عندما يسألوننا بعض الأشقاء العرب في البلدان العربية عن حال البلاد والعباد في العراق، يعلمون مسبقاً أن هذا البلد يعيش منذ حوالي عقد و نيف صراعات طائفية عنيفة، ويعرفون أن الإرهاب والعنف، إن كان من طرف "داعش"، أو الميليشيات المسلحة أو حتى أجهزة الدولة نفسها!، بات، هو الآخر، يغذي وبشكل فضيع، كل منابع الفتن ويدمر بلا رحمة كل مقومات الإستقرار والسلام والتعايش.

ولا مراء من أن هذا الواقع الأليم والمحسوس، هو في النهاية لا يعني لنا ولا لمن يُراقب العملية السياسية بمنظور نقدي، سوى حقيقة دامغة، وهي، إن هذا البلد، وبجملة، يبقى معدوم الأمل بحاضره ومستقبله طالما بقيت القوى السياسية الراهنة، المُتَحَكِمة بمصير البلد، قوى طائفية مُخادعة، و زُمر مُتاجرة بمشاعر المكونات و دماء الأبرياء، وجماعات غير وطنية بل متمسكة وبإعتزاز بلاوطنيتها!، أو طالما ظلت النخبة الحاكمة، قائمة على روح الإستقواء بالخارج و غير مُجيدة لأي لغة أخرى سوى لغة العمالة والعمل وفق الإملاءآت الإقليمية ومواصلة تعزيز المواقع الطائفية والحزبية على حساب إستقلالية البلد وسيادته و إرادة شعبه.

نعم، الأشقاء والزملاء في العالم العربي، عندما يسألوننا عن حال البلد يعون كل ذلك جيداً، ويعرفون أن العراق في محنة، والفضل في معرفتهم هذه راجع الى هذه الحضارة الشفافة التي نعيش فيها!، والتي تَحَوَل معها العالم إتصالياً وتكنولوجياً الى قرية كونية كما كان يقول مارشال ماكلوهان (1911-1980م)، ولهذا السبب نجد أن هؤلآء الأشقاء، متعطشين أكثر لسماع ما هو جديد عنّا وليس ما هو مألوف بالنسبة لهم، أو معرفة كل يبعث على الخير والتفاؤل أو يمثل معطيات وإشارات يمكن التعويل عليها لإجتياز محنة البلد و ويلاته أو إنهاء صراعاته و نزاعاته.

والسؤال عن هذا الأمر، بطبيعة الحال، يُعد سؤالاً محرجاً لكل إنسان عراقي، ولاشك أن على هذا الأخير أن يفكر أكثر من مرة حتى يستحضر أمثلة، أو يأتي بمواقف، أو مستجدات تبعث على الأمل وتخفف من وطأة الواقع الموغل في قسوته واليأس الكبير الذي يعيشه البلد، ولكن مع ذلك، تبق هناك أمور مُشجعة، أو أشياء منسية نتذكرها ونبرزها إيماناً منا بنهاية المآسي ومجيء الفرج يوماً ما.. وعندما كنت أواجه في كل مرة وعلى الصعيد الشخصي أسئلة مربكة من هذا القبيل، كنت أتشبث دوماً ومن رؤية واقعية وعقلانية بذكر أهم الأمور، والذي يتمثل، في نظري، في أمر التعايش، أعني التعايش بين الكُرد والعرب في العراق والمكونات الأخرى، و دور هذا المُقَوّم والعنصر الحاسم في إعادة بناء البلد و مواجهة التحديات و الصعوبات التي تعصف عليه.

كنت أشير للأخوان الى أمثلة عديدة، مثلاً: رؤية قوى كردية و عربية مُنتَخَبة وغيرها وهي تجتمع اليوم معاً تحت قبة برمان واحد هو برلمان العراق، و مشاهدة صور القوات الكردية (Peshmarga) في الإقليم والقوات العراقية، جنباً الى جنب، لمحاربة الداعش و التصدي للإرهاب.

كنت أذكر لهم نماذج من أفضال العراق الجديد الساري نحو قبول أبنائها لبعضها البعض وإستعاب عناصر سياسية غير عربية على رأس السلطة في العراق تَعِدُ بالإلتزام بدستور البلاد والحفاظ على وحدة العباد.. وأُذَكِرُهم بحضور قيادات كردية في الحكومة و نواب كُرد في البرلمان يجمع تاريخ من التضحية والنضال المشترك شعبهم الكردي مع الشيعة في العراق، ومع السُنة رباط المذهب والجغرافيا، الأمر الذي يجعل الكرد وقياداتهم في العراق أن يكونوا دوماً وسطاء بين المتخاصمين وصلحاء في أمر التعاطي مع الخلافات والفتن.

كنت أشير لهم مثلاً الى تجربة "جلال الطالباني" في رئاسة الجمهورية ومساعيه كرجل الدولة بإمتياز لتوحيد الفرقاء ودعوتهم للإعتصام بحبل الله والعودة الى طاولة الحوار الوطني والإجماع والإجتماع.. كنت أذكر مثال إحتضان كردستان العراق لمئات الآلاف من النازحين العرب والتركمان والكلدو آشور، الذين فروا من ديارهم نتيجة سقوط مناطقهم وإحتلالها من قبل داعش، فضلاً عن ظاهرة التطهير الطائفي/المذهبي الذي يُمارس بحقهم، بينما وجدوا، بعكس هذه الصورة القاتمة للبلد، المتمثلة في الطائفية المقيتة، كل الإستقبال والمأوى والحماية في أرض كردستان بل الدعم والعون والإغاثة.. كما كنت أستدل على التعايش والرحمة بين الكُرد والمكونات الأخرى من خلال مثال خدمات أحد أكبر المستشفيات الخاصة بعلاج مرض السرطان في الأقليم والتي تعالج فيها سنوياً آلاف الناس من أبناء وسط وجنوب العراق من العرب و التركمان والمسيحيين من دون أي مقابل و بخدمات نوعية قل نظيرها في منطقتنا منطقة الشرق الأوسط.

وعلى رأس كل ذلك، كنت أذكر لهم دوماً مثال العلم العراقي الذي يرفف في المدن الكردستانية في الوقت الذي يعرف القاصي و الداني أن حوالي ربع من سكان كردستان العراق أبيد إبادة جماعية وبأبشع الصور تحت ظل هذا العلم! في عهد النظام البائد (1968-2003م)، لاسيما في حملات الأنفال وقصف مدينة حلبجة (1988م) بالأسلحة الفتاكة المحظورة دولياً..!

هذا بالإضافة الى ذكر حتى أمثلة غريبة و لافتة لهم، تكفي للدلالة على روح التسامح لدى الكرد في العراق وإبتعاد أبنائه عن عقلية الثأر والإنتقام و تأثير ذلك في الرهان على بناء العراق مجدداً، عراق يقوم على مباديء التعايش والشراكة.. ومن بين الأمثلة تلك، أشرت الى مثال: توديع أهالي كردستان لضباط وجنود الجيش العراقي بكل إحترام وتقدير عندما كانوا يقعون في الأسر في الإشتباكات، أو يسلمون أنفسهم للقوات البيشمركة الكردية ويتم الإفراج عنهم إبان إنتفاضة عام (1991م) رغم علمهم المسبق بأنهم من الجيش الذي قتل مئات الآلاف من أبناء كردستان و دمر الآلاف والقرى والقصبات..!

بمعنى آخر، كان في جعبتنا نحن الكرد دوماً الكثير من الأمثلة الجميلة لنجيب بها على أسئلة محرجة بخصوص الحالة العراقية، و كنا دوماً نقول لكل سائل عن مستقبل العراق الجديد وبصراحة: إذا كان أي إتفاق أو إجماع عراقي يقضي الإتفاق على نهاية الإستبداد والدكتاتورية وفتح صفحة جديدة للتعايش والشراكة والديمقراطية وحكم الدستور، فعنئذٍِ سيكون الكُرد الطرف الأول والمكون الأساسي في دعم أي مشروع يتوخى بناء العراق الموحد والإتحادي كما هو منصوص عليه في الدستور، أما إذا كان الأمر على غير ذلك، أي أُجهِضَت الإتفاقيات والتفاهمات والبنود الدستورية وظل كلها مجرد حبراً على الورق، أو عُدنا ثانية الى ما كان يمارسها النظام البائد بحق الكُرد، فعندئذٍ سينتهي- بالنسبة لنا- كل شيء، وربما سينهار معه العراق آجلاً أم عاجلاً!، الأمر الذي يستوجب على الجميع أخذه بعين الإعتبار والعمل على تجنيب البلد المزيد من الفتن القومية علاوةً على الخلافات الطائفية القائمة والحرب مع الإرهاب والأزمات السياسية و الإقتصادية التي يعيشها البلد.

نعم كنا ومازالنا نقول هذا و نؤكد عليه، ونعرف تماماً بأننا صُدمنا في أكثر من مرة بما واجهناه من مواقف قومجية في هذا البلد الذي أُسقِط فيه ديكتاتور لتحل محله العشرات!، تفاجئنا بأن الأمور لم تتغير بل الحال صار أسوأ مما كان عليه في عهد صدام في أكثر وجه.. فقد تبين لنا تدريجياً أن عبارة العراق (الجديد) و العراق (الديمقراطي!) في ظل النخبة الحاكمة، هو ليس إلا ضرب من الوهم، بل هو الوهم الكبير، و أن التوافق والشراكة في العملية السياسية هي مجرد شعارات و خطابات مخادعة تفتقر للحد الأدنى من المصداقية، كما تبين أن زوال نظام ديكتاتوري لا يعني بالضرورة ولادة نظام ديمقراطي.

وتبين أيضاً أن كل القضايا المركزية للكُرد في العراق هي هي، دون أن يطرأ عليها أي تغيير أو تطور حقيقي يتم الإقرار به من قبل ما كُنا نتوهم بأنهم شركائنا في البلد!، وإذا كانت أهم أكبر القضايا للكرد هي قضية كركوك، التي عالجتها المادة (140) من الدستور العراقي الدائم، فقد صارت هي الأخرى في مهب الريح في ظل تجار الحروب وصناع الفتن، ذلك لأن الحكومات العراقية ما بعد البعثية، هي الأخرى و على نهج النظام البائد، لا تريد إطلاقاً أن تُنَفذ المواد الدستورية المعنية بهذه القضية و لايُعالَج أي ملف من الملفات العالقة بينها و بين إقليم كردستان، هذا فضلاً عن الإتفاق الأخير لـ(شركائنا!) تحت قبة البرلمان، على رفض حتى الرموز المرتبطة بإرادة أهالي مدينة كمدينة كركوك، التي لولا القوات البيشمركة وتضحياتها ودمائها بالمئات بل الآلاف لكانت اليوم ضمن المدن العراقية المُحتلة من قبل داعش و ذبحت فيها اللآلاف من العرب و التركمان كما كان الحال و ماتزال في الموصل و بعض المناطق الأخرى.

من السخف للأسف أن نرى و نقرأ في وسائل الإعلام أن عرب و تركمن كركوك في البرلمان يصرحون ويقولون: نفتخر كممثلين لمحافظة كركوك بإنزال علم إقليم كردستان في المدينة بينما هم مازالوا على قيد الحياة بفضل من حارب داعش والإرهاب تحت ذلك العلم!، من العار أن تصل الشوفينية والقومجية لحد الخشية حتى من الرموز في الوقت الذي يمثل هذا الرمز، أي علم كردستان، ليس المكون الكردي فحسب وإنما كافة مكونات إقليم كردستان بعربه وتركمانية و الكلدوآشور و الأقليات الأخرى.. 
بعبارة أخرى، أن ما رأيناه في مجلس النواب العراقي بحق كركوك و علم كردستان و ما سمعناه من تصريحات قومجية من قبل بعض العناصر في الكتل العربية و التركمانية حول هذا المُستجد، سيسبب في توتير الأوضاع مجدداً و يستهدف مباشرةً أواصر الأخوة والتعايش و يؤدي الى المزيد من الفتنة، و كل هذا يكفي لأن يحول البلد ثانيةً الى حافة الهاوية وأن يخربه شيئاً فشيئاً..

كاتب و باحث – من كردستان العراق.