جنيف: سلط تكرار حوادث قتل المدنيين في كل من أفغانستان والعراق بنيران حراس شركات أمنية أميركية خاصة كبلاك ووتر، وغيرها من الشركات العاملة هناك، الضوء على ظاهرة اللجوء المتزايد لمؤسسات القطاع الخاص للقيام بمهام كانت إلى حد قريب تعد من صميم مهام الدولة.

وتُعرّف فلسفة الأنوار، وخاصة عالم الاجتماع والاقتصاد والسياسة الألماني ماكس فيبيـر، الدولة الحديثة بكونها تجمّع سياسي يحتكر وسائل الإكراه، ويجعل من ممارستها للعنف المقنن أشد ما يميزها عن بقية بنيات المجتمع.

لكن ميل الحكومات الغربية لتقليص جيوشها بعد انتهاء الحرب الباردة، في الوقت الذي إستمرت فيه في شن الحروب، إضطرها إلى الإعتماد بدرجة أوسع نطاق على المتعاقدين الخواص لتلبية إحتياجاتها الأمنية التي تمتد من الخدمات اللوجستية، كالتموين والتسليح، إلى جمع وتحليل المعلومات.

وإذا كان المؤيدون يرون أن هذه الشركات تسمح للقوات النظامية بالتركيز على مهمتها الرئيسية، فإن المعارضين يرون أن هذه الشركات عبارة عن جيش من المرتزقة العاملين خارج القانون.

وزاد انتعاش سوق quot;الصناعة الأمنيةquot; بعد شن أميركا لحروبها الإستباقية في الشرقين الأوسط والأدنى. وجدير بالإشارة في هذا السياق إلى أن القيمة النقدية لهذه السوق تبلغ اليوم مائة مليار دولار. كما أعلنت وزارة الدفاع الأميركية أنها توظف 7300 عنصر من عمال الشركات الأمنية الخاصة البالغ عددها في العراق 137.000 عنصر.

هذه الظاهرة تتفق تماما والتوجه المتزايد في جميع البلدان إلى التفويت في خدمات القطاع العام، وتحرير مؤسساته للحد من النفقات العامة، ولضمان نسبة أعلى من الفعالية والجودة.

انتقال الجدل إلى سويسرا
وقد أثبت مسار الأحداث في الأشهر الأخيرة أن ظاهرة quot;خصخصة العنفquot; لم تعد حكرا على الدول الفاشلة أو المنهارة أو السائرة في طور النمو. ففي غضون أقل من ثلاثة أشهر، هزت الرأي العام السويسري قضيتا جوسسة تورطت فيهما مجموعة Seacute;curitas السويسرية للخدمات الأمنية.

في القضيتين، زرعت هذه المؤسسة الأمنية الخاصة جاسوسيْن لها داخل كل من منظمة Attac، المناهضة للعولمة، ومجموعة anti-repreacute;ssion المناهضة للردع العنيف. الحادثان أثارا زوبعة من الأسئلة، بعضها يتعلق بصلاحيات هذه النوعية من المؤسسات الأمنية الخاصة، ومشروعيتها، والبعض الآخر ينتقد الفراغ القانوني الذي سمح لها بالإفلات من المتابعة.

كما أعادت الحادثتان إلى الواجهة قضية quot;خصخصة الخدمات الأمنيةquot;، وغذّت الاستقطاب الحاد بين أنصار الخصخصة ومناهضيها، بعد أن قرر كل من مجلس النواب والحكومة الفدرالية قبول توصية لجنة المؤسسات السياسية بإسناد مهمة الأمن على متن القطارات بالكامل إلى مؤسسات أمنية خاصة.

جبهة معارضة
هذه القرارات أثارت غضب العديد من الأطراف التي وصفتها بالمُتسرعة وغير الحكيمة. وقررت إسقاطها من خلال تشكيل تحالف عريض يضم كلا من نقابة موظّفي النقل، والفدرالية السويسرية لموظفي الشرطة، ومؤتمر إيبنراين (تحالف المُسْتَأجـَرين) بالإضافة إلى الفرع السويسري لمنظمة العفو الدولية.

ويرى هذا التحالف أن الدولة إذا أرادت أن تكون دولة قانون ومؤسسات، فلابد أن تتكفّل هي نفسها بتوفير الأمن لمواطنيها. وفي هذا الإطار، تقول مانون شيك، الناطقة بإسم الفرع السويسري لمنظمة العفو الدولية في تصريحات لسويس إنفو: quot;الأمن، لا يمكن أن تشرف عليه إلا الدولة، لأن الشركات الخاصة من الصعب محاسبتها أو مقاضاتها أمام العدالةquot;، قبل أن تضيفquot; quot;عندما يكون الملف الأمني بيد جهاز أمن رسمي، يكون من السهل مراقبته ومحاسبته أمام مؤسسات سياسية منتخبة ديمقراطياquot;.

ويدحض ماكس هوفمان، أمين عام الفدرالية السويسرية لموظفي الشرطة في إتصال مع سويس إنفو، حجج القائلين بأن خصخصة القطاع الأمني ضرورة اقتصادية وسياسية، بحيث يؤكد أن quot;الوضع العام في سويسرا جيد، فالقطاع العام يقوم بدوره من دون أن يعطل نمو القطاع الخاص، والدراسات الاستقصائية التي أجريت في السنوات الاخيرة تؤكد بأنه لا ضرورة إقتصادية لخصخصة قطاع الأمنquot;.

الدراسة التي يشير إليها هذا المسؤول أجراها مركز بحوث تابع للمعهد التقني الفدرالي العالي بزيورخ، بتكليف من أكبر تحالف للمُستَأجرين في سويسرا، quot;مؤتمر إيبنرانquot;. وتوصل من خلالها أن الخدمات التي يوفرها القطاع العام تعزّز بشكل كبير وضع الرفاه الإقتصادي في البلاد، وتزيد في إنتاجية إقتصاد السوق. كما تنفي الدراسة نفيا قاطعا أن تكون مؤسسات القطاع العام تمثل عائقا للأنشطة الاقتصادية، أو أن ما تقدمه من خدمات غير مُجـد.

quot;لاquot;.. حتى لو تغيّر الإطار القانوني
وردا عن سؤال توجهنا به إلى الأطراف المشاركة في التحالف المناهض لخصخصة الوظائف الأمنية في سويسرا، إن كانوا سيقبلون بذلك في حال تغيّر الوضع القانوني لتلك المؤسسات، أوضحت المتحدثة بإسم منظمة العفو الدولية: quot;نرفض ذلك حتى لو تغيّرت القوانين، لقد وصلتنا شكاوى من تصرفات بعض شركات حفظ الأمن، وحصلنا على شهادات من أناس كانوا شهود عيان على سوء المعاملة، وهي حالات لم يبت فيها القضاء، لأن تلك الجهات لا تبدي تعاونا كافياquot;.

وإستكمالا لما سبق تقول السيدة مانون شيك: quot;الحوار مع الشركات الأمنية الخاصة غير ممكن، لا يهمها غير الربح، وسيكون قرارا خاطئا لو كلّفت تلك الجهات بحماية أمن 300 ألف راكب قطارات في بلادناquot;.

أما بالنسبة لماكس هوفمان، أمين عام الفدرالية السويسرية لموظفي الشرطة، فإن المسألة تتعلق بآليات ضمان إحترام القانون، وليس بوجود القانون، ويضيف: quot;هناك قوانين وقواعد قيد التنفيذ، والإطار السياسي والقانوني واضح وكاف، لكن هذا لم يمنع من حدوث تجاوزات كثيرةquot;.

ويختم السيد هوفمان: quot;لا أحد بإمكانه إقناعنا بأن شركة خاصة تتجسس لسنوات على منظمات مدنية، لصالح شركات عملاقة، ومن أجل أرباح مادية، قادرة على ضمان أمن وسلامة المواطنينquot;.

إلتقاء مصالح
هذا التحالف الغريب في تركيبته والذي يضم في نفس الوقت، وبصفة غير اعتيادية، الفدرالية السويسرية لموظفي الشرطة ومنظمة العفو الدولية، هو بحسب ممثلة منظمة العفو الدولية quot;مجرد إلتقاء مصالح وتوحد لأهداف آنية تتمثل في الحفاظ على إحتكار الدولة للمهمة الامنيةquot;.

وشددت السيدة مانون شيك على أن الفرع السويسري لمنظمة العفو الدولية quot;سيبقى وفيا لدوره النقدي كـلما لاحظ إنحرافا في تصرفات الشرطة، وذلك من أجل مجتمع عادل ودولة ديمقراطيةquot;.

وتأمل هذه الأطراف أن تصل من خلال هذا العمل المشترك إلى إقناع مجلس الشيوخ الذي سينعقد ببرن يوم 22 سبتمبر الجاري بألا يحذو حذو مجلس النواب والحكومة الفدرالية اللذين عبّرا عن دعمهما لمشروع خصخصة جهاز حماية ركّاب القطارات.