"كان الرصاص ينهمر يسرة ويمنة حولي، ولقد عشت لحظة فقدان الحياة من أجل مهنة الصحافة، وكثيرون هم الذين سقطوا من قبل، ولقد كتب لي عمر جديد ليل الثلاثاء ـ الأربعاء الموافق للعشرين من يوليو (تموز) وهو ليل لا ينسى، فقد ولدت من جديد"... بهذه الكلمات اختر زميلنا حمود الزيادي العتيبي مراسل "إيلاف" في الرياض حكايته مع واجهة رصاص الإرهابيين خلال مداهمة سلطات الأمن السعودي لوكرهم في حي الملك فهد في شمال العاصمة السعودية الرياض. وإلى تقرير الزميل:

حمود الزيادي العتيبي من الرياض: كانت زوجتي التي تستعد أن تهديني بدايات الشهر المقبل طفلنا الأول قالت لي صباح أمس "العشرين من تموز (يوليو):هو عيد زواجنا.. وعيد ميلاد طفلنا الأول.. وبعد كل ذلك وقبله عيد مولدك الجديد"،، وفي الحقيقة هو أن عيد زواجنا هو الثاني من آب (أغسطس) وعيد ميلاد طفلنا الذي هو في علم الغيب لم يحن بعد، ولا نعرف على وجه الدقة موعده؛ وإن كانت المؤشرات الطبية تقول أنه قبل منتصف آب (أغسطس) أيضاً. كما أن عيد ميلادي هو العاشر من تشرين الأول (أكتوبر).

إذن، ما الذي قلب جميع تلك الموازين والتواريخ في ذهن زوجتي لتفاجئني بهذه التواريخ ؟!. أهي نتائج الوعكة الصحية التي ترقد بسببها في المستشفى منذ يومين؟!. أم أنها التقلبات الهرمونية التي تطال المرأة الحامل؟.

بطبيعة الحال لم يكن اختيارها لهذا التاريخ نابع من تلك الأسباب، رغم وجاهتها، ولكن محتمل أن يكون حدس النصف الجميل الآخر مهما في الاستشعار عن بعد، وهذا الذي حصل فالتاريخ الذي تريد له أن لا يفارق ذاكرتي، وأن يحفر له أخدوداً عميقاً هناك لكي أكون أكثر احتراساً على حياتي.

وإلى هنا أقول لقد كُتب لي عمر جديد مساء البارحة بعد أن نجوت من تلك الرصاصات التي انطلقت تجاهي، قصدا وعمد بهدف القتل، فهي انهمرت أمامي، وعن يميني وشمالي، ولم يفصل بيني وبين نقطة انطلاقها سوى بضع خطوات يسيرة، ومسيرة القدر أيضا.

كانت تلك الرصاصات "عطايا"، لم أطلبها، من مجموعة إرهابية فارة حيث المنزل الذي داهمته قوات الأمن السعودية في حي الملك فهد شمالي الرياض مساء الثلاثاء العشرين من تموز (يوليو).

مساء البارحة قادني واجبي الصحافي إلى أن أنطلق مسرعاً بسيارتي إلى شمالي حي الملك فهد حين تواردت أنباء تقول أن حصاراً أمنياً أخذ في التشكل، وأن هناك معلومات عن تواجد مجموعة كبيرة من الإرهابيين في أحد منازل الحي حيث يجري تطويقه.

وإذ صلت الحي في غضون دقائق معدودة وكان الدخان المتصاعد نحو عنان السماء، هو دليلي ومرشدي لساحة المواجهة، وحين حاولت الاقتراب بشكل معقول من الموقع بشيء من الحذر. حيث كنت أعرف من تجارب ميدانية سابقة، لأحداث مشابهة، أن المكان يحتله قتلة محترفون، رصاصهم لا يفرق بين مدني وعسكري، لكنني اقتربت دون أن أتوغل باتجاه المنزل.

وما هي إلا لحظات وإذا بأصوات انفجارات متقطعة ناتجة عن استخدام الإرهابيين لقذائف (أر بي جي) وقنابل يدوية يتم تصويبها تجاه قوات الأمن. كان أزيز الرصاص حاضراً يملأ المكان صخباً ورعباً، كان الرصاص ينهمر من نقطة واحدة هو المكان الذي ينبعث منه الدخان وبدا ظاهراً أن تلك الطلقات المتتابعة بكثافة تتخذ اتجاهين متضادين، مجموعة إلى الشرق وأخرى نحو الغرب.

في هذه الأثناء، كنت أقود سيارتي على بعد نحو 100 متر إلى الشمال من الموقع، حين رأيت ما رأيت، وعرفت ساعتها أنني اقتربت من الخطر، أكثر من ما يجب، وعليَّ أن أبتعد قدر الإمكان، ولم يكن بإمكاني توقع النتائج في ظل تلك الطلقات النارية المتتابعة والمتواصلة التي أخذت تلون سماء الرياض بلون الدم وتحيل ليله إلى صبح صارخ.

توصلت إلى أن عليَّ اتخاذ قرار سريع مع تصاعد احتمالات الخطر وبدأت استقبل عبر هاتفي الجوال اتصالات متعددة من زملاء صحافيين يتواصلون معي من أطراف الحي، يلحون عليَّ ويحثونني بضرورة مغادرة المكان، وأن أبحث عن مخرج بشكل سريع، فـ "الوضع خطير" كما صرخ في أذني عدة مرات الصحافي والصديق سعود الشيباني.

قررت إثر المعطيات التي ألقت بظلالها على الأجواء من حولي، أن أفضل خيار هو التوقف حالاً، في مكان ما، يتوفر على قدر معقول من الأمان بعد اشتداد حمأة المواجهة. لم يعد من المناسب محاولة الخروج من المنطقة، فهي محاصرة مع كل الاتجاهات، وكل حركة قد تجعلني هدفا عرضيا أو مقصودا، سواء لقوات الأمن المتأهبة أو للعناصر الإرهابية المتوترة.

حينئذ، توصلت إلى حل- بحسب تقديري - هو أفضل المتاح، ركنت سيارتي وبقيت فيها على بعد مائة متر شمالي المنزل المحاصر آخذاً في الاعتبار اتجاه طلقات الرصاص حيث تذهب شرقاً وغربا، وهناك توقفت ً. في شارع صغير يفضي إلى شارع ينتهي على بعد أمتار من المنزل المحاصر وعلى يميني سور يحيط بمكتب عقاري بينما تقع على يساري فيلا سكنية، حيث قلت في نفسي "هذا المكان يمنحني أمور عدة في ذات الوقت. الإطلالة على مسرح المواجهة من مسافة معقولة والحماية من طلقات الرصاص العشوائية".

وخلال لحظات أطبق على المكان صمت غريب، كأن شيئاً لم يكن. اختفت أصوات الانفجارات وفرقعة القنابل وأزيز الطلقات الرشاشة. مرت دقائق أخرى وإذا بسيارة تظهر فجأة تاركة خلفها المنزل المحاصر، كانت السيارة الوحيدة التي جاءت من هناك منذ أكثر من نصف ساعة.، بدأت تقترب نحونا حيث يقف إلى جانب سيارتي أربعة مواطنين من بينهم طفل في العاشرة بصحبة والده.

وأحسست لثوان أنني أواجه الدهر كله، وانتابني إحساس أن هذه السيارة تحمل أمراً مريبا، فكلما اقتربت تعاظم إحساسي بالخطر. حاولت أن أبدوا هادئاً حتى لا أثير الريبة، حتى أنني قلت لمن حولي إحذروا.. كانت وجهة السيارة هي الشارع الذي ينتهي حيث سيارتي كانت متوقفة، وكان على من في السيارة إما أن يتجهوا يميناً أو يساراًً. تقدموا كثيراً وعلى بعد أربعة أمتار مني انعطفوا يساراًً، وبدأ الرصاص يتقاطر تجاهي وأنا خلف مقود سيارتي، . عندما أسمع الرصاصة تعبر من جواري أو تسقط أمامي، أنتظر أين تستقر الآتية؟!. وقتها رمى المواطنون الأربعة الذين كانوا يقفون إلى جواري خلف سيارتي وبقيت متسمرا خلف المقود مكاني أنتظر قدري.

لقد كان من في السيارة الهاربة على ما يبدو أربعة أشخاص مدججين بالأسلحة الرشاشة، وكان خامسهم في الصندوق الخلفي للسيارة الهايلوكس (غمارتين) تحيط به أكوام من الأمتعة السوداء وكانت رشاشتهم وأسلحة الفتك ظاهرة تماما، وفي هذه المواجهة مع لحظة فقدان الحياة أصبحت أتساءل في تلك اللحظات التي استحالت دهراً. كم من الطلقات ستخترق جسدي؟!.

لقد مرت اللحظات .. ،عم لقد مر الإرهابيون من هنا بهداياهم من رصاصات الموت التي لم أكن أتوقع، شعرت بأن طلقة واحدة أصابت السيارة لكنني كنت أنتظر تلك التي تخترق مقدمة السيارة تجاهي فلم تأت!.

لقد كان الإرهابيين من زحمتهم وتضييق الخناق الأمني لا يدركون أي طريق أو شارع يهربون إلى ملجأ آمن، لكنهم حين عادوا وانعطفوا بسيارتهم يمينا اشتبكوا مع واحدة من الدوريات الأمنية التي تطوق المكان، حيث بادروا بإطلاق وابل كثيف من النيران ورد رجال الأمن عليهم بالمثل.

وإلى هذا قلت لنفسي أنهم سيعودون لنا مرة أخرى هروباً من قوات الأمن ولن تخطئنا هذه المرة الرصاصات التي لا أزال غير مصدق أنها عبرت دون أن تؤذيني أو المواطنين الأربعة والطفل، لقد بدا الأرهابيون مرتبكين وفي حال من الهلع حين اشتبكوا مع رجال الأمن، لكنهم أفلتوا حين تراجعت سيارتهم إلى الخلف متجهة نحو شارع آخر حتى يلوذوا بالفرار، بعد أن كتموا أنفاسنا.

وفي وقت لاحق علمت أن قوات الأمن أعطبت السيارة التي كانوا يستقلونها لكنهم لاذوا بالفرار وعثر في صندوقها الخلفي على قذائف آر بي جي وقنابل يدوية ورشاشات. حين نزلت من سيارتي لأتفحصها رأيت مكان الرصاصة التي استقرت في جانبها الأيمن ثم شاهدت الطفل ذو السنوات سنوات وهو ممسكاً برأسه من هول ما سمع ورأى، واقتربت منه وإذا به ينزف لكن جرحه بدا سطحياً حيث ارتمى في أحضان أبيه محتمياً بسيارتي ونالته شظية مرت مسرعة تدفعها رحمة الله بعيداً.

[email protected]