شهر تشرين الثاني - نوفمبر من كل عام هو موعد البريطانيين مع زهور الخشخاش. والزائر للعاصمة البريطانية لندن لا بد أن تستوقفه تلك الزهرات الحمراء الرقيقة معلقة في عروة سترات الرجال أو فساتين النساء أو قبعات المارة، حيث تتحول هذه الزهرة إلى زينة منذ بداية هذا الشهر حتى نهايته.


لا يقتصر الأمر هنا على صغير أو كبير، رجل او امرأة، أرستقراطي أو بائع جرائد، فالكل يتوحد في هذا الشهر للتعبير عن مشاعر إنسانية قد تتجاوز عند البعض حدود الوطنية الضيقة إلى فضاء العالم الأرحب. فما حكاية هذه الزهرة مع البريطانيين وما حكايتهم معها؟

زهور قصيرة العمر
يحكي التاريخ عن دموية النصف الأول من القرن العشرين، وعن الآلام التي خلفتها حربان مدمرتان حصدتا أرواح ملايين البشر وتركتا المرارة في النفوس. وظل الناس يشعرون بالرعب والغضب والاشمئزاز من الحروب، ومن الذي يتسبب بإشعالها، وكانوا بحاجة إلى رمز يعبرون به عن هذه المشاعر ويؤكدون عبره تعاطفهم مع من سقط في ساحات القتال، إضافة إلى رفضهم المزيد من الحروب. لم يجدوا أفضل من زهور الخشخاش الرقيقة التي تنمو وتتوهج تحت أشعة الشمس إلا أنها سرعان ما تشحب وتذبل حتى قبل أن تشبع حواس الناظر إلى جمالها، وما أشبه حياة هذه الزهرة بحياة الفتيان اليافعين الذين يذهبون إلى الحرب ويفقدون حياتهم قبل أن يهنأوا بها وتهنأ بهم أمهاتهم.

ويبدو ان العلاقة بين هذه الزهور وبين الحروب ليست وليدة هذه الأيام، فقد صور أحد الأدباء الذين عاشوا أيام نابليون ساحات المعارك مثل أرض جدباء لكنها سرعان ما تتفجر بزهور حمراء قانية ما إن تنتهي المعركة ويهدأ ضجيج القنابل والدخان وتظهر للعيان جثث الجنود الذين سقطوا صرعى على أرضها. وبعد حوالي مئة عام وخلال الحرب العالمية الأولى كتب أحد الشعراء، وكان يعمل طبيباً مجنداً في الجيش الكندي قصيدة رائعة تحمل عنوان quot;في حقول فلاندرزquot;، استعار فيها الرمز نفسه ليشير به إلى الجنود الصرعى في أحد الحقول الفرنسية التي تحمل اسم فلاندرز حيث يقول في قصيدته:

في حقول فلاندرز تتوهج زهور الخشخاش
وتتمايل بين صفوف القبور صفا.. صفا
الطيور لاا تزال تغني وتطير بشجاعة
إلا أن هديلها لا يكاد يسمع
في ضجة أصوات القنابل
نحن القتلى .. كنا أحياءً قبل أيام
لقد عشنا
وأحسسنا بنداوة الفجر
وتوهج الشمس
كنا عشاقا
وكنا معشوقين
ولكننا الآن ممددون صرعى في حقول فلاندرز

بسرعة قياسية تناقل الجنود هذه القصيدة وصارت أغنية يترنمون بها، وكأنهم ينعون بها أنفسهم.
بعد حوالى سنتين من انتهاء الحرب العالمية الأولى وبالتحديد عام 1920 وضعت إحدى العاملات في مطعم نيويوركي، زهرة خشخاش في عروة قميصها في ذكرى انتهاء الحرب، وتبعتها بعض النسوة الأخريات. ثم جاءت امرأة فرنسية في زيارة إلى نيويورك ولاحظت استخدام الزهرة كرمز، فعادت الى فرنسا لتبدأ صنع زهور يدوية وتبيعها للناس وتجمع التبرعات لصالح الأطفال في المدن الفرنسية المتضررة من الحرب.

وبعد ذلك بحوالى السنة قام وزير أميركي ببيع زهور الخشخاش في حملات واسعة للتبرع لصالح المحاربين. وبدأ هذا التقليد ينتشر تدريجياً، في أوروبا وأستراليا. كما تحولت القصيدة الى ما يشبه النشيد الوطني في كندا وإلى أحد مقررات الدراسة الثانوية في مدارس بريطانيا، وذلك لما تحمله من معان رمزية جميلة عن مشاعر قتلى الحروب الذين لا يريدون أن يطويهم النسيان.
اليوم نرى زهور الخشخاش تزهر في نوفمبر من كل عام، لا على أرض المعارك والقتال، إنما على ملابس ملايين البشر في أنحاء العالم، في احتجاجات صامتة على كل ما يوجع الناس ويهدد أمنهم.

زهور الخشخاش الحمراء Red Poppy

bull;استخدمت هذه الزهور منذ زمن بعيد رمزاً للنوم بسبب المادة المخدرة الموجودة فيها، ورمزاً للموت بسبب لونها الأحمر الذي يشبه الدم. وكانت هذه الرموز شائعة في الحضارتين اليونانية والرومانية.

bull;وظفها الكاتب الاميركي ليمان فرانك في قصته الشهيرة The Wonderful Wizard of Oz التي كتبها للأطفال وصور فيها حقول الخشخاش السحرية التي تحول من يدوس عليها إلى كائن نائم لا يستطيع الاستيقاظ. وتحولت هذه القصة إلى فيلم رسوم متحركة وما زالت تطبع بأعداد كبيرة حتى اليوم.

bull;تصنع زهور quot;يوم الذكرىquot; الحمراء من الورق أو البلاستيك، وتأتي عادة بدائرة سوداء في الوسط، إلا ان بعض المصممين يصرون على أن تكون الدائرة خضراء كرمز لديمومة الحياة التي ضحّى من أجلها الجنود.

bull;بيعت في العام الماضي 26 مليون زهرة في بريطانيا وحدها، وجمعت رابطة المحاربين القدامى إيرادات وصلت الى 30 مليون جنيه استرليني.

bull;أغلب الناس يفضلون شراء الزهرة الحمراء، إلا أن البعض يفضل زهرة الخشخاش البيضاء أو الأرجوانية.

bull;رغم أنهم غير مجبرين على شرائها إلا ان معظم الناس لا يتخلفون عن هذا الطقس السنوي، مع وجود بعض المعارضين ومن أشهرهم جون سنو مذيع القناة الرابعة البريطانية الذي يصر على الظهور على الشاشة دون ان يزين سترته بوردة حمراء لأنه يعتبرها زهورا دموية كما يقول.

bull;بعضهم يضع الوردة إلى جهة اليسار قريبا من القلب، وبعضهم يرى أن جهة اليمين تناسب النساء أكثر. إلا أنه لا يوجد مكان صحيح وآخر خطأ وكل يضعها بالجهة التي يريد.