لم تجمع دورة اولمبية سابقة من اللاعبين والدول كما جمعت دورة روما عام 1960 التي أقيمت من 25 آب/أغسطس إلى 11 أيلول/سبتمبر بمشاركة 5338 رياضيا بينهم 611 لاعبة من 83 بلدا، بينها جنوب أفريقيا التي غابت بعدها بسبب الحظر الذي فرض عليها لاعتمادها سياسة التمييز العنصري، ولم تعد إلى الساحة الاولمبية إلا عام 1992 في دورة برشلونة.

وحضر الألمان ضمن بعثة موحدة، كما حضر للمرة الأولى رياضيون من المغرب والسودان وتونس والجمهورية العربية المتحدة (سوريا ومصر)، وسان مارينو وتبارى المشاركون في 151 مسابقة ضمن 17 لعبة هي: ألعاب القوى والتجذيف وكرة السلة والملاكمة والكانوي كاياك والدراجات والفروسية والمبارزة وكرة القدم والجمباز ورقع الأثقال والهوكي على العشب والمصارعة والسباحة والخماسي الحديث والرماية واليخوت.

وحل الاتحاد السوفياتي في المركز الأول برصيد 103 ميداليات منها 43 ذهبية، مقابل 71 ميدالية (34 ذهبية) للولايات المتحدة و36 (13 ذهبية) لايطاليا.

وتمثل الرصيد العربي بفضيتين وبرونزيتين من خلال إحراز المغربي عبد السلام الراضي المركز الثاني في سباق الماراتون، والمصري عثمان السيد المركز الثاني في المصارعة اليونانية-الرومانية (وزن الذبابة)، ومواطنه عبد المنعم الجندي المركز الثالث في الملاكمة (وزن الذبابة)، والعراقي عبد الواحد عزيز المركز الثالث في رفع الأثقال (وزن الخفيف).

وعرفت الألعاب نجاحا كبيرا ولا سيما من خلال النقل التلفزيوني المباشر أو المسجل ورائدته شركة "اوروفيزيون" التي نقلت وقائع حفل الافتتاح مباشرة إلى 20 دولة أوروبية. وتابع وقائع المسابقات مواطنو 100 دولة بينها اليابان والولايات المتحدة وكندا.

وبات نشيد "ساماراس وبالاماس" نشيدا ثابتا للألعاب في الدولة التي استوحت التقاليد والرموز الرومانية في كل شيء حتى في الشعار والتاريخ وكتابة أرقام أيامه وشهره بالأحرف الرومانية.

وتأقلم العالم مع القوتين العظمتين الطاغيتين، وصادفت الألعاب وبزوغ نجم الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف وتحضير الرئيس الاميركي جون كينيدي حملته الانتخابية.

والى العظمة الإيطالية في الافتتاح والتنظيم والاحتفالات حيث عاش الجميع مشاهد وكأنهم يمثلون في أفلام فيدريكو فيلليني، فان جانب المنافسات والأسماء الكبيرة يبقى الأبرز في "الاولمبياد". فعلى رغم تفوق لي كالهون ورالف بوسطن ودون براغ في سباق 110 م حواجز والوثب الطويل والقفز بالزانة، فان ألعاب القوى الاميركية "تراجعت" وتوج الألماني الغربي أرفين هاري والإيطالي ليفيو بيروتي بطلين لسباقي 100 و200 م، والألماني كارل كوفمان في 400 م.

وبرز في المسافات المتوسطة النيوزيلندي بيتر سنيل والاسترالي هيربرت ايليوت، وتألق الإثيوبي الحافي القدمين ابيبي بيكيلا ففاز في الماراتون وأهدى أفريقيا لقبها الكبير الأول في سباق عريق ل"أم الألعاب".

وتألقت الاميركية ويلما رودولف "الغزالة السمراء" ففازت بثلاث ذهبيات في المسافات القصيرة. وتعرف الناس على وجه جديد في الملاكمة هو الاميركي كاسيوس كلاي (محمد علي لاحقا).

جدال في توقيت السباحة 

وكان الاستراليون مميزين في السباحة، لكن نهاية سباق 100 م حرة شهدت جدلا كبيرا، إذ منح حكمان من أصل ثلاثة مكلفين بتحديد صاحب المركز الأول الفوز للاسترالي جون ديفيت، فيما اعتبر الثالث الاميركي لانس لارسن فائزا، بيد أن حكمين من الثلاثة المكلفين بتحديد صاحب المركز الثاني أعلنوا أن ديفيت حل ثانيا، وأكد الثالث أن لارسن هو الوصيف. وقرر الحكم الرئيس منح الفوز للسباح الاسترالي، لكن وفي ضوء التوقيت الذي ضبطه الميقاتيون سجل 2ر55 ثانية في مقابل 1ر55 للارسن.

وبناء عليه، قرر الحكم الرئيس تعديل التوقيت الرسمي علما أن الصورة النهائية "فوتوفينش" أكدت فوز لارسن. وحاول المسؤولون الاميركيون في السنوات الأربع التالية تعديل القرار لكن دون جدوى.

ولم يسبق أن حقق الإيطاليون إنجازات فوق العادة في الدورات السابقة، لكنهم أرادوا أن يكونون متألقين على أرضهم. هكذا تميز بيروتي وحطم الرقم العالمي في سباق 200 م (5ر20 ثانية)، رقم اعتبر وقتذاك اعجازيا. انه عداء "جيغولو" ينافس مرتديا نظارة سوداء ويتفوق على "اسودين" الاميركي لي كارني والفرنسي الإفريقي عبد الله سيي، متقدما عليهما بفارق مترين.

والنجم الإيطالي الأخر، كان الملاكم نينو بنفونيتي الذي إستقطب الأضواء على رغم أنها دورة "كاسيوس كلاي" وجسد قصة ابن مدينة تريستي الشجاع (22 عاما) الذي فاز بذهبية وزن "67 كلغ"، في إطار سيطرته الأوروبية المطلقة التي إستمرت عشرة أعوام.

وواجه بنفونيتي خمسة ملاكمين تباعا أولهم وأبرزهم الفرنسي جوسلين الذي قال عنه "ولما نلت منه أدركت أنني سأتوج بالذهب، وكان هناك ايضا الكوري كين سو كين الذي فاز علي بعد ست سنوات في بداية مسيرتي الاحترافية ملحقا بي الخسارة الأولى".

ومن ابرز "الخائبين" في دورة روما البعثة الفرنسية الكبيرة (237 شخصا) والتي لم تحصل إلا على فضيتين وثلاث برونزيات، ما جعل صحيفة الفيغارو تنشر "كاريكاتورا" تهكميا يظهر الجنرال شارل ديغول غاضبا موجها لومه إلى مسؤولي الرياضة الفرنسيين، قائلا لهم "حتى في الرياضة علي أن أشمر عن ساعدي وانزل إلى الميدان".

وحل ميشال جازي ثانيا في 1500 م، علما أن مواطنه ومنافسه المباشر ميشال برنار لعب من دون قصد دور الطريدة المحفزة للاسترالي هيربرت إليوت الذي حطم الرقم العالمي مسجلا 6ر35ر3 دقائق.

في المقابل، سجل الاميركيون "ثلاثية" لافتة في 110 م حواجز، فإلى تحطيم كالهون الرقم الاولمبي (8ر13 ثانية)، حل ويلي ماي ثانيا، وهايز جونز ثالثا.

وكان مواطنهم اوتيس ديفيس المرشح الأوفر حظا لحصد لقب سباق 400 م، لكن الألماني كوفمان أدخل رأسه قبله عند خط النهاية فحل أول، أما النتيجة الزمنية فكانت تحطيمها الرقم القياسي العالمي (9ر44 ث).

وتكرر المشهد ذاته في 100 م مع الألماني هاري (23 عاما) بفوزه على الاميركي دايف سايم (2ر10 ث) بأسلوب "الانقضاض على خط النهاية" مسجلا الفوز الأوروبي الأول على المسافة منذ دورة 1924.

والملاحظ أن السيطرة الاميركية على سباقات الجري وألعاب القوى عموما إهتزت لكنها لم تتدحرج، وهذا ما أكده رالف بوسطن من خلال فوزه في الوثب الطويل 12ر8 م، محطما رقما "عجوزا" لمواطنه جيسي اوينز وتحت أنظاره، صمد 24 عاما، أي منذ دورة برلين 1936.

 الغزالة رودولف 

لكن المجد الاميركي اختصر بـ"الغزالة السمراء" ويلما رودولف ابنة ال20 ربيعا، ورسخته في ذاكرة الأجيال من خلال فوزها بذهبيات 100 م (11 ث) وهو رقم عالمي جديد لم يعتمد نظرا لسرعة الرياح، و200 م (24 ث)، والتتابع 4 مرات 100 م (5ر44).

ومن يصدق أن رودولف كانت مصابة بالشلل في صغرها، وأمضت سبعة أعوام في العلاج، وهي أم لطفلة من غير زواج، وهذا ما أخفته عن وسائل الأعلام.

وتلفت رودولف أن الفرنسيين أطلقوا عليها لقب "الغزالة السمراء"، "فالاميركيون البيض كانوا ينادونني بالغزالة فقط حين تمثل الولايات المتحدة في الخارج. أما تسمية الغزالة الزنجية فناداني بها اميركيون كثر في الداخل لان التمييز العنصري كان قويا وسائدا وقتذاك".

وتتذكر رودولف أنها تعثرت خلال التدريب وسقطت أرضا "فشاركت في السباقات وساقي مربوطة، كان سباق 100 م رائعا، أسفت لعدم اعتماد الرقم عالميا، ولا أزال متأثرة بسباق التتابع. تدربت من اجله مع العداءات الثلاث الأخريات طيلة خمسة أعوام كنا في جامعة واحدة، وجاء الفوز بمثابة مكافأة كبيرة".

والفرادة الاسترالية فعلت فعلها مجددا في السباحة، إذ حصدت دون فرايز لقب 100 م حرة. وإضافة إلى تتويج ديفيت في سباق الرجال، فاز موري روز في 400 م وديفيد تهايل في 100 م ظهرا، و"الفتى الرائع" جون كونراد (18 عاما)، الذي عانى بدوره من الشلل في طفولته، في 1500 م.

وكان رقم كونراد ابن العائلة اللاجئة من ليتوانيا مثاليا في ذلك الحين (17ر19ر6 د)، وهو على غرار أقرانه لا يجد في ما يحققه غريبا "زاولنا التدريب لتمضية أوقات الفراغ، كنا نخرج من المدرسة عند الثالثة بعد الظهر، وكانت السباحة تسليتنا الوحيدة. كنت أقيم مع عائلتي في مخيم للاجئين يبعد 500 كلم عن الشاطىء، والطقس الحار هناك وملائم جدا للنزول في مياه حوض السباحة. وجد الاستراليون في هذه الرياضة ضالتهم الكبرى للتقدم والبروز عالميا، أعدوا برنامج التدريب والتطور التنافسي منذ سن العاشرة، وهو أسلوب اتبعه الاميركيون لاحقا".

 بدايات محمد علي 

وفي الأمسية الأخيرة لنزالات الملاكمة، قطف الاميركيون ثلاث ذهبيات إذ فاز ويلبرت ماكلور في وزن 71 كلغ، وادوارد كرووك (75 كلغ) وكاسيوس كلاي (81 كلغ)، إلا أن الأخير (18 عاما) كانت له السطوة على الأضواء، وهو لفت الأنظار إليه منذ بدء الألعاب، إذ كان يختلط بالجميع يحادثهم ويقدم لهم "دبابيس تذكارية".

وفي غرفة تغيير الملابس لا يكف من المزاح والقفز وفق ما كان يعتمده على الحلقة، وتوج "مسيرته" بإسقاطه في النهائي البولندي زبيغينيو بيترزيكوسكي بطل أوروبا ثلاث مرات وثالث دورة ملبورن 1956. وهو عوض في الجولة الثالثة الحاسمة تعثرة في الأوليين فمضى نحو الذهب من خلال لكماته اليمينية التي أسالت الدماء على وجه منافسه العسراوي المتفوق، فخسر بالضربة القاضية، والاستسلام، وكانت البداية المشرقة والنزاع مع المحيط والحكومة لفتى اتجه إلى الملاكمة صدفة وهو في الثالثة عشرة من عمره حين فوجىء بسرقة دراجته في حديقة لويفيل، وفي إطار بحثه عنها وتوجهه غاضبا لإبلاغ ضابط الشرطة في المنطقة، ولم يكن سوى المدرب جو مارتن الذي أرشده إلى "الفن النبيل".

والنهاية الاولمبية كانت بسباق الماراتون الذي أخترق في "العشية" في اليوم الأخير من الألعاب شوارع العاصمة الإيطالية. إنها فرصة ل"السائح" الإثيوبي ابيبي بيكيلا ليكتشف روما القديمة ويحصد الانتصار ويحطم الرقم القياسي الذي حققه التشيكوسلوفاكي أميل زاتوبيك في دورة هلسنكي 1952 (2ر03ر23ر2 ساعة).

خرج بيكيلا (28 عاما) الجندي في الحرس الإمبراطوري الإثيوبي من بين الصفوف، واخترق الطليعة ليبلغ خط النهاية حافي القدمين، فالأحذية الرياضية لا تريحه، والجري من دونها أسهل، وسجل 2ر16ر15ر2 سا مقابل 6ر41ر15ر2 سا للمغربي عبد السلام الراضي.

وكان بيكيلا (58 كلغ، 76ر1 م) نموذجا لجيل من العدائين الأفارقة الذين طبعوا المسافات الطويلة بطابعهم الخاص، والحصاد المثمر لمدرب اللياقة البدنية في كتيبة حرس الإمبراطور هايلي سيلاسي، السويدي المولود في هلسنكي اولي نيسكانن.