عبد الجبار العتابي من بغداد:في ليالي رمضان البغدادية، حين تسهر المساءات وتطل العادات والتقاليد برؤوسها، يمسي كل شيء مبهجا، تتفتح ورود الشوارع في الاحياء السكنية الشعبية خاصة منها، وامام اشراقات وقت (السحور) تسمع ضربات الطبل بتناغم جميل وهي تتراقص على ايقاع رمضاني مفعم بالحنين، ينتهي بكلمة واحدة تتكرر ثلاث مرات متتالية تكون بمثابة اللازمة للضربات التي تقوم على الطبل وهي كلمة (سحور.. سحور.. سحور )، تقال معبرة عن فحوى عمل الرجل الذي ينطلق في الطرقات في الليل بخطوات وئيدة،تنسجم مع االايقاع الذي يضربه، يمر قبل ان ينبلج الفجر، حيث وقت السحر، حيث تنتهي مهمته.
لابد ان تصل الضربات الى ساكني البيوت الذين تمر منها قافلة الرجل الذي يؤدي مهمة ايقاظ الناس، قبل ساعة على الاقل، من اجل تناول طعام السحور قبل ان يعلن المؤذن من المسجد القريب (الامساك)، وتلك مهمة ليست سهلة بالطبع، وهناك ناس تناوبوا على القيام بها ابا عن جد، كما هناك متبرعون يقومون بهذه المهمة داخل حدود المنطقة السكنية التي هم فيها فقط، مهمة ليست شاقة ولكنها ليست سهلة، وبالتأكيد ان القائم بها يشعر بالمتعة وينتظر الثواب، وهناك من لايستطيع مفارقة المهمة على الرغم من الاجهزة الحديثة التي تعوض عن الطبل وسواه لان يجدها ضرورية، انها ظاهرة رمضانية حياتية لا بد منها، ولا زالت تمارس في ليل رمضاننا الحالي، لانها طقس رمضاني لابد منه، لها نكهتها الاستثنائية التي تتصاعد في النفس مفعمة بالحنين، حتى ان احدهم قال لي : انا استمتع حين اسمع دقات (المسحرجي) اجد انه ينفض عني غبار الكسل فأنهض وانا اشعر بالراحة، ثم انني اشعر ان الناس مثلي تستيقظ على وقع ضرباته، فنتشارك معا في تأدية الواجب.
سألت إيلاف الحاج خلف حسين عن ما يتذكره للمسحرجي فقال : اتذكره وانا صغير حين لم يكن هنالك تلفزيون ولا مثل الان مكبرات صوت كثيرة، وكان يقوم بمهمة نعتبره فيها صاحب فضل على الناس الذين يستأنسون بصوت دقاته وصياحه، لم يكن شخصا واحدا بل عدة اشخاص يتبرعون، منهم من اهل المنطقة ومنهم من غيرها، اغلبهم يحمل طبلا ويضرب عليه، وهؤلاء لا نعرف اشخاصهم الا في يوم العيد حينما يزورون البيوت مطالبين بـ (العيدية) ويكشفون عن انفسهم، وتعطيهم الناس مالا او معجنات (الكليجة) احتراما وتقديرا.
والمسحرجي.. له تسميات عديدة، فهو في العراق يسمى (المسحرجي) او (ابو السحور) ويسمونه في مصر ودول اخرى (المسحراتي)، وفي الخليج يسمونه (ابو طبيلة)، وقد اعتاد الرجل الذي يمارس هذه المهمة ان يجوب القرى والمدن ليعلم المسلمين بموعد السحور، وهي ظاهرة عرفها المجتمع الاسلامي منذ اليوم الاول لفريضة الصوم على المسلمين، وقد استحدث صحابة الرسول الكريم طرقا مختلفة لاعلام المسلمين بموعد السحور، ويقال كما في بعض الروايات التاريخية ان هذه الظاهرة بدأت في مصر في عهد الفاطميين، اذ كان الخليفة الفاطمي يرسل رجاله ليطوفوا في شوارع القاهرة يدقون الطبول ويرددون الاناشيد الدينية ويهنئون الناس بقدوم شهر رمضان، وان اول ظهور (للمسحراتي) بطبلته في الديار الاسلامية كان في عهد الدولة الفاطمية بالعام (969) ميلادية، كما شارك شعراء وفنانون في اغاني المسحراتي، ويؤكد (الجبرتي / المؤرخ) انه شاهد وسمع وقرأ عن المسحراتي الذي يجوب شوارع القاهرة وسورية وتركيا وفلسطين والجزائر وتونس، وكان المسحراتي او المسحرجي او ابو طبيلة يعود في يوم العيد مارا بالناس ليأخذ منهم (عيديته).
وهنالك عدة طرق للمسحراتي منها : الطبل او الدق على الابواب او المناداة او دق الاجراس حتى، وذات مرة اخبرني الشيخ شمس الدين السيد حاتم عن (ابو السحور) في مدينة الموصل فقال : ومن علامات تنبيه الناس الى السحور هو ابو السحور، بقوله : (استعدوا للسحور، استعدوا للسحور ) او بطريقة الاحترام حيث يتبرع بعض الناس بقوله وهو في السطح العالي للدار ( احترام.. احترام امة محمد، احترام)، يكررها ثلاثا مرات او اكثر، اما في بغداد ايام زمان، اضافة الى طبل السحور كانت هناك دقات (الجرخجي) الذي هو الحارس الليلي، على ابواب الناس لايقاظ الصائمين للسحور، كما ان الصفيحة من (التنك) كانت تستخدم لهذا الغرض ومازالت!!.
في رمضاننا الذي نعيش ايامه، ففي اخر الليل نسمع ضربات على الطبل ومناداة تصدر من صوت قوي وسط سكون الليل وهدوئه، هذه الضربات الايقاعية لابد ان تصل ومعها الكلمات التي يرددها، مازال الرجل وحده او احيانا او مع احد اولاده الصغار او مع رفيق له يشقان الظلام الاخير بتلك الاصوات التي تجعل الناس يتململون من نومهم بالتأكيد ويحركون السواكن في اجسادهم للنهوض من اجل اعداد وجبة السحور، واحيانا اسمع من يضرب على (صفيحة ) وعلى الاغلب هذا من المتبرعين حين لايكون هنالك مسحراتي في المنطقة، او لرغبة من هؤلاء الاشخاص، فتكون هذه الصفيحة اداة في متناول اليد، لكنها تؤدي الغرض ذاته، فيرن صداها معلنا ايقاظ الناس، وقد سألت في العديد من مناطق بغداد عن (المسحرجي) فسمعت اجابات تقول : انه مازال يجوب الشوارع الاخيرة من الليل، ويتفقد احوال المتسحرين بطبله، مازال يمارس (هوايته) او (متعته) في التجوال قارعا على طبله حائزا على ابتسامات من الناس وان كان لايعلم بها ولا يراها، هي ابتسامات الذين يوقظهم طبله، وقال لي احدهم انه يسمع المسحرجي وهو يردد كلماته ويضيف اليها : (يا صايم.. وحّد الدايم).
حاولت ان اجد فسحة للامساك بهذا الرجل وهو يمر في شارعنا، ولكنني لم استطع في المرات الاولى، لكنني عرفت من يكون، وفي الصباح وجدتني اتحدث معه، وعرفت انه في الخمسين من العمر، يسكن المنطقة المجاورة، واحيانا يجوب الطرقات ومعه ابنه الصغير لكي يعلمه، وحين يجده نائما يعطف عليه ويتركه نائما، واحيانا يشارك احد اصدقائه التجوال دون ممارسة الضرب على الطبل، يقول الرجل واسمه (عباس فالح) انه تعود على المهمة منذ زمن طويل وبشكل عفوي، واصبح لزاما عليه في كل رمضان ان يؤدي واجب هذه المهمة، وهو يستيقظ قبل الجميع ويهيىء عدته للخروج وسط الظلام ومن ثم يبدأ من الشارع الذي يسكنه، مرورا بالشوارع القريبة ومن ثم البعيدة، يقول ايضا انه احيانا يظل يدق في مكان واحد حتى يرى الضوء يضاء، او حاليا تشغيل المولدات الكهربائية البيتية الصغيرة، او يسمع صرير الابواب، وانه يسمع عن تعاطف الناس معه ومديحهم له حيث يساعدهم في الاستيقاظ، حتى وان كان ذلك قليلا، فالحياة تغيرت كثيرا ولكن لابد من تواجد هذا التقليد الرمضاني في حياتنا كي نستمتع بمعنى الصوم كاملا، وقال ايضا : انني اشعر بمتعة كبيرة وانا اشعر انني اؤدي مهمة تخدم الناس وتعطيهم صورة جميلة عن رمضان، لان (المسحرجي) صورة من صور رمضان الجميلة التي اعتاد عليها واحد مظاهر الشهر الكريم.
الزميل الصحفي فؤاد العبودي المهتم بالتراث قال: عاش المسحرجي شخصية مضيئة في مشاعر الناس في بلاد المعمورة لما تحمله من خصائص لا تجدها الا في هذا الشخص المقترن وجوده وحضوره بشهر رمضان الكريم، وبالتأكيد يختلف عندنا عن شبيهه في البلدان العربية الاخرى، فكل (مسحراتي) يحمل تفاصيل الواقع الذي يعيشه ويرسم خطواته وفق ايقاع تراث وتقاليد البلد الذي يعيش فيه، ولا اعتقد ان (المسحراتي) الحالي له من الشهرة كما هو في مصر مثلا حيث يحمل قنديله الذي يشبه (قنديل ام هاشم) ويتجول في المناطق ساحبا خطواته في عمق الساعات المبكرة لصباح يوم جديد حاضا الناس على الاستيقاظ والتهيؤ لصوم يو غد، واضاف : ام في العراق فلم اشعر ولا ادري هل ان لدينا (مسحراتي) وكيف هو شكله وما هي مواصفاته، فقد عرفنا (المطبلجي) الذي يحمل (دمامه) ويمر على البيوت في الساعات التي تسبق موعد السحور، وعلى ما اظن ان هذا الرجل الفلكلوري هو بمثابة المسحراتي في العراق لانني لم الحظ طوال عمري بلقاء او سماع ان هناك (مسحراتي عراقي) بينما سبقت شهرة المسحراتي في مصر وبلاد المغرب العربي سواء كان من خلال المسلسلات التافازية او عبر ما كتبه الباحثون والمهتمون بشؤون التراث والاعراف والتقاليد، لذلك من المهم التفريق بين المسحراتي و(الطبلجي) الا اذا كنا قد اتفقنا على ان الاخير هو الذي يمثل (المسحراتي) فتنتهي اشكالية التمثيل لهذا الرجل هنا وهناك.
لو اغمض احدنا عينيه لتراءت له صور عديدة لهذا الرجل عبر العصور، ونسمع صوته وهو يخترق الاجواء ليصل الى بغيته،وبعضها عشناها ونتوق اليها، يشدنا الحنين اليها مع كل قدوم لرمضان، ونحكيها لمن حولنا، فالمسحرجي او المسحراتي او ابو طبيلة، حكايات ممتعة تمتد ما بين اخر الليل والفجر، لكنها تظل على ضفاف الذاكرة تؤكد اشتياقنا وعمق تتواصلنا مع شهر رمضان المبارك.
التعليقات