د. عبدالله المدني: تمثل ماليزيا بحق حالة فريدة و متميزة بين الدول الإسلامية، ليس فقط بسبب نجاحها بامتياز في عملية التنمية و النهضة و بالتالي بلوغها مرتبة متقدمة بين الأمم الصاعدة، و إنما أيضا بسبب براعتها في التعامل مع كل المعضلات و التحديات التي واجهتها.لقد خاضت ماليزيا معركة التحرر الوطني في خمسينات القرن الماضي، فنجحت في غضون سنوات قليلة في نيل استقلالها عن المستعمر البريطاني بأقل قدر من العنف و أقل رقم من الضحايا.
إقرا أيضا الصين: من مجتمع زراعي بائس إلى قوة اقتصادية مهابة |
وخاضت معركة بناء دولة المؤسسات القادرة على الصمود و التناغم مع تطلعات شعبها، فنجحت في تأسيس نظام سياسي ديمقراطي تعددي ضمن لها الاستقرار و السلام. وواجهت معضلة توحيد أجزائها المبعثرة في كيان اتحادي، فنجحت في جمع 13 سلطنة وولاية في نظام فيدرالي ملكي غير وراثي، يتم فيه تداول الملك بين السلاطين بأسلوب المداورة كل خمس سنوات. و دخلت معركة المزاوجة ما بين الاصالة و الحداثة، فحققت فيها ما لم يحققه الآخرون من نجاح. وجابهت معضلة التباين العرقي و الديني و الثقافي بين مكونات شعبها الثلاثة (الملايويون و الصينيون و الهنود)، فنجحت في خلق هوية وطنية جامعة تتجاوز تلك الاختلافات. و أخيرا واجهت تحديات التنمية الاقتصادية بنفس طويل، فكان أن انتقلت في غضون عقدين من الزمن فقط من بلد مصدر للمطاط لا يكاد يذكر على الساحة العالمية إلى قوة صناعية وتكنولوجية حديثة ونمر إقليمي مهاب يتردد اسمه في المحافل والمنتديات الدولية.
هذا التفرد و التميز دفع الكثيرين إلى دراسة الظاهرة الماليزية بحثا عن سؤال محدد هو: كيف تحقق كل هذا لماليزيا المسلمة و لم يتحقق مثله لأقطار مسلمة أخرى اكثر ثراء وموارد أولية؟
وإذا كان طرح السؤال سهلا فان الإجابة عليه ليست كذلك. غير انه بالامكان عبر شيء من التجاوز أن نستخدم في تفسير الظاهرة الماليزية ما قيل في تفسير ظاهرة النمور الآسيوية عموما باعتبارها أن ماليزيا أحد تلك النمور بل أهمها. وهذا التفسير يشمل عوامل عدة مترابطة نلخصها فيما يلي:
أولا : منظومة القيم الثقافية السائدة
لقد لعبت منظومة القيم الثقافية التي تدين بها المجتمعات الآسيوية دورا محوريا في نهضة هذه المجتمعات لأنها ببساطة تولي اهتماما شديدا لقيمتي العلم والعمل. فالطفل الآسيوي يغرس فيه منذ نعومة أظفاره مبدأ أن التعليم والتفوق فيه ثم العمل والإتقان فيه هما واجبان مقدسان تجاه الرب والوطن والمجتمع والأسرة ، بمعنى أن أي تهاون فيهما هو بمثابة الخيانة العظمى التي تلحق العار بصاحبها إلى الأبد فلا يستحق معها سوى الازدراء والاحتقار. وهكذا فان العلم والعمل في الثقافة الآسيوية ليسا وسيلتين للحصول على المادة وبالتالي الرفاهية الشخصية أو توفير مطلبات الحياة ndash; مثلما هو الحال في مجتمعات الشرق الأوسط - بقدر ما هو واجب له القدسية. ومن نافلة القول بيان ما لهذا المبدأ من أهمية لجهة ظهور أجيال متعلمة ومؤهلة ومشاركة بحماس في الإنتاج والبناء بدلا من أجيال جاهلة أو كسولة أو ضائعة أو تعيش عالة على غيرها.
ومن القيم الآسيوية الهامة الأخرى ، قيمة التأمل والمحاكاة. حيث تشجع المجتمعات الآسيوية أبناءها على محاكاة إنجازات الآخر وتأملها وسبر أغوارها واكتشاف أسرارها ، ومن ثم الإضافة إليها وتقديمها في صورة جديدة كمنجز خاص. ومن هنا لم يكن غريبا أن تبدأ النهضة الصناعية والتكنولوجية في آسيا بتقليد المنتج الغربي قبل طرح منتج يحمل البصمة الخاصة.
ومن بين القيم الآسيوية التي لا بد من التوقف عندها، قيمة التسامح مع الآخر المشترك في الوطن والمختلف في العرق أو الدين ، وهي قيمة تستمد جذورها من الثقافات البوذية والكونفشوسية والهندوسية ، ولعبت عاملا مهما في دول مثل ماليزيا وسنغافورة واندونيسيا لجهة تأسيس مجتمعات يسودها التعايش والتعاون ما بين اثنياتها ودياناتها المختلفة بدلا من مجتمعات مشغولة بالإقصاء والعنف والأفكار العنصرية على حساب الانشغال بالبناء والتنمية والنهضة. وهناك قيمتا تقديس الأسرة واحترام الكبير وتقديره اللتان تفرعت عنهما ظاهرتان هما: ارتباط الآسيوي بالمنشأة التي يعمل بها ، وتعامله معها على أنها أسرة ثانية له يجب الإخلاص لها والتفاني في خدمتها والتضحية من اجلها، واحترام المواطن الآسيوي للدولة وقوانينها ، وان اختلف مع الحكومة أو الحزب الحاكم، على اعتبار أن الدولة حامية لأمنه وراعية لمصالحه وممثلة لهويته الوطنية.
ثانيا : حسن استغلال الموارد وتوظيفها
ولهذا العامل صلة وثيقة بالقيم الثقافية الآسيوية لأن مبعثها هو البساطة وعدم الإسراف ، اللذان يؤديان تلقائيا إلى زيادة معدلات الادخار. والادخار كما نعلم هو من العوامل الهامة في التنمية الاقتصادية. وكنتيجة لشيوع مباديء البساطة والتقشف وعدم الإسراف والاستخدام الأمثل للموارد المتاحة ، تفهمت الشعوب الآسيوية قرارات وخطط حكوماتها القاضية برفع الدعم عن الخدمات أو تخفيض الإنفاق الحكومي أو شد الأحزمة في الكثير من الحالات الضرورية أثناء مسيرة التنمية الطويلة ، وبالتالي لم تجنح الغالبية إلى الاحتجاج والاضرابات والفوضى وأعمال العنف المعيقة للعملة التنموية ، كما لم تجنح إلى المطالبة بأشياء تعجيزية أو طوباوية تتجاوز قدرات وإمكانيات الدولة.
ثالثا : الموضوعية والواقعية السياسية
تميزت برامج وسياسات وخطط ومواقف النمور الآسيوية بالموضوعية والواقعية والنهج البرغماتي القائم على تجاوز العواصف والأزمات والضغوطات بتقديم تنازلات آنية في سبيل مكاسب أكبر في المستقبل. وبعبارة أخرى ، ابتعدت حكومات هذه الدول عن التصلب والتشدد والتحريض والمواجهة مع الآخر، وعن رفع الشعارات الأيديولوجية الفضفاضة التي لا تثمر إلا عن المزيد من المعاناة والتخلف والانحطاط ، وابتعدت عن استخدام مشجب المؤامرات الخارجية في حالات الفشل والإخفاق كبديل عن تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية. ومن حظ هذه الدول أن وهبها الله في حقبات مختلفة قادة على درجة كبيرة من العلم والثقافة وبعد النظر والقدرة على التحليل السليم و شجاعة الاعتراف بالخطأ ، من أمثال quot;لي كوان يوquot; في سنغافورة و quot;مهاتير محمدquot; في ماليزيا. ولعل أفضل مثال على الموضوعية السياسية ، هو استفادة هذه الأقطار من أعدائها السابقين عبر الارتباط معهم ، دونما حساسية، بعلاقات تعاون وشراكة بدلا من مواصلة رفع الشعارات العدائية ضدهم وإعلان القطيعة معهم إلى الأبد.
رابعا : التركيز على التعليم والبحث العلمي والإنفاق عليهما بسخاء
ويعتبر هذا العامل هو الأهم من بين العوامل المفسرة للنهضة الآسيوية. إذ لا خلاف على أن التعليم والاستثمار فيه هو احد العناصر الحاسمة في تحديد مستقبل أي مجتمع. فمن دون وجود مؤسسات تربوية راقية ونظام تعليمي متطور ومتجدد بحسب حاجات المجتمع ، لا يمكن ظهور كوادر قادرة على تنفيذ برامج التنمية بكفاءة وبالتالي لا يمكن للأمة أن تصعد سلالم الرقي وتنافس غيرها.
لقد تعلمت النمور الآسيوية، أن الإنفاق بسخاء على التعليم والتأهيل والتدريب والبحث العلمي وتنمية الموارد البشرية هو الاستثمار الأمثل والأنجع ، وهو الصخرة التي سوف تتحطم عليها الهزات والمصاعب. وقد ظهر ذلك جليا في الأزمة النقدية الآسيوية في عام 1997 والتي لولا وجود ثروة بشرية مؤهلة ومدربة لما استطاعت دول جنوب وشمال شرق آسيا أن تتعامل مع تداعيات الأزمة بكفاءة أو تقف مجددا على قدميها.
وتقوم فلسفة التعليم الآسيوية على استثمار منظومة القيم الثقافية السائدة التي اشرنا إليها آنفا ، في التعليم و التنمية البشرية ، مع تركيز شديد على المعلم ، وتنقية المناهج وتطويرها من وقت إلى آخر، والمواءمة الدقيقة ما بين مخرجات التعليم و احتياجات المرحلة ، وتشجيع القطاع الخاص على استثمار جزء من أرباحه وموارده في التعليم والتدريب ، وإعادة القوى العاملة المتخرجة إلى المدارس من وقت إلى آخر لتحديث معارفها والتزود بما استجد عالميا في حقول تخصصاتها ، إضافة بطبيعة الحال إلى عملية التركيز على علوم العصر (ولاسيما الرياضيات التي تعتبر أس كل علم حديث و دافعا لتشغيل آليات العقل) بدلا من التركيز على المواد الأدبية والتراثية التي يوجد في الوقت الحاضر توجها بشأن تحميل الأسر والأندية الخاصة مسئولية تعليمها وفق رغبة المتلقي.
* باحث و محاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي
التعليقات