أسامة العيسة من القدس : تسعى جهات أوساط فلسطينية واسعة للعمل على ما تسميه عقلنة الغضب المحلي على تصريحات البابا التي وصفت بأنها مسيئة للإسلام، والفصل بين الحبر الأعظم وما يمثل والمسيحيين في فلسطين. وركز معلمو المدارس في المخيمات الفلسطينية، التي تديرها وكالة الغوث، خلال طوابير الصباح اليوم، على ما أسموه التلاحم المسيحي الإسلامي الفلسطيني، في نفس الوقت نددوا بتصريحات البابا.

والمدارس في المخيمات الفلسطينية هي الوحيدة تقريبا التي يداوم فيها الطلبة، مع استمرار إضراب موظفي السلطة الفلسطينية، بما فيهم معلمي مدارسها. واستشهد أحد المعلمين وهو يخاطب طلبته في مخيم الدهيشة للاجئين صباح اليوم، بتصريحات لرجل الدين الأرثوذكسي عطا الله حنا ندد فيها بما نسب للبابا. وشدد موجها كلامه لطلبة المخيم، على ما اسماه العلاقة الأخوية التي تجمع المسيحيين بالمسلمين في فلسطين قائلا quot;كلنا شركاء في الوطن، وكلنا ندين إساءات الباباquot; ووجه تحية لحنا.

ويعتبر حنا وهو فلسطيني يحمل الجنسية الإسرائيلية، ولكنه ينشط اكثر في الأراضي المحتلة عام 1976، متحدثا جماهيريا مفوها، لا يغيب عن المحافل الجماهيرية الفلسطينية، وكان شارك أمس في مهرجان (الأقصى في خطر) التي نظمته الحركة الإسلامية في إسرائيل للعام الحادي عشر على التوالي. ويشكل حنا مع قاضي القضاة الفلسطيني الشيخ تيسير بيوض التميمي ثنائيا جماهيريا ناجحا، ويعتبر حنا، التميمي أحد اقرب الأشخاص لديه. ويلجأ الاثنان دائما إلى عبارات سهلة وأصوات جهورية في مخاطبة الجماهير، ومحاكاة مطالب هذه الجماهير وتجنب الخروج عن أي إجماع لديها.

واعلن حنا أمس وأمام الاف المحتشدين في مهرجان (الأقصى في خطر) الذي نظم في مدينة أم الفحم استنكاره لأي إساءة للمسلمين حتى لو جاءت من البابا، وقال بان المسيحيين الفلسطينيين لا يقبلون بذلك. أما الشيخ تيسير التميمي، فأدان بشدة quot;تصريحات بابا الفاتيكان، والتي تنطوي على الإساءة إلى الإسلام والطعن في عقيدته ورسوله الكريمquot;.

واستنكر صدور هذه التصريحات quot;عن أعلى مرجعية للكاثوليك في العالم تتمتع بمكانة دينية مرموقة، حيث خالف فيها أصول اللياقة والدبلوماسية، وخرج على منهج سلفه الراحل البابا يوحنا بولس الثاني وعلى منهج الكنيسة الكاثوليكية في قيادة الحوار بين الأديان، والحث على التعايش السلمي بين أتباع الديانات في العالم، واستبدل ذلك بخطاب استفزازي لمشاعر المسلمين الدينية ومثير للنزاعات الطائفيةquot;.

وفي لفتة للمسيحيين الفلسطينيين وفي العالم الإسلامي قال التميمي بان quot;المسيحيين والمسلمين في العالم الإسلامي - وبالأخص في فلسطين - براء من هذه التصريحات ولا علاقة لهم بها، فهي لا تعنيهم ولن تؤثر سلباً على علاقتهم المتينة التي أكَدها الإسلام ورسختها العهدة العمرية، ولقيامها على التفاهم والتعايش والحوار الدائم، ومواجهة الاحتلال المتربص بهم وبأرضهم المباركة، والذي لا يفرق في عدوانه عليهم بين مسلم ومسيحيquot;.

وفي حين أن حنا المنتمي للكنيسة الأرثوذكسية التي شهدت علاقتها بالكنيسة الكاثوليكية خلافا تاريخيا طويلا ودمويا في أحيان كثيرة، لم يجد حرجا في نقد البابا، فان الأمر كان مختلفا بالنسبة للبطريرك ميشيل صباح، بطريرك القدس للاتين.

وبخلاف حنا، فان صباح الحائز على الدكتوراه في اللاهوت ويعتبر من المثقفين البارزين، لا يتمتع بحضور جماهيري تقليدي، وان كان يمثل الطائفة المسيحية الأكبر في فلسطين، ويزن كلماته بحساب ويتحدث دائما بعقلانية.

وتجنب صباح، وهو أول فلسطيني يتبوأ كرسي البطريرك اللاتيني في الأراضي المقدسة انتقاد البابا، وقال quot;يجب وضع الأمور في سياقها، البابا لم يكن يتكلم على الإسلام، وما حدث انه قرأ كتابا بالصدفة قبل أسابيع، واقتبس منه في محاضرته المخصصة عن العقل والإيمان، والموجهة لأوروبا ليقول لهم توجد علاقة إيجابية بين العقل والإيمانquot;.

واضاف quot;السؤال الذي اطرحه وعلى كل عربي أن يساله، من هو الشخص الذي اقتبس هذه الجملة عن الإسلام من محاضرة البابا ونزعها من سياقها، ليبث الفتنةquot;.

وعبر صباح عن اعتقاده بان العالم الإسلامي مستهدف، وهناك قوى متصارعة في العالم ويراد للإسلام أن يفرز صورة سلبية عنه، وانه يتم استخدام ردود الفعل في العالم الإسلامي لتشويه صورة الإسلام.

وقال صباح بان الأمر يحتاج إلى علماء مسلمين للعمل على وضع الأمور في نصابها، والإشارة إلى أن البابا كان يتحدث كأستاذ في جامعة وليس كراس للكنيسة الكاثوليكية، وان البابا له علاقة وثيقة مع العالم الإسلامي، وان الكنيسة الكاثوليكية ليس من مساعيها وليس من أساليبها التصدي لأي كيان ديني في العالم، هي تريد أن تحاور وتبني مع جميع الكيانات الدينية.

وقال صباح بان البابا تحدث بإيجابية عن الإسلام عندما خاطب الأوروبيين بالقول quot;انتم تخافون الإسلام اليوم لانه يعيد لكم ما كنتم هجرتموهquot; وحسب صباح فان الباب يقصد بذلك تمسك الإسلام بالإيمان بالله الذي تراجع في العالم الأوربي العلماني.

واصدر صباح بيانا قال فانه بان quot;البابا اختار لمحاضرته موضوع quot;العلاقة بين الإيمان والعقلquot;، إذ أنه مهتم بأوروبا، التي عدلت عن الإيمان، أو هي آخذة بالعدول عنه، بحجة التقدم العلمي والقول أن العلم والإيمان لا يتفقانquot;، وان البابا أراد quot;أن يقول انه لا تناقض بين العقل والإيمان، وأن التقدم العلمي ليس مبرراً لترك الإيمانquot;.

وقال صباح في بيانه quot;البابا بدأ حديثه بأنه قرأ كتاباً نشر حديثاً، ويحوي مناظرة لاهوتية بين الإمبراطور المسيحي اليوناني منويل الثاني، إمبراطور القسطنطينية، وعالم فارسي مسلم، وهو كتاب وضعه على الأرجح الإمبراطور نفسه بين السنوات 1394 و1402 أي في السنوات، التي كان الأتراك المسلمون يحاصرون فيها القسطنطينية، إذ من هنا يمكن للقارئ أن يفهم لهجة الإمبراطور الهجومية على الإسلامquot;. واضاف بان البابا اقتبس من هذا الكتاب quot;كمدخل لحديثه، ليوضح أن العلاقة بين الإيمان والعقل موضوع مطروح في كل الدياناتquot;.

وأشار بان البابا اقتبس أيضا من quot;كاتب آخر فرنسي معاصر أسمه أرنالدز الذي يستشهد بالعلامة أبن حزم الأندلسي المتوفى في بلدته قرب إشبيلية عام 1064، والذي يعالج الموضوع نفسه، كما استشهد أيضا بلاهوتي مسيحي آخر، وهو اللاهوتي دونس سكوت، والذي يتقارب موقفه من موقف ابن حزمquot;.

وقال صباح quot;الفصل السابع من المناظرة بين الإمبراطور اليوناني منويل الثاني والعالم الفارسي، يعالج العلاقة بين الإيمان والعقل، ويربطها بقضية استعمال العنف في الدين بصورة عامة، حيث تحوي المناظرة كلاماً واستشهاداً من الشرائع الثلاث: العهد القديم والجديد والقرآن الكريم، حيث يتطرق الإمبراطور إلى قضية الجهاد، معتبراً أن نشر الإيمان بالعنف، هو أمر يناقض العقل، لأن العنف لا يتفق وطبيعة الله وطبيعة النفس البشرية، وأن الله لا يرضيه الدم، وأن عدم الانقياد لما يقوله العقل مناقض لطبيعة الله، وأن من أراد أن يهدي إنسانا ما إلى الإيمان يفعل ذلك بالكلام الحسن من غير قوة ولا تهديدquot;. وأضاف بأن quot;المناظرة تلفت إلى أن إقناع روح عاقلة، لا يحتاج الإنسان إلى ذراع قوية أو إلى سلاح أيا كان، أو إلى أية وسيلة تهدد الإنسان بالموتquot;.

وفي حين انتقد صباح ردود الفعل في العالم الإسلامي على محاضرة البابا قائلا بأنه من المهم quot;أن تكون ردود الفعل على مضمون المحاضرة ككل، لاسيما وأن البابا يوجه كلامه إلى أوروبا العلمانية، وليس إلى الإسلام، ويتكلم على موضوع العقل والإيمان ولا يتكلم على الإسلامquot;. ورفض صباح الدعوات التي وجهت لمقاطعة الفاتيكان قائلا quot;نحن نحتاج إلى الحوار وليس القطيعة، ولعل ما حدث نعتبره (خضة) حضارية، تدعونا مسيحيين ومسلمين، إلى أن نقرأ معاً تاريخنا، المسيحي والإسلامي، لنفهمه معا ونجعل له معنى واحداً مشتركاً