إيلاف، مصادر: الحكواتي ذلك القصّاص الشعبي الذي يتخذ مكانه على سدّة عالية في صدر المقهى. والاستماع للحكواتي عادة قديمة، فيجتمع في المقهى عدد من الناس، يختلف بحسب نوع القصة وشهرتها وجودة القصّاص أيضاً. ومن تلك القصص: عنترة والزير وأبي زيد... وهي روايات حماسية تمثل الشجاعة والكرم والحميّة والوفاء والصدق والمروءة والجرأة وحفظ الذمم ورعاية الذمار والجار... إلى آخر ما هنالك من المكارم التي ينسبونها إلى أبطال الرواية، ويجعلون النصر لهم والدائرة على مناوئيهم، ويصفونهم بالجبن والكذب والبخل والرياء والغدر والخيانة والنكث بالعهد، إلى آخر ما هنالك من المفاسد.

وتقدّم تلك الروايات على أقسام، كل يوم قسم. ويتوقف الحكواتي عادة في موقف حرج من الرواية، مما يربط المستمع ويشدّه في اليوم التالي لمتابعة ما حدث للبطل. وحدث أن الحكواتي توقف مرة أثناء قراءة قصة عنترة عند أسره وزجّه في السجن بعد تكبيله بالحديد والأغلال، وصعب على أحد الحاضرين الذين يهيمون بعنترة أن يتركه سجيناً. ولما ذهب إلى منزله لم يستطع النوم، فرجع إلى منزل الحكواتي وأيقظه مهدداً إياه بالقتل إذا لم يخرج عنترة من السجن ويفك قيوده في الحال... فاضطر الحكواتي لمتابعة القصة حتى أطلق سراح أمير الفوارس.

ومن أطرف ما يروى أنه عندما كان يصل الحكواتي إلى زواج عنترة، يقوم عشاقه بتزيين الحي وإقامة الأفراح وقرع الطبول...

ويرتبط وجود الحكواتي لمقاهي الرصيف التي تزين دمشق القديمة وسبقت بها عواصم العالم العربي والمزدانة بكراسي القش المريحة تنبعث منها رائحة القهوة.

وتتوضع مقاهي دمشق القديمة على جنبات ازقتها مثل مقهى النوفرة الذي يتجاوز عمره المئتي عام واشتهر بوجود الحكواتي فيه فإذا نزلت أمام الباب الشرقي للجامع الأموي تجد نفسك أمام شارع مرصوف بالاحجار البازلتية السوداء التي اكسبته رونقاً خاصاً وتتوسطه بركة ماء مظللة بعريشة عنب وفي وسطها نافورة ماء وإلى يمينك تجد مقهى النوفرة المعروف قديما بتقديمه لعروض كراكوز وعيواظ وهي شخصيات تقدمها دمى مصنوعة من الجلد المقوى تحرك خلف ستارة وراءها مصدر ضوئي على الاغلب مصباح كاز اوشمعة.

ويعود ظهور الحكواتي إلى عهد الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث كان الناس يعتمدون أسلوب التواتر الشعبي في تداول الأحداث التاريخية وسرد السيرة النبوية وسمي الحكواتي بعدة أسماء..في مصر سمي الراوي وفي العراق القص خون في حين أطلق عليه أهل المغرب اسم المحدث أما في بلاد الشام فسمي الحكواتي.

ويقول الدكتور فيصل العبد الله أستاذ التاريخ في جامعة دمشق إن الحكواتي بدا بملامحه الحالية في بلاد الشام ابان الحكم العثماني وهو قاص شعبي يجلس على كرسي عال في صدر المقهى موضحاً أن للحكواتي وجوداً يسبق العصر الإسلامي ففي كل الجماعات القديمة وجد رجل يحكي للجماعة أخباراً وروايات عن الجماعات التي سبقتها إضافة إلى الملاحم البطولية وهذا سبب وصولها إلينا.

ويروي الحكواتي قصصاً اجتماعية أو سياسية ناقدة مرافقة لتحريك الدمى بعد ذلك أصبحت تتلى الحكايات ولكن دون كتاب وذلك بالاعتماد على جعبة الذاكرة التي يتمتع بها الحكواتي او القاص مترافقة بأساليب التعبير سواء بنبرة الصوت أوحركة اليدين اوتعابير الوجه فالقاص فنان يجيد الإلقاء والحركات التعبيرية يتأثر بالكلمة والحادثة التي يقروءها فيعيشها ويعبر عنها من خلال إعادة الحكايات الشعبية مثل سيرة الف ليلة وليلة وكليلة ودمنة والهلالية وعنترة بن شداد وسيف بن ذى يزن والظاهر بيبرس وغيرها.. ففي ساعة محددة تمتلئ مقاعد مقهى النوفرة ويستعد المستمعون للإصغاء وعيونهم مشدودة الى كرسي وضع منتصف المقهى بمكان مرتفع يرى فيه الحكواتي الجميع فيسحب نجم العرض مخطوطته من تحت وسادة المقعد ويبدأ بسرد القصة وعند تصعيد الأحداث يشهر الحكواتي سيفه لتمثيل دور المحارب في المعركة الدائرة في الحكاية ليبهر الحضور فيهتفوا عاش البطل ثم ينقلك إلى عالم الزير سالم وعنترة بن شداد الأسطوري حين يضرب بسيفه أربعين رأساً إلى اليمين ومثلها إلى اليسار كما كانت الدنيا تقوم ولا تقعد إذا انهى الحكواتي كلامه وعنترة في السجن فكانوا يطالبونه بتحريره وفك أسره فما كان من أحد المستمعين في آخر الليلة التي لم يستطع النوم فيها الا الذهاب إلى بيت الحكواتي وتهديده بالقتل اذا لم يخلص عنترة وزوجه وينصره على اعدائه.

وفي هذا السياق يقول أبوشادي حكواتي مقهى النوفرة إن على حكواتي اليوم الخروج بكلمات جديدة وربما لا علاقة لها بالنص ليداعب الناس بها ويحاول أفهامهم ويتحاور معهم وحتى السيف الذي يستخدمه الآن لم يكن مطروحاً في الماضي وهو يستخدم بهدف الدعابة ولفت الانتباه.

أما عن نوع القصص التي يرويها فيقول.. هناك نوعان من القصص القصيرة التي تتغير كل يوم والطويلة التي تمتد على مدار سنة ونصف وتتألف من 180 كتابا وعلى الزبون المتابعة ليعرف النهاية مع انتهاء المدة.

وربما حكواتي اليوم لايشبه زملاءه في الماضي فهو على الغالب يقدم حكايته بشكل يتناسب مع السياح ومع شريحة من الجمهور التي تأتي فقط للضحك والتسلية بينما حكواتي الماضي يرغم الجميع على الصمت والاستماع إلى درجة خوفهم من ضياع اي جزء من الحكاية.

من جهته يقول الحاج محمد رمضان الذي يتردد على مقهى النوفرة منذ أكثر من خمسين عاماً..إن التلفاز سرق رزق الحكواتي بسبب منافسته له اذ انه يوفر على الناس عناء الذهاب الى المقهى لسماعه ومضيفاً أن مسلسلات اليوم حلت مكان الحكواتي حيث كانت أمي تنتظر والدي كل ليلة عند عودته من المقهى ليحكي لها ما جرى من احداث في قصة البطل التي يرويها الحكواتي كما كنت في طفولتي أسهر حتى الصباح أحياناً لأفكر بما سيحل بالبطل وكنت أخاف عليه وأبكي وأصلي لنصرته.

وتتساءل هنا عن سبب تمتع تلك القصص اوالحكاية بشعبيتها حتى اليوم حيث أصبح للقاص مهرجانه الخاص في أكثر من دولة لقد وصف القاص الروسي اشهر كتاب أدب الاطفال الكسندر بوبنوف الذي شارك في المهرجان الدولي الخامس الخاص للحكايات في دمشق الحكواتي بالدراما تورجي الذي يجيد السرد بحنكة الفنان المحترف صاحب المخيلة الخصبة والأداء البليغ كخطيب يتقن اسلوب التشويق واثارة الحماس والتعاطف مع ابطال قصصه واطلاق الحكمة والعبرة وقد يتحول إلى مصلح اجتماعي من نوع آخر.

ويجمع العديد من النقاد مثل سحبان السواح في كتابه الأسطورة والحكاية على أنه لايوجد بديل للطريقة التقليدية لرواية القصة أي السرد المباشر أمام الجمهور.

دمشق القديمة بعراقتها حافظت على هذا التراث العربي الحكواتي ويبقى مقهى النوفرة متارجحا بين المكان القادم من غياهب الماضي والرواد الاتين اليه من عصر السرعة فهو أحد الشواهد الصادقة على تاريخ عاشه اجدادنا في الماضي لتكون منارة لنا في المستقبل.


وقد ظهر الحكواتي بعهد الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب حيث اعتمد الناس قبل ظهور الراوي على التواتر الشعبي لتداول الأحداث التاريخية والسيرة النبوية ، و مع ظهور التدوين ظهر الحكواتي حيث سمي بمصر quot;الراويquot;، وفي العراق quot;القص خونquot; بينما يطلق أهل المغرب على من يقص الحوادث اسم quot;المحدثquot; وفي بلاد الشام quot;الحكواتيquot;.

ونشط الحكواتي في العصر العثماني في بلاد الشام، حيث تشير إحدى اللوحات بمقهى النوفرة لحكواتي دمشق الأول عبد الحميد الهواري أبو أحمد المنعش من مواليد 1885 والذي توفي عام 1951.