بالرغم من مطالبة واشنطن الإستفادة من أسهم دمشق عربيا
عزل سوريا أضعف النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط

واشنطن: على مدى السبعة أعوام الماضية تمسكت إدارة الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش بسياسة عزل سوريا عن المجتمع الدولي. وتجاهل البيت الأبيض العديد من الآراء التي طالبت باستخدام منهج أكثر برغماتية مع دمشق يقضي بالإستفادة من نفوذها في العديد من الملفات العالقة في الشرق الأوسط؛ وذلك دون تقديم تنازلات تضر بالمصالح الأميركية في المنطقة. وبخروج وزير الخارجية الأسبق كولن باول من الإدارة الأميركية، سيطر الإتجاه الرافض للحوار مع دمشق على صناعة القرارات في واشنطن بشكل كامل.

وفي نهاية عام 2006 صدر تقرير لجنة خبراء العراق ،والمعروف أيضا باسم تقرير بيكر هاميلتون، والذي أكد أن العودة للحوار مع دمشق أصبحت ضرورة إستراتيجية للولايات المتحدة خاصة بعد الفشل الذي تواجهه في العراق على الصعيدين الأمني والسياسي. وتبعت صدور التقرير موجة من الهجوم على فريق بوش شنتها مجموعة من المسؤولين السابقين على رأسهم هنري وزير الخارجية السابق وبرنت اسكوكرافت مستشار الأمن القومي للرئيس الأميركي جورج بوش الأب خلال أوائل التسعينات من القرن الماضي.

ظهور الرئيس السوري بشار الأسد في باريس ضيفا على الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي خلال قمة quot;الإتحاد من أجل المتوسطquot; زاد حدة الجدال في واشنطن؛ حول مدى جدوى سياسة العزلة التي يتبعها فريق بوش مع دمشق. وفي تقرير حديث صادر عن مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك بالتعاون مع المعهد السلام الأميركي أكد أن عزل سوريا عن الدول الغربية أضر بالمصالح الأميركية في المنطقة طوال ولايتي الرئيس بوش.

وذكر التقرير،الذي استغرق إعداده عامين وأعده كل من منى يعقوبيان وسكوت لاسنسكي الباحثين في المعهد الأميركي للسلام، أن سياسات العزل والعقوبات لم تردع النظام السوري عما تعتبره واشنطن مضرا لمصالحها ويؤثرفي quot;الاستقرار في المنطقة.

ويرى التقرير أن نفوذ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط تأثر بشكل كبير خلال الثلاثة أعوام الماضية، ويدلل التقرير على ذلك بثلاث مناسبات سياسية شهدتها المنطقة في الأشهر القليلة الماضية، أولها الوساطة التركية في محادثات السلام غير المباشرة بين سوريا وإسرائيل، مرورا بإتفاق الدوحة الذي قامت برعايته دولة قطر والخاص بحل الأزمة اللبنانية، وإنتهاء بالوساطة المصرية بين حماس وتل أبيب لإقرار الهدنة وفك الحصار عن غزة.

ويرى التقرير أن القاسم المشترك في الأحداث الثلاثة هو عدم وجود الولايات المتحدة كوسيط أو حتى مراقب، وهذا يدل على التراجع غير المسبوق في دور الولايات المتحدة في العديد من الملفات المهمة لمصالحها.

شرعية مفقودة

ويعتمد التقرير على التحديات التي تواجهها سوريا داخليا كمؤشرات لمعرفة مدى استجابة سوريا للتعاون مع الولايات المتحدة في المستقبل. ويقول الباحثون إن هناك عاملين في الداخل السوري يفرضان أنفسهما بقوة في الوقت الحالي، الأول هو حالة الركود السياسي والاقتصادي السائدة منذ فترة طويلة؛ والثاني فقدان حكم الأقلية العلوية ndash;نسبة إلى طائفة العلويين الشيعية- للشرعية بين الشعب السوري.

فعلى الرغم من أن سلطة الحكومة السورية ما زالت quot;محصنةquot; من أي معارضة داخلية، إلا أن الغياب شبه التام لعمليات الإصلاح يمثل خطرا على الحكم السلطوي في سوريا؛ خاصة أن ذلك يتزامن مع تضاؤل حجم احتياطي النفط السوري وارتفاع نسبة البطالة في دولة تصل فيها نسبة الشباب في الشريحة العمرية بين 13 و15 إلى 37 % من حجم السكان.

وفقا للتقرير فهناك تحدٍ آخر يواجه النظام السوري وهو تراجع تأييد وشعبية quot;حزب البعثquot; بين المواطنين السوريين بعدما أصبح وجها للفساد المستشري في أجهزة الدولة، التي بدورها تعتمد على استراتيجيات التخويف مع الوطنيين لإسكاتهم بعد أن فقدت الشرعية.

ويطرح التقرير علامة استفهام كبيرة حول خريطة توازن القوى داخل نظام الأسد نفسه، ففي الوقت الذي تؤكد فيه العديد من التقارير أن الرئيس بشار يتمتع بنفوذ قوي داخل النظام، كما أنه الوجه الذي يراه المجتمع الدولي دائما، إلا أنه ما زالت التكهنات بشأن حجم الأدوار والنفوذ التي تتمتع بها القيادات الكبيرة داخل نظام الأسد متضاربة. وهذا يطرح العديد من الأسئلة حول عملية صناعة القرار السياسي في دمشق، فهل يفرض الأسد القرارات؟ أم يتخذها بناء على آراء مستشاريه ومعاونيه؟ وكيف تدار الأزمات السياسية داخل النظام؟ ويؤكد التقرير أنه من الصعب عمل تقييم لمدى إمكانية تعاون سوريا مع الولايات المتحدة في المستقبل دون الإجابة على هذه الأسئلة أولا.

مواجهة مفتوحة على عدة جبهات

التقرير يرى أن التحول الدراماتيكي في العلاقات بين دمشق وواشنطن يحتاج إلى إعادة النظر من الأخيرة. ويقسم العلاقة بين سوريا والولايات المتحدة إلى مرحلتين الأولى تبدأ بانتهاء الحرب الباردة، والتي شهدت تعاونا محدودا بين البلدين. وفي هذه المرحلة اتبعت إدارتا الرئيس جورج بوش الأب وبيل كلينتون إستراتيجية براغماتية في العلاقات مع سوريا قامت على أساس البحث عن الأرضيات المشتركة التي يمكن أن تتقابل فيها المصالح السورية الأميركية، ومن ضمنها المصلحة المشتركة لكل من واشنطن ودمشق في إسقاط نظام صدام حسين لذا كانت الموافقة السورية على المشاركة في حرب الخليج الأولى.

أما مظهر التعاون الثاني فكان هو مشاركة سوريا في مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، والتي كانت بمثابة مبادرة لنقل عملية السلام في الشرق الأوسط لمرحلة جديدة، حيث شهدت هذه الفترة مجموعة من اللقاءات بين الرئيس كلينتون والرئيس السوري حافظ الأسد كانت من شأنها أن تؤدي إلى اتفاقية سلام بين سوريا وإسرائيل. وعلى الرغم من الاختلاف الكبير بين سياسات ومصالح واشنطن ودمشق إلا أن القنوات الدبلوماسية للحوار كانت دائما مفتوحة.

ويعرض التقرير quot;التحديات التي تمثلها سوريا للولايات المتحدةquot; بداية مما يطلق عليه الباحثان quot;الدعم السوري الدائم للإرهابquot; من خلال العلاقة الإستراتجية بحركة المقاومة الإسلامية حماس وحزب الله مرورا بسجل سوريا quot;غير المشرفquot; في حقوق الإنسان وانتهاء بتحالفها مع إيران منذ قيام الثورة الإسلامية في طهران. إلا أن كاتبي التقرير يعتقدان أيضا أن سياسة العزل والعقوبات التي اتبعتها واشنطن منذ عام 2001 مع دمشق لم تفلح في الوقوف أمام هذه التحديات بل كانت هناك نتائج عكسية منها تنامي قوة حماس في فلسطين وحزب الله في لبنان.

دورس مستفادة

ويستخلص التقرير أربعة دروس يمكن أن تستفيد منها الإدارة القادمة من المواجهة quot;غير المجديةquot; بين البيت الأبيض ونظام الأسد خلال السبعة أعوام الماضية. أولها أن التجربة أثبتت أن العزلة الدولية لسوريا حصدت نتائج محدودة للغاية. ويستكمل التقرير مؤكدا أن الاتجاه المسيطر في إدارة بوش يرى أن فتح قنوات دبلوماسية مع سوريا من شأنها إعطاء هبة ومكافأة للنظام السوري ويضر بالمصالح الأميركية، إلا أن المشكلة في هذه الرؤية هي الازدواجية -على حد وصف التقرير- وذلك لسببين:

الأول: هو أن إستراتجية العزل لا تتوافق مع ديناميكية ملف العلاقات الأميركية السورية، التي تعتمد بشكل كبير على المتغيرات التي يشهدها مسرح الأحداث الساخن في الشرق الأوسط.

ويستكمل كاتبا التقرير تدعيم هذه الحجة بسرد أحداث سياسية بعينها، من ضمنها الحملة التي شنتها الولايات المتحدة الأميركية ضد سوريا بدعوى تورطها في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، والتي جاءت في وقت كانت الولايات المتحدة تقاطع فيه سوريا دبلوماسيا فعملية الاغتيال ليست السبب في إغلاق قنوات الحوار بين البلدين على حد ذكر التقرير.

كما أن سحب السفير الأميركي من دمشق عام 2005 كان القصد منه ردع سوريا وتهديدها إلا أن النتيجة كانت عكس ذلك حيث قامت سوريا بالتصعيد في المقابل، واتبعت سياسة المعاملة بالمثل مع واشنطن وهذا ظهر في العديد من ردود الأفعال السورية من ضمنها طرد بعض منظمات المجتمع المدني من دمشق مثل منظمة أميديست التعليمية وكذلك هيئة فولبرايت للتبادل الطلابي الثقافي، علاوة على أن دمشق استخدمت تصعيد واشنطن بذكاء شديد لتبرير أفعالها في العديد من الملفات على رأسها العراق ولبنان بدعوى أنها ترد على التصعيد الذي بدأته واشنطن.

وفي ما يخص علاقة سوريا بحزب الله وحماس فيؤكد التقرير أنه خلال الفترة التي سعت فيها إدارة بوش إلى عزل سوريا تزايد فيها دعم دمشق لحزب الله وليس العكس وظهر ذلك بشكل واضح في الحرب اللبنانية الإسرائيلية في عام 2006. هذا إلى جانب التصعيد الذي شهدته الجبهة الداخلية في سوريا ضد المعارضين ونشطاء حقوق الإنسان من خلال حملة اعتقالات شنتها أجهزة الأمن السورية ضد المعارضين لنظام الأسد.

الثاني: ويقول كاتبا التقرير إن الدليل الثاني على فشل سياسة عزل سوريا، وهو أن الأخيرة أصبحت أقرب لإيران من ذي قبل. بعد أن أصبحت طهران الحضن الوحيد الذي بإمكانه استيعاب واستغلال النفوذ السوري في المنطقة في وقت رفضت الولايات المتحدة التمتع به مقابل خيار العزلة الدولية.

درس الحرب الباردة

وينقل التقرير عن وزير الخارجية الأميركي الأسبق كولين باول قوله quot;إنه ليس من المنطقي أن تذهب للتفاوض مع سوريا حول مجموعة من المطالب وتكون الشروط الأميركية لبدء المحادثات هي نفسها المطالب التي تتفاوض من أجلها. ويقول التقرير إنه خلال الحرب البادرة بين روسيا والولايات المتحدة كانت هناك علاقات دبلوماسية طبيعية بين البلدين. وأن تلك العلاقات استفادت منها واشنطن بشكل كبير حتى بعد الحرب الباردة والدليل هو حرب الخليج الأولى.

أما الدرس الثاني الذي يخلص إليه التقرير فهو أن العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة كان لها تأثير محدود على الاقتصاد السوري. إلا أنه لا يمكن إنكار أن تلك العقوبات قامت بإحداث حالة من القلق من قبل الشركات الدولية حول مستقبل الاستثمار في سوريا، ما ألقى بظلاله على معدلات النمو وأداء الاقتصاد السوري في الثلاثة أعوام الماضية. إلا أن هذه العقوبات لم تحتل أولوية في سياسات النظام السوري أي أنها لم تشكل ضغطا يذكر عليه.