يطل هذا اليوم لتتداعي الخواطر عن وضع المرأة ومكانتها تاريخاً وجغرافيةً وذكريات. وليس هنا مجال استعراض مسيرة المرأة والمتحررين من المفكرين والساسة في العالم عبر القرون، ولا سيما منذ الثورات الفرنسية والبريطانية والأمريكية. والثورة البلشفية نفسها، ورغم انتهاكات ستالين، قفزت بوضع المرأة السوفياتية اشواطا كبرى للإمام. ولا يتسع المجال ايضا لتناول مسيرة القضية في العالمين العربي والإسلامي، منذ النهضة العربية الحديثة والى اليوم. ولكن ما يجب ذكره هنا هو التراجع الحاد في وضع المرأة المسلمة والعربية، بسبب صعود التيارات الدينية المتزمتة والمتطرفة، وانتشار الجهل وعادات التخلف العشائري في دول عديدة..
في هذا اليوم نحيي المرأة في كل مكان... ونتوقف لدى المرأة العراقية، في تقدم اوضاعها وتراجعها.. ويحدثنا علي الوردي كيف كانت النظرة الدونية للمرأة سائدة في القرن 19، ولحد تحريم وتكفير تعليم المرأة... وعندما وافق العثمانيون قبل الحرب العالمية الاولى على انشاء اول مدرسة بنات في بغداد،اجتمع مجلس المحافظة مع البغداديون، وتركز النقاش على مكان المبنى،حيث أنه يجب ان يبنى في مكان عالٍ، ولا يطل على ابنية اخرى، ولا مبنى يطل عليه. وبعد نقاش طويل قال الشاعر الظريف جميل الزهاوي :
(لم يبق ايها السادة إلاّ ان نبني المدرسة فوق منارة سوق الغزل)
وفي العهد الملكي وحتى السبعينيات الماضية، كانت المرأة العراقية قد قطعت اشواطا هامة في طريق التحرر من القيود الاعتباطية وأشكال ألتمييز،ومنذ اوائل سنوات العهد الملكي برزت الناشطات الواعيات وظهرت الصحافة والنوادي النسائية في تحد لميراث ثقيل متراكم من سوء الظن والاحتقار والتمييز على مدى اجيال بعد اجيال من سيادة التخلف والظلام. وطريف ومفيد، حقا هنا ما يرويه لنا الفقيد جعفر الخليلي وهو يكتب عن الشخصية النسائية اللامعة صبيحة الشيخ داوود، حين تقرر عام 1922 عقد مهرجان بعنوان سوق عكاظ، وكان مطلوبا البحث عن فتاة تمثل دور الشاعرة الخنساء وهي راكبة الجمل. وقد وقع اختيار لجنة المهرجان على الفتاة الصغيرة (اقل من العاشرة) صبيحة ابنة احد كبار اعيان بغداد، الشيخ احمد الداوود،وافقت البنت، ووافق الاب والأم ولكن تتالت وفود المحافظين على الشيخ لتثنيه عن اقتراف ما اعتبروه كشفا لعورة لا يجوز كشفها للناس. وكانت الحضرية لا تكتفي بعباءة واحدة انما تلف نفسها بعباءتين في حجاب كثيف. الشيخ اصر على موقفه وطرح الامر على الملك فيصل الاول فأقر المشروع، وتم تنفيذه. وكان لذلك وقع ودوي بين اوساط قوى التزمت في مختلف انحاء العراق، وهي القوى التي كانت تحرم تعليم المرأة، وإذا كان المجتمع يتعامل مع المرأة بكل قسوة، انما، ومن جهة اخرى، فان المهرجان كان له تأثير معاكس مضاد لقوى التزمت الظلام وساهم في تشجيع الحركة النسائية.
ان الحركة النسائية العراقية شهدت تطورات هامة، عقدا بعد عقد، لاسيما منذ اواسط الثلاثينيات. وبرزت العشرات والعشرات من الشخصيات النسائية اللواتي لعبن ادوارا مهمة في مختلف نواحي الحياة العامة، مربيات ومحاميات وقاضيات ورسامات وطبيبات وممثلات وشاعرات وقصاصات وناشطات سياسيات وغيرهن. وكان أستيزار القيادية الشيوعية الفقيدة نزيهة الدليمي في عهد عبد الكريم قاسم احد اهم الاحداث الاجتماعية والسياسية، لا في العراق وحسب، بل وعلى النطاق العربي كله، ولاسيما وقد اقترن بصدور القانون المدني الجريء للأحوال الشخصية، وهو القانون الذي لم يقدم لا عبد السلام عارف ولا صدام على اجتثاثه، ولكنه اجتث في عهد هيمنة الاحزاب الاسلامية على مقاليد البلاد، أي في عهد الديمقراطية الجديدة الزاهرة ! ! ! !
في العقدين الاخيرين من العهد البعثي، خصوصا في العقد الاخير منه، تعرضت مكاسب المرأة الكبرى الى انتكاسات بسبب الحروب وزيادة عدد الأرامل وبسبب اعمال القمع والمقابر الجماعية، والحملة الايمانية إياها التي شهدت قيودا على حرية المرأة وأعمالا عدوانية عليها لحد القتل بالسيوف القاطعة والضخمة، وتعليق الرؤوس على واجهات المنازل. ولا ننسى ما جرى قبل ذلك من عمليات تهجير للكورد الفيلية وتفريق الزوج عن زوجته.
بدلاً من تصحيح تلك الخطايا ومعالجة آثار الانتهاكات والجرائم بحق المرأة، والعراقيين عموما، تبارى الاسلاميون في العراق، من شيعة ومن سنة، في ملاحقة النساء وفرض الحجاب عليها، تحت الضغط وبالأوامر،حتى على المسيحيات وعلى الصغيرات. وفرض الوزراء الاسلاميون في وزارة التربية والتعليم العالي سلسلة من الاجراءات باسم الفضيلة والحشمة، ومنها منع اختلاط جنسي الموظفين وانفراد الاستاذة بالطلبة. وبينما كانت الطالبات في الماضي، كما يروي القشطيني، يصفقن للطالبة التي ترمي عباءتها عند باب الكلية وتدخل سافرة، قد صار الامر معكوسا اليوم. ففي الجامعات جرى تنظيم مهرجانات سباق (الشموس) والشموس هن الطالبات اللواتي يأتين المسابقة لابسات أكثر حجاب كثافة فوق كثافة. وقد دهشت حين رأيت صور عرائس عراقيات لابسات النقاب، بعد ان نبذت المرأة العراقية النقاب(البوشي) في اوائل الثلاثينيات. والأدهى ان في برلماننا العتيد فريقا من نائباتنا المبجلات اللواتي يعتبرن الرجال قواما على المرأة. وقد تحمسن لفرض احكام الشريعة في الاحوال المدنية وغيرها من نواحي الحياة، وما يعنيه من تعدد الزوجات وتزويج القاصرة وخطبة الطفلة والجلد والرجم. والهجمة الاسلاموية على مكتسبات المرأة نشهدها ايضا في بلدان ما يعرف بالربيع العربي، الذي هو ربيع للتطرف والتعصب والكراهية وشتاء للمجتمع، ولا سيما للمرأة والحريات الشخصية والدينية.فالسلفيون والإسلام السياسي والإرهابيون باسم الاسلام هم الاعداء الالداء للمرأة وللديمقراطية وحقوق الانسان وللحضارة والتقدم.
ومع ان المرأة الكردستانية كانت دوما معروفة بقوة الشخصية والتحرر المعقول، فان نشاط الاسلاميين الاكراد، مقرونا بالأعراف العشائرية المستفحلة والتراخي تجاهها، أدى لظاهرة رهيبة منذ سنوات، وهي ظاهرة انتحار المرأة حرقا، او ما يسمى انتحاراً، وهو غالبا إجبار على الانتحار من الاهل او جريمة قتل بأسم الشرف والفضيلة. وانه مما يلوث التجربة الفيدرالية هذه الموجة الظلامية التي تتعرض لها النساء في الاقليم.
في يوم المرأة العالمي تجب ان تدان مجدداً وبقوة الجرائم التي تعرضت لها النساء في العراق، على ايدي القوى الطائفية و داعش، وفي المقدمة ما حل بالمرأة الايزيدية والمرأة المسيحية، وما جلبته الطائفية والفساد والفقر من ماسي متراكمة، عانت منها المرأة العراقية، كما عانى منها الرجل...
ونحيّ الصامدات في وجه قوى الرجعية والعنف والفساد من نساء ورجال،وقوى علمانية ديمقراطية، نأمل ان تفلح هذه القوى في رص صفوفها وشحذ ارادة النضال من اجل عراق ديمقراطي علماني، يكون للمرأة فيه دور هام... وألف تحية للمرأة العراقية.
التعليقات