يشهد المجتمع السعودي المحافظ في غالبه, حالة من التجاذب في أمور الإفتاء للأمور الدينية الدنيوية التي تكرر مشهدها المتناقض خلال العامين الماضيين, الأمر الذي خلق جدلا واسعا في أوساط الإسلاميين وانتقاداً لبعضهم البعض على أمور كان ينظر المجتمع أنها من المسلمات التي لا تقبل النقاش, لكن خروج ثلة منهم تعكس الرأي السائد وفق أدلة وبراهين من مصادر خصومهم جعلهم أمام مرمى نيرانهم وانتقاداتهم عبر المنابر والصحف.

خلال العامين الماضيين شهد سوق الفتاوى حالة من الجزر والمد في صناعتها وانتقادها, فالأمور التي كانت معلومة ومسلم فيها لدى المجتمع السعودي خاصة, أصبحت بين اجتهادات بناء على ما يطرحه باحثون في أمور الفقه الإسلامي, وبين تأكيد على حرمتها كما يرى أنصار الفريق الأصولي.

آخر عاصفة الجدل في هذه الأوساط كانت من إمام الحرم المكي السابق الشيخ عادل الكلباني الذي أجاز الاستماع إلى الغناء وأن المعازف من المباحات, الأمر الذي خلق موضوعا للبعض من خطباء الجوامع في السعودية وكذلك استغلال بعض الباحثين والمنتسبين للتيار الإسلامي انتقدوا فيه الشيخ الكلباني وفتواه بإباحة الغناء الذي قال الكلباني فيها بأنه ذهب إلى ما ذهب إليه الإمامين النووي وابن كثير وكذلك الشيخ القرضاوي والجديع في إباحتهم للغناء والمعازف .

السديس يطالب بالحجر على quot;الكلبانيquot; وquot;العبيكانquot;

وشهد موضوع الكلباني انتقادا من زملائه السابقين quot;بمحرابquot; الحرم المكي الشيخين عبدالرحمن السديس وسعود الشريم الذي ذهب الأول فيه إلى طلبه بان يتم الحجر على مصدري فتيا إباحة الغناء وفتيا إرضاع الكبير في إشارة للشيخ لعادل الكلباني والمستشار بالديوان الملكي الشيخ عبدالمحسن العبيكان, بينما نسبت إلى الشريم إلى نصيحة شعرية تطلب منه الرجوع عن فتواه التي تبيح الغناء كونه كان إماما للحرم المكي بمكة المكرمة, ولم يكن حال منتقدي الكلباني بعيدا عن السديس والشريم بل جاءت ردة الفعل من رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق الشيخ صالح الفوزان الذي هاجم الكلباني وطلب منه البقاء في مسجده إماما يتلو القرآن فقط. ومن باب عدم الضعف والتنازل أمام الجمهور جاء رد الكلباني على الفوزان مطالبا إياه بالاعتذار أولا للنبي محمد لأنه الإمام الأول للمساجد في الإسلام وهو مارآه الكلباني انتقاصا من قيمته.

مصائب المفتين فوائد للمستفتين !

أمور الخلاف في الفتيا شقت الصف المساند للمفتين الذين كانوا يعيشون أزمة التنافس في الجواب الصحيح للمستفتي, فأصبحت القنوات الدينية وغيرها التي كانت تتسابق على الظفر بشيخ أو مجرد باحث شرعي لجذب جمهور المستفتين العريض بالسعودية لتقديم برامج quot;الإفتاءquot; بعيدة عن التفاعل من قبل المجتمعات السعودية بعد الخلافات التي بدأت تدب وتظهر على السطح أمام العامة بشأن قبول الآراء وإجازتها. أحد معدي برامج الإفتاء رأى أن quot;ذلك أمرا صحياquot; وأوضح أن quot;الخلاف في مثل هذه الأمور هو رحمة بالعبادquot;. فعقب ما تعلمت المجتمعات أن من يستمع للغناء أو يعزف على أنواع المعازف فإن النار quot;الأخرويةquot; هي جزاءه وسيصب في أذنيه حديدا مذابا, اكتشفوا أن خلاف المفتين هو اختلاف على ماهية العقاب إن كان هنالك عقاب فعلا جزاء لذلك. هذا الأمر جعل المجتمع يعيش أزمة التصدع في قرارات كانت معلومة بعدم المناقشة الا أن البحث وجرأة المفتين جعلتهم يحسبون كيفية البحث الذاتي عن معلومات الفتيا الإسلامية.

quot;الاختلاطquot; و quot;إرضاع الكبيرquot; وquot;الغناءquot; نقاط الخلاف

ابتدأ هذا العام بإجازة رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمكة المكرمة أحمد الغامدي للاختلاط الذي يشكل الهدف الأول لعملها الميداني للهيئة , وجاءت هذه الإباحة عقب الشد والجذب في موضوع افتتاح جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية شمال جدة التي تعتبر أول جامعة سعودية مختلطة, وتبع هذه الفتوى موجا ساخطا على الغامدي الذي اعتبره الكثير مجرد رجل حكومي وليس مفتيا متخصصا إلا أنه وجد تأييدا من بعض الآراء الخجولة التي رأت أن تبتعد عن الظهور لئلا تشغل نفسها بتبعات تحليل ما حرمته السنين الماضية.

ثاني هذه الفتاوى كان من المستشار بالديوان الملكي السعودي الشيخ عبدالمحسن العبيكان المصنف بأنه من أتباع quot;الجاميةquot; وفق تنظير المناوئين له من الإسلاميين السعوديين , وجاءت فتواه بإجازة إرضاع الكبير لاتقاء الضرر المصاحب لاختلاطه مع المرأة الأجنبية, حيث جلبت له الفتوى سخرية عامة من بعض كتاب الصحف السعودية والعربية ولاقت استهجان وتأييدا من البعض في المجتمع السعودي, لكن العبيكان أصر على فتواه مع تعديلها قليلاً مستشهدا بما فعله الرسول محمد مع احد صحابته واستشهد كذلك ببعض العائلات السعودية منذ زمن التي كانت تلجأ لهذا الأمر لحاجتها للرجل الأجنبي في أمورها الحياتية.

وجاءت فتوى الكلباني وهو الإمام السابق للحرم المكي مزعجة للمنتسبين لتياره الدعوي الإسلامي, وشهد موقع الكلباني على الانترنت استفتاءات تحليل الغناء لأناس قالوا أنهم تائبون عن سماع الغناء لكنهم سيعودون بناء على فتيا الكلباني المجيزة له ما جعل الأخير نقطة استهداف للتيار الإسلامي والوقوف ضده, إلا أن الكلباني أصر على رأيه قائلاً إنه يرى أنه على طريق الحق.

عادل الكلباني ذو البشرة السمراء الذي قارن بين اختياره إماما للحرم المكي وبين انتخاب أوباما رئيسا للولايات المتحدة الأميركية بأنه انتصارا لأصحاب البشرة السمراء, لم تدم إمامته للحرم المكي طويلا, وجاءت إقالته بعد هجومه على الطائفة الشيعية ورفض في ذات الوقت تأييد دخول ممثلين عن مذهبهم إلى هيئة كبار العلماء التي تعتبر أعلى مرجعية دينية في السعودية, ماعزاه البعض إلى أنه السبب في سرعة مغادرة الكلباني لمحراب الحرم المكي.

ومضات في سماء غرائب الفتاوى

وشهدت أجواء الإفتاء في العامين الماضيين العديد من المحلقين بالآراء الغريبة في فتاويهم, ولعل تحريم دمية quot;الميكي ماوسquot; من قبل الشيخ محمد المنجد هي الأغرب وكذلك تحريم إقامة البوفيهات المفتوحة في الفنادق والمطاعم وأن إقامتها فيه تضليل على الناس, وجاءت فتوى تحريم رياضة quot;اليوغاquot; في العام 2009 بحجة أنها عبادة وثنية غريبة بعض الشيء مما جعل ممارسيها يتطلعون إلى رأي الدين في التكفير عن ممارستها سابقا قبل أن تتضح الأمور أنها مباحة بحسب مفتين آخرين.

وجاءت فتوى إرضاع الكبير وكذلك إبطال السحر بالسحر للشيخ عبدالمحسن العبيكان كأغرب الفتاوى وسببت الكثير من الجدل وتناولتها الصحف والمنتديات بأسلوب ساخر ونقد لاذع لآراء الشيخ العبيكان التي تتسم عادة بإثارة الرأي العام, أما عن الفتاوى في أمور كانت تشكل أمرا مسلما بتحريمها لأفراد ومؤسسات المجتمع السعودي خصوصا كان موضوع إباحة الاختلاط هو أولها الصادر من الشيخ أحمد الغامدي وتلتها فتوى جواز التصفيق للشيخ عبدالعزيز الفوزان وسجل التاريخ فتوى الشيخ الكلباني بإباحة الغناء كآخر الفتاوى حتى الآن, وربما ستحمل الأيام المتبقية الكثير من خبايا الإفتاء وأمور كان المجتمع يسلم الأمر بتحريمها حتى وقت قريب.