوفي عنان" يطالبونه بالتدخل لدى الجهات السياسية لمنحهم الجنسية بحجة انهم من بنوا تلك البلد واستثمروا جل أموالهم فيه.
وما يعزز من صحة ذلك الخبر ما بدأت تثيره - وقتها - المنظمات الدولية بشأن الوضع القانوني لهذه العمالة الوافدة ومستقبلها، واعتبارها عمالة مهاجرة وليس عمالة وافدة مقابل اجر محدد ومعروف والى اجل معلوم. ولعل هذا من الأسباب التي شجعت الكثير من العمالة الوافدة، بين الحين والآخر، على العصيان والاضراب عن العمل، وممارسة العنف والتخريب ضد الأملاك العامة والخاصة في بعض الدول الخليجية.
رغم ان دول مجلس التعاون لم تنضم الى الاتفاقية الدولية لحماية حقوق العمال الوافدين وأسرهم التي أصدرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1991م، او مجموعة الاتفاقيات الصادرة في إطار منظمة العمل الدولية، والتي أصبحت جزءا من العرف والقانون الدولي، إلا ان مخاوف دول الخليج تزداد يوميا مع ما يطرح من إمكانية تعرضها لضغوط لتوطين 17 مليون أجنبي من العمالة الأجنبية وفق ما تنادي به المنظمات الدولية في إطار سعيها لتحقيق العولمة في مجال الموارد البشرية وتوطين العمالة التي يعتبرونها مهاجرة.
ومن هنا، يمكن القول بأن تحديات العمالة الوافدة تمثل مخاطر حقيقية ذات أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية وإنسانية ودولية، ولا يكفي معها التأمل في لغة الأرقام رغم اهميتها، وإنما أخذ كل هذه الأبعاد معا في التقييم، وتبني الحلول الواقعية وسرعة التنفيذ. ومن هذا المنطلق، وفي ظل بيئة خليجية تعاني من قلة السكان وضخامة الثروات وزيادة الأطماع الخارجية، ليس من المبالغة القول إن العمالة الوافدة وما يرتبط بها من خلل في التركيبة السكانية أصبحت تمثل قضية أمن قومي خليجي وعربي.
آخر الكلام: قبل حوالي خمس سنوات، تحدثت مع وكيل وزارة التجارة في احدى دول الخليج عن العولمة وأثرها على دولنا وخصوصا فيما يتعلق بحقوق العمالة الوافدة. قال لي ان الدول الاوروبية اخذت احتياطاتها في هذا الشأن منذ فترة طويلة، عندما قامت بتعديل قوانينها حيث ألزمت المؤسسات والشركات التي تستقدم عمالة اجنبية ان يكون عقد العمل مع الأجنبي (بغض النظر عن الوظيفة – أي طبيعة العمل) لمدة عامين فقط غير قابلة للتمديد، يعود بعدها العامل لوطنه. وإذا رغب الطرفان في مواصلة العلاقة بينهما، يدخلون في عقد عمل جديد لمدة عامين من دون الاشارة الى العقد السابق، وهكذا دواليك، بحيث لا تترتب على الدولة المضيفة أية التزامات قانونية تتعلق بحقوق الانسان وغيرها من الحقوق تجاه العمالة الوافدة.
وعندما سألته: ماذا فعلتم لحماية دولتكم؟ قال: قمنا بواجبنا حيث اعددنا تقريرا مفصلا ذكرنا فيه الحقوق والالتزامات والمخاطر، وكيفية التعامل معها ومعالجتها. سألته: هل تم اتخاذ الخطوات اللازمة لتنفيذ توصياتكم؟ ابتسم، وقال بأسف شديد: لا يزال التقرير نائما في ادراج كبار المسؤولين التفيذيين.
التعليقات