مر اقليم كردستان العراق بأحداث تراجيدية في تاريخه الحديث الممتد الى قرن منذ بداية نشوب الحرب العالمية الاولى، وبسبب ارتباط المناطق والمدن الكردية بولاية الموصل لم تقدر على تشكيل ولاية مستقلة خاصة فبقيت ضمن مكونات احدى ولايات الدولة العثمانية التي امتدت الى مساحة واسعة بين اسيا وافريقيا واوربا، وعند اندحار دولة السلطان عبدالحميد العثماني تحولت كل المناطق التابعة الى سيطرة دول التحالف بريطانيا وفرنسا، وحسب المصالح المرعية لهما تم تقسيم ارث الدولة المنهارة الى دول عديدة حسب اتفاقيات سيفر ولوزان، حيث خرج العرب منها بحصة كبيرة، وخرج الترك منها بدولة علمانية حديثة، وخرجت شعوب البلقان الاوربية بكيانات شبه مستقلة، ولكن الامة الوحيدة التي خرجت منها خالي الوفاض هي الامة الكردية، حيث تم توزيعها مع مناطقها الجغرافية على تركيا والعراق وسوريا مع بقاء منطقة كردستان ايران على حالها لانها لم تكن ضمن التركة العثمانية.
ومع بدايات التوزيع السكاني والجغرافي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي للقومية والهوية الكردية في بدايات القرن الماضي وتوزيعها على ثلاث قوميات تركية وفارسية وعربية وهي مختلفة عن بعضها هوية وثقافة، بانت النوايا الحقيقية للتقسيم لدى بريطانيا الاستعمارية وفرنسا الافرنجية وتركيا الشوفينية، وهي صهر الكرد كليا داخل بودقة القوميات الحاكمة المستبدة في المنطقة، واجبار الامة الكردية المقسمة ووطنها كردستان المجزأة على الانصهار مع تلك الثقافات المفروضة عليها لاسباب ودوافع ونوايا عنصرية وسياسية واقليمية ودولية، وعلى ما يفسر كان ذلك خوفا من توحد الكرد وسيطرتهم على اهم منطقة جغرافية قارية لانها تمثل مثلث تلاقي القارات اسيا وافريقيا واوربا، واحتوائها على ثروات طبيعية واقتصادية هائلة ومهمة ذات ابعاد استراتيجية بعيدة المدى في تلك المرحلة وخاصة المياه والنفط.
ومع اعلان تأسيس الدولة العراقية وضم ولاية الموصل اليها بفضل تصويت الكرد لضمان توازن المعادلة المذهبية السنية مع الشيعة في بغداد بناءا على رغبة الملك فيصل الاول، برزت حركة تحررية كردية للمطالبة بكيان شبه مستقل متسم بادارة ذاتية شبه منفصلة او مستقلة في السليمانية، وخلال تطورات تلك المرحلة تمكن الشيخ محمود الحفيد من اعلان مملكة كردستان لفترة من الزمن والتمرد على حكم الانكليز، ولكن بنهاية المطاف تمكنت بريطاننيا من القضاء عليها ومحاكمة الملك المخلوع ونفيه الى خارج العراق، وخلال هذه الفترة برز دور قيادي وقومي وشعبي وسياسي للشيخ محمود لقيادة الشعب الكردي ولكن لاسباب لم تمتد هذه القيادة طويلا وانتهت بنهاية محبطة للآمال الكردية، ويبدو ان الظروف المحيطة به والسمات القيادية التي اتسم به لم تكن بمستوى الزعامات والقيادات التاريخية التي تصنع الدولة وتنهض الشعب في مرحلة زمنية حاسمة.
ولا شك ان الزعامة التاريخية لها مقومات ومعطيات شخصية وقيادية لا يمكن توفرها في كل قائد، وكثيرا ما يبرز شخصيات عديدة في موقع قيادة شعب او دولة او عشيرة او قبيلة او مجموعة سكانية، ولكنها لا تتسم بالزعامة والقيادة التاريخية، والقائد في هذه الحال يكون مجرد راعي يقود رعيته في زمن ومكان معين، واكثر القيادات من هذا القبيل لا يملك القدرة على تقديم انجاز او مكسب كبير لصالح العامة لضمان حاضر قومه ومستقبلهم، وكثيرا ما ينتهي هذا النموذج بالانفرادية والدكتاتورية وتكون أعبائها وضريبتها كبيرة على الشعب، حيث يتحول الحكم الى نظام للاضطهاد والخوف وفرض الموت على حياة الرعية نتيجة فرض سياسة الاستبداد والقمع والظلم عليهم بالقوة والاستبداد.
والقيادات الكردية لم تسنح لها الفرصة للزعامة والقيادة الحقيقية في ظل حكم كيان سياسي مستقل، ولم تقدر على انشاء دولة خاصة للكرد، وحتى مطالب الحركات التحررية الكردية في كردستان العراق طوال القرن الماضي لم تتجاوز سقف ضمان ادارة للحكم الذاتي، ولم تصل الى حد المطالبة بالانفصال وتشكيل دولة مستقلة خلال المفاوضات التي تعاقبت بين الحركة والحكومات الملكية والجمهورية المتعاقبة على كرسي الحكم في بغداد، والميزة الغريبة الوحيدة التي تميزت بها الساحة السياسية العراقية تجاه القوميات هي اقرار حق تقرير المصير للشعب الكردي من قبل الحزب الشيوعي العراقي في نهاية الخمسينات، ومن باب نيل الحقوق الوطنية والقومية يعتبر هذا الاقرار خطوة جدا متقدمة لحزب سياسي وثق حق الكرد بالادارة والحكومة المستقلة، علما ان الاحزاب الكردية لم تتجرء في برامجها على طرح حق تقرير المصير طوال مراحل نضالها، ما عدا الاتحاد الوطني الكردستاني حيث وثق بحق تقرير المصير في خطابه، ولكن لم يتجرأ على المطالبة به خلال المفاوضات مع الحكومة العراقية، والغريب ان السكرتير العام للحزب جلال طالباني عندما كان رئيسا للعراق كان يصف حلم قيام الدولة الكردية بحلم الشعراء.
وعلى العموم يمكن تحديد القيادات التي قادت الحركة التحررية الكردية باقليم كردستان العراق في سنوات القرن الماضي بالشخصيات المعروفة التالية: الشيخ محمود الحفيد من سنة 1920 الى 1935، الملا مصطفى البرزاني من 1961 الى 1974، وهؤلاء من القيادات القديمة، أما الجديدة في التاريخ الحديث هما جلال طالباني من 1976 الى 2014، ومسعود البرزاني من سنة 1976 الى 2017، والوحيد الذي مارس دور الزعامة والقيادة بصفة رسمية الشيخ محمود ملك مملكة كردستان، ولكن لم يحظى باعتتراف اقليمي او دولي، وبعده لم يتسنى لاي شخصية موقع سيادي على مستوى الرئاسة والقيادة العليا عدا الرئيس السابق جلال طالباني فقد اختير رئيسا للعراق لولايتين من خلال توافق سياسي بين الاحزاب العراقية والكردية برعاية أمريكية، والمنصب الرئاسي السيادي لم يستغل لتحقيق اهدافا كردية، اما مسعود البرزاني فقد انتخب رئيسا للاقليم لولايتين وولاية غير قانونية، والمؤسف ان اي من هؤلاء لم يقدر على تحقيق انجاز تاريخي للشعب الكردي تضمن اقامة الدولة من خلال تفاهمات عراقية او اقليمية او دولية.
وبالرغم من اتسام القيادات القديمة بسمات اخلاقية وانسانية على مستوى القيادة والزعامة رغم عدم قدرتهما على تحقيق كيان سياسي مستقل او شبه مستقل لكرد العراق، والمارسة والسلوك وقواعد التصرف لهذه القيادة اتسمت بالاخلاص والوطنية والمسؤولية والنزاهة والزهد والتواضع والبساطة والكرم والتسامح والتعايش والعيش المتواضع، وكثيرا ما تحكى امثلة حية من قبل شهود في هذا المجال وفي مذكرات شخصيات لازمت القيادات القديمة في التاريخ الحديث لكرد الاقليم.. ولكن القيادات الجديدة التي ظهرت بعد انهيار الثورة الكردية وانتكاستها سنة 1975 ومازال البعض منهم مستمرا في الحكم وقد اتسمت بسلوكيات وممارسات لاوطنية وغير اخلاقية على مستوى الادارة والسلطة والحزب والحكومة والرئاسة، حتى وصلت الى مستوى قيادة عصابات ومافيات لنهب ثروات وموارد وممتلكات كرد العراق من زاخو الى خانقين، ولم تكتفي بهذا النهب بل عمدت الى سرقة حاضر ومستقبل الأجيال الكردية اللاحقة.
واليوم بعد فرض أزمات ومشاكل سياسية واقتصادية ومالية ومعيشية وحياتية عمدا على شعب كردستان ومن سنوات عديدة، اطلت علينا قيادة الاقليم بشعار الاستفتاء لنيل الاستقلال لكرد العراق، وبالرغم من الهالة الاعلامية والسياسية الحزبية المرسومة للعملية من قبل الحزبين الحاكمين وكأن الطريق مفروشة بالزهور والسجاد الاحمر، الا ان جوهر الدعوة مبين للعيان وهو عبارة عن سيناريو مكشوف يراد منه خداع المواطنين، لان اللعبة موضوعة لخدمة نوايا واهداف سياسية شخصية وحزبية، وأهمها اطالة ولاية الحاكم الاول بالاقليم الى ولاية رابعة وخامسة او تسليم رئاسة العراق اليه بصلاحيات قوية ليكون حاكما جديدا على البلاد، وفي كل الاحوال فان مصيرالكرد سيكون موشحا بالسواد طالما بقي نظام الحكم على حاله، وطالما وضع الحاكم مصلحته فوق مصلحة الاقليم، وطالما بقي الكرد بعيدا عن انتاج قائد تاريخي يلهم حاضره لكي يضمن مستقبله ويحقق الحلم بالدولة القائمة، فان ما نتج من قيادات في ربع القرن الماضي مجرد لصوص وسراق ومافيات ونمور من ورق، واللبيب تكفيه الاشارة، والله من وراء القصد.
(*) كاتب صحفي
التعليقات