مقبرة وادي السلام في النجف

ألف عام و5 ملايين قبر... ينمو بداخلها البكاء(1-2)

تعتبر مقبرة النجف معلمًادينيًاوتاريخيًابارزًا،فهي تضم في طياتها وجنباتها الاموات واللا حياةوالاحزان والانكسارات، تذهلك حين تتعرف إليها أكثر وتجد انها تشبه مدينة مفعمة بالحياة، الحركة فيها دائبة في النهارات، وانها مصدر رزق للكثير من الناس.

بغداد: كل الطرق داخل مقبرة السلام في النجف تؤدي بالنهاية الى مزار للشهيد آية الله السيد محمد محمد صادق الصدر الذي يقع وسط المقبرة وفيه مسجد تؤدى فيه الصلاة، هناك وجدتني اجلس بالقرب من شيخ يرتدي عمامة بيضاء، كان ساهيًا متربعًا في جلسته، حاولت ان استفيد منه بمعرفة اي معلومات حول المقبرة الهائلة، فقال لي: انها مقبرة كبيرة جدًّا وقديمة جدًّا، هناك من يقول انها قديمة قدم التاريخ بأشارة الى ان النبيين (آدم ونوح) عليهما السلام مدفونان في النجف.

ولو قرأت في كتب الشعائر الخاصة بالزيارات الخاصة لمرقد الامام علي بن ابي طالب لوجدت عبارة: (السّلام عليك وعلى ضجيعَيك آدمَ ونوح..)، وهي اشارة واضحة على أنّ آدم ونوحًا (عليهما السلام) مدفونان داخل الروضة المطهرة إلى جانب الإمام عليه السّلام، وانا قرأت ان الرحالة العربي الشهير ابن بطّوطة كان قد زار مدينة النجف عام (720) للهجرة، وانه ذكر (لما دخلت الروضة وجدت ثلاثة قبور، يقال: إنّ أحدها قبر الإمام عليّ عليه السّلام، والآخران قبرا آدم ونوح عليهما السّلام)، كما ان وجود مرقدي النبيين هود وصالح عليهما السلام يدلان على قدم هذه المقبرة، والمرقدان موجودان ويزورهما الناس للتبرك بهما.

واضاف الرجل: وهناك من يقول ان المقبرة انشأت في زمن الامام علي بن ابي طالب (ع)، وبهذ الصدد تذكر رواية شهيرة عن رجل يماني صالح اسمه (صافي صفا)، له مقام معروف في النجف، ويقال إن الامام كان واقفا على ارض الكوفة واذا بسوادة بانت من بعيد ثم تبينت السوادة، فاذا هو رجل على بعير يحمل معه حملا، فعندما اقترب من الامام واذا به يحمل جنازة، فوقف وسلم على الامام وهو لا يعرفه فسأله الامام علي: من اين مقدمك؟ فقال الرجل: من اليمن، ثم سأله الامام عن حاجته وعن الجنازة التي معه ولمن هي؟ فأجابه الرجل: هذا جثمان ابي مات فأتيت به الى هذه الارض كي ادفنه فيها!!، فسأله الامام: أتقطع كل هذه المسافة من اليمن الى الكوفة لتدفن اباك، لماذا اذًا لم تدفنه عندكم في اليمن؟

فقال الرجل. انها والله وصية ابي لقد اوصاني بها ان هو مات ادفنه في هذه الارض؟ فقال الامام: الم تسأله لماذا اوصى بذلك؟ فأجابه الرجل: نعم سألته فأجابني ان في هذه الارض يدفن رجل عظيم عند الله ورسوله والمؤمنين ومن دفن بجواره اجاره الله مما يكرهه ومن نال شفاعته دخل الجنة، فسأه الامام: وهل تعرف هذا الرجل؟ قال له: لا، فقال الامام: ذاك الرجل هو انا، فوقع الرجل اليماني على قدمي الامام يقبلهما ويبكي، فقال له الامام مادام قد اوصى بذلك وقد قطعت به كل تلك المسافة فسوف اتولى دفنه والصلاة عليه، فقال الرجل هنيئا لأبي لقد اوصى لأن يدفن عندك فوجدتك حاضرًا هذا المكان وسوف يحضى بشرف صلاتك عليه ودفنه بجوارك.

وتابع الرجل حديثه بعد ان سألته عن المراحل التي مرت بها المقبرة، فقال: فتحت عيني عليها في السبعينيات من القرن الماضي، لم تكن بهذا الاتساع والكبر والحالة، كانت ربما بنصف ما هي عليه الآن أو اقل، امتداد بسيط ما بعد العتبة العلوية الطاهرة، وكانت الناس تأتي بموتاها، وما اقل الموتى انذاك، وتدفنهم ويمضون ولا يأتون الا مرة اخرى في زيارة الاربعين، لكنها فيما بعد اصبحت لها تسميتان (القديمة والجديدة)، وقد توسعت المقبرة بفضل صدام حسين!

وكان الرجل يسترسل في حديثه بهدوء تام ولم تظهر على نبرات صوته اية مفاجأة لكنه شعر بأنتباهي للمفارقة التي ذكرها، وهو ما جعلني اقاطعه مستفهما بالقول: نعم.. ياشيخ؟، فقال بالنبرة ذاتها: نعم.. الفضل في توسعة هذه المقبرة للرئيس السابق صدام حسين، فمنذ عام 1980، من بداية الحرب مع ايران، اصبحت اكثر نشاطا ودبت الحركة في عروقها وصارت تستقبل عشرات الموتى كل يوم، عشرات المواكب الحزينة من محافظات العراق المختلفة، وصار الطريق الى النجف يرتبط بالطريق الى جبهة القتال، كما انها اصبحت منازل للشباب الهارب من الخدمة العسكرية حيث كانت الحرب تـأكل الاخضر واليابس، وعاش الشباب فيها مطاردين من رجال الامن وضمتهم السراديب وعاشوا عيشة مأساوية، المقبرة التي كانت مقفرة وموحشة قولا وفعلا صارت شيئا اخر، وها هي خلال ثلاثة عقود من الزمن ابتلعت الملايين من الناس الذين قتلتهم الحروب وقتلهم الحصار والامريكان والارهاب، وعينك.. تشوف حال المقبرة اليوم التي ستمتد قريبا لتملأ بحر النجف!

تركت الرجل الذي لم اسأله عن اسمه ولم استطع تصويره لان الكاميرا اخذت مني في (الامانات)، وسرت وحيدًا في شارع طويل، انتبهت فيه الى كثرة السيارات المارقة حتى تصورت أنني لا امشي داخل مقبرة، قد لا يسرك المشي بين القبور في مقبرة هائلة وشوارعها الفرعية ضيقة مثل مقبرة دار السلام، لكنها تجعلك تردد مع نفسك (كل من عليها فان)، فالتي على يمينك وشمالك ابنية صامتة لا نوافذ لها ولا ابواب، لكن الفضول يداعبك في قراءة اسماء الموتى ومعاينة صورهم والتأمل للتضاريس التي هي عليها، ولا تجد الا ان تقول: السلام عليكم يا اهل القبور، انتم السابقون ونحن اللاحقون، ولا تمضي الا وعينيك فاضتا بالدمع والاسى، وصادف ان مررت بمجموعة من الناس وصلوا توا الى قبر وسرعان ما بدأ الصراخ والعويل والنواح في صورة تدمي القلب وتستفز العيون، وبعد لحظات كان هناك شاب راح يقرأ بصوت عال: (بسم الله الرحمن الرحيم / السلام على اهل لا اله الا الله من اهل لا اله الا الله، يا اهل لا اله الا الله بحق لا اله الا الله كيف وجدتم قول لا اله الا الله من لا اله الا الله يا لا اله الا الله بحق، لا اله الا الله اغفر لمن قال لا اله الا الله واحشرنا في زمرة من قال لا اله الا الله، محمد رسول الله، علي ولي الله)، بعد لحظات شاهدت احد افراد المجموعة يمنح الشاب بعض النقود اكراما له، والغريب ان المجموعة هذه بعد قليل هدأت بعد ان اتعبها البكاء، ومن ثم تفرقت حول القبور القريبة تقرأ الاسماء التي على الاغلب هم اقاربها المقربين جدا، ثمة بكاءات خفية تتجدد على اموات سابقين وثمة حسرات، سمعت امرأة تقول: هذا قبر امي، وهذا قبر ابي وهذا قبر عمتي، وناحت!، أي صوت هذا الذي اسمعه، لا ادري.. فسرعان ما حملني الحزن لأتأثر وأسرد على نفسي حكايات لم تزل اوراقها خضراء.

هذه المقبرة.. التي تضم في طياتها وجنباتها الاموات و اللاحياةوالاحزان والانكسارات، تذهلك حين تتعرف عليها اكثر وتجد انها تشبه مدينة مفعمة بالحياة، الحركة فيها دائبة في النهارات، وانها مصدر رزق للكثير من الناس، فالشوارع العامة في المقبرة يقف على ارصفتها باعة عديدون فيما يدور بين القبور اخرون وهم يحملون بضائعهم البسيطة المتمثلة بالبخور وماء الورد بالاضافة الى قناني الماء والمرطبات خاصة ان الصيف حار لاهب، وهناك اخرون عملهم متابعة مواكب الزائرين لقبور اهليهم حتى يقتربون منهم ويدخلون فيما بينهم بدون دعوة من احد، ومن ثم يقومون بترديد للادعية او تلاوات ايات من القرأن الكريم، او المساهمة بالنحيب على الميت، وهؤلاء ينتظرون ان يمنحهم اهل الميت شيئًا من المال تقديرًا لجهودهم، واينما تذهب تجد الباعة لمختلف البضائع، دكاكين تقف هناك على ضفاف القبور او تتكأ على القبور، تغذي الاحياء فيما تشعر وانت تتأمل ان هؤلاء المساكين الموتى لم تستطع ايديهم ان تمتد الى البضائع المكدسة قريبة منهم ولم تشته منها شيئا، كما يمكنك ان تتأمل صور الباعة وهم يمرون من بين القبور وينادون وليس من مجيب، وهي صورة تستغرب لها ولكنهم يحصلون على رزقهم من بين تلك القبور، من اولئك الذين ملامحهم اصبحت في غاية الاستسلام للحزن.

سألت ابو حسين الرجل الذي يقف امام (كشكه) في شارع داخل المقبرة، فقال: ان الله هو الرزاق وقد قسم لنا ان يكون رزقنا بين الاموات، ومنذ زمان بعيد وهذه المقبرة محل رزقنا، الناس يأتون يوميا لزيارة قبور اهاليهم ويزداد عددهم في المناسبات الدينية والاعياد، ويشترون منا ما يحتاجونه، نحن تعودنا ان نكسب رزقنا من بين الاموات رحمهم الله، واشار الرجل الى ان الناس هنا تعيش على (خيرات) المقبرة ابتداء من الدفان وليس انتهاء بصاحب العربة الصغيرة التي تسمى (الستوتة) التي تنقل الناس من البوابات الرئيسية الى أي مكان وهي تعمل مثل سيارات الاجرة في المدن.

وسألت حيدر عباس سائق (ستوتة) قال: اعمل من الصباح الباكر الى المساء، انقل الناس الى الاماكن التي يريدونها في المقبرة التي اعرفها جيد، اعرف مداخلها ومخارجها وحتى الفروع الصغيرة اعرفها من خلال القبور، وربما لا تصدق حتى القبور اعرفها وحفظتها، اقول لك انني اعرف خارطة المقبرة كلها، ولا يخفى علي شيء، لان رزقي يتطلب ان اعمل هنا وأن اعرف الناس ونتعامل معهم باحترام لاننا نعرف انه لا يدخل المقبرة الا المحزون والذي يحيء ليبكي على شخص عزيز عليه. واضاف: المقبرة تشبه مدينة كبيرة واحسن شيء هو السياج الذي اقيم، لكن بصراحة اتمنى ان تكون في المقبرة اشجار وحدائق تخفف من وحشة المكان.

لا بد ان نذكر ان وزارة الثقافة العراقية كانت قد اعلنت ان منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) وافقت على إدراج مقبرة وادي السلام العراق في لائحة التراث العالمي، ذلك لأن عمرها تجاوز الألف عام ولانها تضم قبور العديد من الشخصيات التاريخية من أنبياء وملوك وشيوخ عشائر ومثقفين، وأن اليونسكو وافقت على وضع المقبرة على اللائحة بعد أن زارها وفد من المنظمة خلال شهر ايار / مايو 2010 واطلع على معالمها بشكل تفصيلي وأخذ نبذة تاريخية عنها مع مجموعة صور لها.