نيقوسيا: كُرّمت باريس مجدّدًا فمُنحت عام 1924 شرف تنظيم دورة الألعاب الأولمبية الثامنة بعد 24 عامًا من الأولى، و30 عامًا من تأسيس اللجنة الاولمبية الدولية، وتزامنت مع مرحلة التغيرات الثقافية والفنية والعروض المسرحية والمناظرات والندوات التي راجت كثيرًا في المقاهي والمسارح.


كان فايسمولر حتى سن الثامنة يخاف من المياه ويخشى الاستحمام في مغطس المنزل. وصادف ان شاهده مدرب في شيكاغو ولفتت نظره قامته الممشوقة ويداه وقدماه الكبيرتان فـ"روض" روعه وحمله ليحصد لاحقًا 57 لقبًا اميركيًا و62 رقمًا عالميًا

حُرمت ألمانيا من المشاركة كما حصل قبل 4 أعوام. وبدءا من هذه الدورة، منحت اللجنة المنظمة نقاطًا للفائزين الستة الأوائل في الأدوار النهائية، فأعطت الحاصل على المركز الأول 7 نقاط، وصولا إلى نقطة واحدة لصاحب المركز السادس، واعتمدت للمرّة الأولى قرية أولمبية مجمّعة للرياضيين.

وفي الترتيب النهائي لجدول الميداليات، حلّت الولايات المتحدة أولى برصيد 45 ذهبية فنلندا (14) ثم فرنسا (13).

ملوك وأدباء

وكرمى للألعاب، تحوّلت بقعة معزولة في منطقة كولومب إلى واحة نابضة بالحياة.

وإذا كان "تدشين" الألعاب حشد جمعًا كبيرًا من مشاهير العالم، فتقاطرت سيارات رولز رويس لنقلهم ومنهم شاه إيران وإمبراطور إثيوبيا هايلي سيلاسي وأمير رومانيا، واحتلوا أماكنهم في منصة الشرف بجانب رئيس فرنسا غاستون دوميرغ. جيّشت المنافسات شريحة الفنانين والأدباء والشعراء واحتدمت "المعارك الأدبية" في تمجيد الابطال سعيًا إلى الظفر في المباريات الأدبية الموازية.

استوحى الفنانون أعمالاً عدة من برج ايفل المشرف على كولومب، وقسَم الرياضيين الذي أدّاه احد أبرز الوجوه المحلية جيو أندريه الذي سبق له المشاركة في دورتي لندن 1908 وستوكهولم 1912، والمبارزات والنزالات ومسابقات المضمار والميدان.

كانت المرحلة عصر أدباء منذ بول كلوديل وبول فاليري وأندريه جيد والفرق الموسيقية الجوالة، والأغاني التي تدغدغ القلب والرأس، وأشهرها أغنية موريس شوفالييه الداعية إلى الحب والانشراح "لننسى الهموم... الأحزان عابرة وكل شيء يتدبر".

كثر هم الذين خطفوا الأضواء، في مقدّمهم العداء الفنلندي بافو نورمي نظرًا لإحرازه خمس ذهبيات في جري المسافات المتوسّطة والطويلة، وعداء المسافات القصيرة الاميركي هارولد أبراهامز، والسباح الاميركي جوني فايسمولر الذي لعب دور طرزان على الشاشة.

نورمي الظاهرة

وينبغي التوقّف عند ظاهرة الفنلندي بافو نورمي بطل سباق 1500 م و5000 م. كان يظهر عليه دائمًا الحرص على التركيز والحضور الذهني والبدني فظن البعض انه يفضّل الانزواء وعدم الاختلاط. وعرف عنه قيامه بتدريبات مرحلية تصاعدية لضمان اللياقة والقدرة على التحمل، لذا سُمّي بـ" رجل الحسابات" والإيقاع والخطوات المدروسة الواسعة وانتظام ذلك مع التنفّس وتآلفه.

كان نورمي (27 عامًا) اكتشاف العاب أنتورب 1920، حطم الرقم القياسي الاولمبي في سباقي 1500 م (3:06.53 دقائق) و5 آلاف (14:31.2 دقيقة). وجاء انتصاره في السباق الثاني بعد 20 دقيقة فقط من إنهائه الأول مكلّلا بالغار، وهذه ظاهرة نادرة بحد ذاتها.

وشارك نورمي أيضًا في سباق الضاحية (10 آلاف متر) الذي بلغ فيه عدد المتبارين 36 عداء من فرنسا والولايات المتحدة والسويد وفنلندا، لكن 23 انسحبوا، وكتبت الصحف في اليوم التالي معلقة انه سباق خطر، كان درب جلجلة في ظل حرارة وصلت إلى 40 درجة مئوية، وكان يجب إلغاؤه. الاتحاد الفرنسي لألعاب القوى اخطأ من دون شك". كان الغريب ان نورمي أنهاه بفارق كبير عن الآخرين، نضرًا ومنعشا!.

أما ابراهامز الذي فشل في محاولته الأولى في انتورب، فقد عادل في باريس الرقم الاولمبي للمئة متر (10.6 ثوان) مرتين في التصفيات وفي السباق النهائي. وتميّز القس البريطاني إريك ليدل، بارتدائه السروال الطويل إلى ما دون الركبتين، وتمتعه بطاقة تفوق قوّة لاعبي الركبي، وهو أصبح مرسلا مبشّرًا في الصين.

كما برز هارولد اوسبورن في الوثب العالي وعرف أسلوبه بـ"الدوران الكاليفورني" بعدما اجتاز ارتفاع 1.98 م، فضلاً عن ذلك غنم الميدالية الذهبية في المسابقة العشارية وبات أول من يحقق هذه الثنائية الفريدة.

وأجري سباق التجذيف في مياه السين، وعاد اللقب للمرة الثالثة إلى الأميركي جون كيلي، لكنه لم يصل يومًا إلى شهرة ابنته غريس التي أصبحت أميرة موناكو.

وأطلق على السباح جوني فايسمولر لقب "الوجه المضيء"، فهو أحرز بسهولة بالغة ذهبيات السباحة لمسافات 100 م حرة وفيه سجل رقمًا قياسيًا كاسرًا حاجز الدقيقة (59 ثانية)، و 400 م حرّة والتتابع، ولو سمح له بخوض سباقات أخرى لفاز بها كما أوضح شخصيًا.

والمعمرون الذين تابعوا منافسات حوض توريل عامذاك يصفون تلك الأيام بـ"التاريخية"، كان أسلوبه جديدًا، ومثيرًا يعوم ونصف جسده في الماء.

هذا الشاب الأسمر البشرة (مواليد 1904) من أصل نمسوي كان حتى سن الثامنة يخاف من المياه ويخشى الاستحمام في مغطس المنزل. وصادف أن شاهده مدرب في شيكاغو ولفتت نظره قامته الممشوقة ويداه وقدماه الكبيرتان فساعده ليحصد لاحقًا 57 لقبًا أميركيًا و62 رقمًا عالميًا.

فايسمولر طرزان الشاشتين الفضية والذهبية، انطلق في السينما عام 1930، وتلقفته هوليوود لأنه كان يعرف العوم جيدًا. اشتهر بصرخته المدوية في أفلامه أكثر من حواراته مع طرزان الصغير (جوني شيفيلد). وهو أحسن هذه الصنعة وتألق في هذه الميزة.

الفرسان الاربعة

ومن مشاهير دورة باريس 1924 فرسان كرة المضرب الأربعة أبطال كأس ديفيس لاحقًا. هنري كوشيه، جان بوروترا، جاك برونيون ورينيه لاكوست الذين سعوا لان يتوجوا أبطالا أولمبيين.

وفي عام 1920، شارك كوشيه للمرة الأولى في دورة خارج مدينة ليون، حين تبارى في أيكس لي بين، وتابع إخبار الألعاب الاولمبية في أنتورب، وتمنى إن يتوج مثل سوزان لنغلن وجوزيف غيمو، يومها كانت النظرة إلى الاولمبيين بأنهم "سوبر أبطال".

وفي دورة باريس، بلغ كوشيه نهائي فردي المضرب حيث خسر أمام البريطاني فنسنت ريتشارد، ما جعل الازدحام كبيرًا على باب الملعب "ولو لم يعرف عني أحدهم بعد انتظار استغرق 20 دقيقة لبقيت خارجًا".

وفي الزوجي حلّ كوشيه وبرونيون في المركز الثاني، وصمّما على بذل الجهد والتعويض في دورة أمستردام 1928، لكن كرة المضرب حذفت من البرنامج.

وإذا كان الانتصار الذي طال تحقق عبر كأس ديفيس وهي بالطبع رمز كبير، فإن النظرة تختلف إلى الميدالية الاولمبية وسبق أن شارك برونيون في دورة أنتورب التي شاهدت تألق ديكوجيس ولنغلن في الزوجي. ويتذكّر أن الأميركيين احتجوا يومها على خوضها المباريات بحجة أنها محترفة، "وأنا شخصيًا استفدت من متابعة أدائها، كانت تقنياتها عالية جدًا، لاعبة لا تقهر قوية وحاضرة للتصدّي والهجوم من مختلف الزوايا والخطوط".

أما لاكوست، فخاض وبوروترا نهائي ويمبلدون وبات الأخير أول فرنسي يحرز اللقب هناك، وتوجّها للمشاركة في دورة باريس الأولمبية مرهقين، لكن صداقة كبيرة ربطتهما مع زميليهما دامت أكثر من 60 عامًا.

ومن أحاديث الذكريات مع بوروترا نقتطف أسفه على حذف كرة المضرب من الجدول الأولمبي "بسبب التباسات الهواية والاحتراف، اعتقد أنهم كانوا على خطأ، واعتبر البعض ان كأس ديفيس تكفي لأنها قريبة من روح الألعاب، ولم يدركوا ان للألعاب الاولمبية نكهة خاصة ولا يجوز ان تطغى عليها الدورات الدولية الكبيرة، لأنها توسّع القاعدة وتجعلها أكثر شعبية وديمقراطية".