حنان سحمراني من بيروت: لم تتوقع نوال يوماً أنها ستتخذ من مهنة الرجال مهنة لها إلا بعد ان ضاقت بها سبل الحياة ورماها القدر في طريق اليأس. جهزت سيارة الأجرة الخاصة بها وجلست خلف المقود وانطلقت تنافس السائقين الذين اعتبروا أنها مع زميلات قليلات لها تتعدى على مملكتهم الذكورية.
السائقات اللبنانيات.. تلك عبارة جديدة لم نعهدها من قبل. فتيات في مقتبل العمر وسيدات متزوجات يخضن المهنة ويقابلهن بعض الناس بالتشجيع والدعم والتقبل، لكن ما يتعرضن له من سخرية وإزدراء وإستخفاف وإهانة من قبل بعض السائقين اللبنانيين المعروفين بتعصبهم لمهنتهم أكثر بكثير.
نوال.. تاكسي اليأس
عانينا كثيراً للوصول إلى منزل نوال الذي يقع في أحد أحياء الضاحية الجنوبية لبيروت. حي شبه منفي عن الحضارة بأزقته غير المعبدة ومنازله المتلاصقة. وبمجرد وصولنا استقبلتنا والدتها ووالدها المريض بالترحاب ونظرات الأمل إعتقاداً منهما أني أتيت من قبل جمعية ما لمساعدتهم، لكن أملهما سرعان ما خاب ولو أنهما لم يتوقفا عن الترحيب.
تقبل نوال الحديث على مضض فهي تريد من قصتها أن تظهر فقط كمثال عن نمط حياة نسوة عربيات يرزحن تحت العمل اليومي الشاق. تعرض علينا القيام بجولة في سيارتها كي لا تسمع والدتها الحديث لأنها تعاني من سرطان في الرأس ولا تستطيع تحمل الحزن؛ quot;دعينا لا نقلب عليها المواجعquot; تهمس لي نوال.
تقف نوال بسيارتها القديمة بمحاذاة محطة وقود للتزود بالبنزين، حيث لم تعط العامل ثمن ما عبأت، لتخبرني أنها تتعامل مع المحطة منذ عدة سنوات فتستدين منهم يوميا لتدفع لاحقا مع نهاية النهار الطويل.
تخترق السيارة بنا منطقة بئر حسن بإتجاه بيروت ونوال تقود ببراعة واضحة، لتخبرنا أن تدهور أحوالها المادية بعد زواج زوجها من أخرى وغيابه عن المنزل هو ما جعلها تخوض مهنة التاكسي حيث عادت إلى منزل والديها مع أولادها الثلاثة الصغار. إحتارت نوال بأمرها وكيف ستعيل أولادها إلى أن أتتها بعد يأس وعذاب فكرة العمل على سيارة الأجرة العمومية الخاصة بأبيها المشلول الذي كان يؤجرها لجارٍ له ويدفع له قيمة مالية بالكاد تسد كلفة الأدوية والطعام له ولزوجته.. ومن هنا بدأت رحلتها.
تنال quot;السائقةquot; نصيبها من السخرية والشتائم من بعض سائقي سيارات الأجرة وكذلك الخاصة لكنها اعتادت على الأمر واعتبرته جزءا من مهنتها تتجاهله وتكمل مسيرها. في المقابل هنالك الكثير ممن يشجعونها وخاصة من النساء اللواتي يستقللن سيارتها حيث يدفع بعضهن لها أكثر من التعريفة المتداولة بهدف التشجيع وكذلك العطف على ما خلف تلك المرأة التي تخوض مهنة تفوق قدراتها.
نمر بالقرب من الكورنيش البحري على المنارة فتخرج نوال ما في جعبتها من ألم بالحديث عن ابنها الأكبر. تريني بطاقة تكريم له من أحد البرامج التلفزيونية الرياضية اللبنانية عليها صورته وهو باللباس الرياضي وميدالية ذهبية تتدلى من عنقه؛ quot;أنظري إلى رامي كان بطل ملاكمةquot; تقول نوال وتمسح دمعة ألم من عينيها. ضاع رامي وضياعه جاء بعد تفكك الأسرة بزواج والده حيث انضم إلى quot;شلةquot; من الشبان أمثاله الذين أرشدوه إلى سكة المخدرات. عندها فقدت نوال الأمل نهائياً بإعادته إلى طريق الصواب بعدما رفض كليا الإستجابة لرجائها بأخذه إلى الأطباء للتداوي من إدمانه. حاولت الإتصال بوالده لكنها لم تتلق أي جواب منه بسبب ضغط زوجته الثانية عليه التي منعت عليه الإطمئنان على أولاده حتى.
لم يطل الأمر حتى دخل رامي إلى السجن. اعتقدت نوال أن القانون والعقاب سينقذ إبنها لكنها لم تعلم أن تهمته لم تكن في التعاطي فحسب، لأن أحد رفاق شلته لفق له تهمة التجارة بالمخدرات. تتابع نوال قصتها وتأسف على سنة كاملة أمضاها ابنها حتى الآن في السجن وليس بمقدورها مساعدتها عبر توكيل محام يتولى قضيته بسبب ارتفاع التكاليف.
تقود نوال سيارتها وتطلق البوق لركاب منتظرين على جوانب الطرقات، وتتلقى سخرية البعض وتشجيع البعض، ولا تطلب سوى أن يفك أسر إبنها تعبت ما تعبت وكافحت ما كافحت؛ quot;كل ذلك لا يهم... المهم وجود ابني الوحيد إلى جانبي مجدداquot; تفرغ نوال ما في قلبها من أحزان.
منى.. تاكسي الأمل
ركاب كثر يصعدون إلى سيارة منى ونسوة كثيرات على وجه الخصوص يفتحن قلوبهن لها بما تفيض به من أحاديث وهموم، حتى إن بعضهن يتكلمن عن حياتهن الشخصية ويسألنها النصيحة. قصتها تختلف كلياً عن القصة السابقة لأننا إكتشفنا من خلال حديثنا معها أنها تتمتع بشخصية قوية وثقة بالنفس توازي ما للسائقين الرجال. فهذه المرأة المكافحة ذات السنوات الاربعين تحب مهنتها كثيرأ وتجد متعة في العمل كسائقة تاكسي بغض النظر عن المضايقات التي تتعرض لها والتي لا تهمها بتاتاً.
لدى منى أربع بنات وهي مطلقة من زوجها منذ عشر سنوات حيث فضل أن تتولى أمهم تربيتهم وإعالتهم ليهاجر إلى بلاد الإغتراب هرباً من تحمل مسؤوليته الواجبة عليه. لها في عملها كسائقة سيارة أجرة ما يقارب السبع سنوات. قبل ذلك كانت تعمل كموزعة طلبات للمطاعم في بيروت، وقد ربت بناتها أحسن تربية وزوجت اثنتين منهن، واثنتان تكملان تعليمهما الثانوي.
تساوي منى نفسها بالرجل خبرة وكفاءة في مجال مهنتها. وتتساءل بضحكة تملأ وجهها البشوش؛ quot; لماذا تلقى المرأة نظرة الإستغراب في عيون الناس إذا ما أرادت أن تحذو حذو الرجل في مجال عمله وهي توازيه في تحمل المتاعب والمشقات؟quot;. تبين منى أن الأمر يعود إلى أن المرأة اللبنانية ككل مناضلة وقادرة على التحمل والتأقلم مع أي وضع بدافع من quot;القوة المستمدة من الصمود والمقاومة في الحروب التي مررنا بها على مر السنينquot; تقول.
تجلس منى على كرسي وراء مكتب تعليم القيادة الذي يخص صهرها وتخبرنا بأنها تساعده في بعد الأحيان وكثيراً ما تأتيها توصيلات خاصة من خلال الوافدين إلى المكتب.
في حادثة لها تروي منى أن رجلا حاول الإحتيال عليها حين أوقفها وطلب منها توصيلة إلى منزل والدته المريضة للذهاب بها إلى المستشفى. لكنه حين وصلا وصعد إلى المنزل للمجيء بوالدته عاد وحده، وقال إن والدته تحتاج لدواء فقط وسألها أن توصله إلى أقرب صيدلية ففعلت. وعند وصولهما دخل إلى الصيدلية ليخرج ومعه كيس به دواء وطلب منها مئة دولار ليتمكن من الدفع بحجة أنه نسي المحفظة في المنزل. لم يكن معها سوى ثمانية آلاف ليرة أعطتها له بكل طيبة خاطر، لكنه وقف متردداً وسألها مجددا أن تعيره هاتفها النقال قليلاً ليتسنى له الإتصال بأخيه حتى يأتي ويجلب المال ليدفع لها ولصاحب الصيدلية. وهنا بدأ الشك يدخل في نفس منى التي شعرت بأنها تتعرض لعملية احتيال. فتحت باب سيارتها وهي تناوله الهاتف فحاول أن يهرب به لكنها كانت اسرع منه وانتزعته من يده ودفعته على الارض وبدأت تصرخ: (حرامي حرامي يا ناس)، لكنه فر هارباً قبل أن يجتمع الناس ولم ينل من عمليته quot;اكثر من ثمانية آلاف ليرةquot; تفتخر السائقة ببطولتها.
تطلب منى منا أن نصورها بجانب سيارتها وضحكتها لا تتوقف وهي خارجة من مكتب صهرها بهدف إكتساب الدعاية لها فهي تعرف لبنان كله من أوله إلى آخره؛ quot;وإذا ما أتى سواح إلى لبنان وخاصة النساء فهي تحت الطلبquot; تقول وهي تناولني بطاقة فيها إسمها ورقم هاتفها.
منى علامة.. سائقة تاكسي بأعصاب حديدية تتحمل ازدحام السير أكثر من الرجال. تضفي على المهنة القاسية روح نكتة لا يمتلكها كثيرون. لا شيء يحدها عن متابعة ما بدأت به؛ quot;أؤمن لكم توصيلة إلى القمر إذا أردتم.. أنا بأمر عيونكم وبإنتظاركمquot; تضحك منى بملء فمها وترسل قبلة بيدها إلى العالم العربي!!!
وراء كل رجل عظيم امرأة... لكنها في حالتي نوال ومنى تقود السيارة وتحمل مسؤولية عائلة بأكملها. لكل قصة مآسيها وما يجمع بين السائقات مآس عديدة أدت بهن إلى مهنة الرجال وتفوقن عليهم وعلى كل الظروف فيها.
التعليقات