طفلة فلسطينية عند حاجز تفتيش إسرائيلي في بيت لحم
آرون روزنبرغ*: لتسجيل الانطباعات والمشاهدات في الأراضي الفلسطينية وقع خاص، فالأحداث هناك quot;تتزاحم تباعًاquot; والمشاهد التي تروي قصص الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يمكن رصدها في كل زاوية، وكلما أدار سائق السيارة المقود باتجاه معين، يمكن رصد الكثير من التفاصيل، بينما يشكل الصراع على الأرض القضية الاساسية، فلسطينيون يريدون الضفة الغربية والقدس الشرقية مناطق خالية من المستوطنات، بينما إسرائيل تريد لمستوطناتها هناك أن تنمو وتكبر أكثر فأكثر.

اليهودي الكندي آرون روزنبرغ واحد من المتضامنين مع الفلسطينيين، زار مناطق فلسطينية متعددة، وفي كل مكان وصل إليه كانت لديه الكثير من الانطباعات والمشاهدات التي دونها بأدق التفاصيل.
تنشر ايلاف الجزء الأول من يوميات روزنبرغ والتي ترجمتها حرفيّا عن اللغة الانكليزيَّة من دون أي تدخل بالصياغة أو المصطلحات.

صباح 4 آب/اغسطس 2009
جندي اسرائيلي: من أين انتم قادمون؟
نحن (على متن حافلة في الضفة الغربية): من بيت لحم.
الجندي: الى أين ذاهبون؟
نحن: الى رام الله.
الجندي: هل تحبون فلسطين؟
نحن (بتردد): نحن.
الجندي: فلسطين.... عربية ، لا!.... هذا سيء.
نحن: .....
الجندي: لماذا تحتسون القهوة؟

كان هذا حديثًا جرى معنا على حاجز تفتيش عندما كنا متجهين بحافلة من بيت لحم الى رام الله في اليوم الرابع من اقامتنا في الضفة الغربية التي احتلتها اسرائيل في حرب الأيام الستة العام 1967 مع اراضٍ أخرى. وتقع الأراضي المحتلة وراء الخط الخضر لاتفاقية الهدنة التي انهت حرب 1948 بين العرب واسرائيل.كنتُ في زيارة مع آخرين من اميركا الشمالية للمساعدة في تلمس الطريق عبر هذه المناطق الواقعة وراء الخط الأخضر. فالمناطق الفلسطينية (التي تضم مستوطنات يهودية ـ اسرائيلية غير قانونية) ستكون متاهة يصعب على الزائر لأول مرة ان يجد طريقه عبرها ، وكنا نحن الستة عشر زائرًا يرافقنا ثلاثة ادلاء أكفاء ، نتنقل فيها بلا عناء يُذكر. كنا وراء هذا الخط الأخضر منذ بضعة ايام لا أكثر ولكننا شاهدنا خلال هذه الأيام القليلة الكثير من آثار احتلال اسرائيل للمنطقة.

منزل عائلية تعرض للهدم في بلدة الولجة التي زارها آرون روزنبرغ
يوم الاثنين زرنا بلدة فلسطينية اسمها الولجة طالها الخراب في حربين من حروب اسرائيل الكبيرة. فقد دمرت البلدة بالكامل تقريبًا وشُرد سكانها ليصبحوا لاجئين في حرب 1948 ثم دمرت جزئيًا واحتُل ما تبقى من الأرض في حرب 1967.

زرنا مركزًا شبابيًا هناك وكان الفتيان والصبايا ودودين للغاية ترتسم الضحكة على محياهم معبرين عن حبهم العميق لأرضهم على الرغم من المشاكل التي يواجهونها. تقع بلدة الولجة ضمن مناطق quot;جquot; التي حُددت في اطار اتفاقية اوسلو الفاشلة بين اسرائيل وفلسطين بعد التوصل اليها في تسعينات القرن الماضي. وتشكل المناطق quot;جquot; نحو 60 في المئة من الضفة الغربية ويسكنها 70 الف فلسطيني هم نسبة ضئيلة من عدد الفلسطينيين في الضفة الغربية. وفي هذه المناطق تسيطر اسرائيل سيطرة كاملة على الأمن والادارة.

ولأن السكان في هذه المناطق لا يتمتعون بإدارة ذاتية ، يكاد يكون من المستحيل الحصول على ترخيص بالبناء حتى لترميم بيت أو توسيعه. وتكلف التراخيص نحو 100 الف شيكل (اقل بقليل من 30 الف دولار) ، وهو مبلغ يزيد على ما يكلفه انشاء مبنى ، وحتى إذا امكن دفعه فان 95 في المئة من طلبات الحصول على ترخيص تُقابل بالرفض ولا تُمنح. وبغية التعامل مع النمو الطبيعي في السكان واصلاح اي ضرر بالبيت يضطر الفلسطينيون الى البناء بصورة غير قانونية في مواجهة تهديد دائم بهدم ما يبنون. وعلى الرغم من ان اسرائيل تقليديًا تنفذ ثلث اوامر الهدم التي تصدرها فان تدمير المنزل يمكن ان يكون مفاجئًا حيث لا تُمهل العائلات إلا 10 دقائق لخطف ما تستطيع من البيت ثم محاولة العثور على مأوى تعيش فيه وتعيد بناء حياتها المنكسرة. ليس هذا فحسب بل عندما يُهدم منزل الفلسطيني تُقدم اليه فاتورة لسداد تكاليف الهدم.


حين تجولنا في بلدة الولجة بالسيارة رأينا انقاض العديد من هذه المنازل المدمرة. كما شاهدنا مستوطنات يهودية براقة جديدة ، ذات طراز حديث أُنشئت على الضد من اتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر على القوة المحتلة في اطار القانون الدولي توطين آخرين في ارض محتلة. توجهنا بالسيارة قرب مستوطنة تدعى quot;غيلوquot; بُنيت على رقعة كبيرة من الأرض كانت في السابق تابعة لبلدة الولجة. وهي مستوطنة تتسع لإسكان 20 الى 30 الف مستوطن. ولكن زهاء الف مستوطن كانوا يعيشون فيها وقت زيارتنا.

مستوطنون في البلدة القديمة في مدينة الخليل بحراسة الجيش الاسرائيلي
في وقت سابق من يوم الاثنين زرنا مدينة الخليل التي تعتبر ثاني اغنى المدن الفلسطينية بعد نابلس. لكنها قطعا لم تبدُ مدينة اثرياء ذوي امتيازات. فخارج المدينة نفسها هناك مستوطنتان كبيرتان احداهما كريات أربع وهي اول مستوطنة يهودية بُنيت عام 1968. وداخل مدينة الخليل نفسها هناك خمس مستوطنات اخرى تخلق حقائق على الأرض لقضم مزيد من الأراضي الفلسطينية واعطائها الى الاسرائيليين. ولأن هذه المستوطنات تقع في قلب الخليل نفسها فان بعض المباني الفلسطينية تشترك بجدرانها مع مباني الاستيطان وهناك أسيجة وطرق لا يسمح لغير اليهود استعمالها (أو طرق quot;نظيفةquot; كما تُسمى) ، وهي طرق تخترق كل انحاء الضفة الغربية وتعرقل حركة الفلسطينيين بشدة. هناك وجود عسكري كثيف في الخليل (ما لا يقل عن اربعة جنود لكل مستوطن واحد) ويُسهم هذا الوجود في تشجيع المستوطنين على العنف أو التحرش بالفلسطينيين عموما.

التقينا خلال تجوالنا في الخليل سيرًا على الأقدام باثنين من مسؤولي منظمة مستقلة ارسلتهما بعض الحكومات الاوروبية للتحقيق في الانتهاكات الاسرائيلية وفشل اتفاقيات اوسلو. واخبرتنا احدهما وهي شابة نرويجية ، انهما روتينيا يتعرضان خلال قيامهما بواجبهما الى عمليات تفتيش طويلة ، وانهما شاهدا المستوطنين يرشقون بيوت الفلسطينيين أو المواطنين أنفسهم بالحجارة وعمليات تفتيش لبيوتهم وهدم منازلهم بين حين وآخر. وزرنا بيتا أتت النار عليه بالكامل تقريبا بعدما رمى مستوطنون زجاجة حارقة فيه قبل ثلاثة اشهر. وما زالت العائلة تعيش في المنزل. وفي الليلة التي سبقت زيارتنا عاد المستوطنون وفتحوا ثقوبا في احد خزانات الماء الموجودة على سطح الدار وطوحوا من السطح خزانين آخرين تخزن العائلة ماءها وتسخنه فيهما (لأن على الفلسطينيين ان يستخدموا مولدات وحاويات كبيرة للماء بخلاف المستوطنين الذين لديهم كهرباء وماء توفره لهم الحكومة). وسمعنا عدة قصص مروعة عن مستوطنين أو جنود نهبوا متاجر فلسطينية وهاجموا فلسطينيين شبانًا وشيوخًا بلا سبب.

في بيت لحم المدرجة ضمن مناطق quot; أ quot; من الأراضي المحتلة ، حيث يتمتع الفلسطينيون بسيطرة كاملة على شؤونهم كما يُفترض ، مكثنا ليلتين مع عائلات في مخيم الدهيشة للاجئين. وتبلغ مساحة مخيم الدهيشة كيلومترا مربعا واحدا لكنه يؤوي اكثر من 13 الف فلسطيني ، نحو 6000 منهم اطفال. ومنذ عام 2002 ، عندما اصبح الجدار العازل حقيقة واقعة ، لا يستطيع الفلسطينيون ان يتوجهوا للعمل في اسرائيل (ناهيكم عن ان لا احد منهم يفلح في الدخول بصورة غير قانونية تحت طائلة السجن) ، وبالتالي هناك بطالة بنسبة 75 في المئة. ويبلغ دخل العائلة الاعتيادية (التي تكون كبيرة عادة لديها العديد من الأطفال) نحو دولارين في اليوم. وقد دعتنا عائلات في هذا المخيم بكرم الى بيوتها على الرغممن ذلك.

طفل فلسطيني يواجه دبابة اسرائيلية في مخيم الدهيشة للاجئين
لمخيم الدهيشة القائم على ارض مؤجرة من الأمم المتحدة لمدة 99 سنة تاريخ حافل ومأساوي. إذ قدم الفلسطينيون 57 شهيدا من مخيمهم بسبب الاحتلال. وقُتل العديد منهم رميا بالرصاص لأنهم كانوا قريبين من نوافذ بيوتهم أو ماتوا في منازلهم خلال فترات حظر التجوال التي يتعين عليهم ان يلازموا اثناءها منازلهم المؤلفة عادة من غرفة وحمام ومطبخ. (استمرت اطول فترات حظر التجوال 48 يومًا).

في الوقت الحاضر يتعين على سكان المخيم ان يعيشوا مع عمليات هدم البيوت بانتظام فضلاً عن المضايقات المستمرة التي ترتدي اشكال متعددة بينها ظهور الجنود في الساعة الرابعة فجرا للاستماع الى موسيقى صاخبة. وهم لا يستطيعون البناء خارج البيت باضافة طوابق أخرى لمن يتزوج من افراد العائلة وينجب اطفالاً يزيدون حجم العائلة لأن مثل هذا البناء باهظ الكلفة ويشكل رادعا ضد الزواج.

الرجل الذي استضافني شاب اعزب في العشرين امتنع عن الخوض في اسباب بقائه اعزب. كان يعيش مع شقيقه وشقيقته وزوجة شقيقه واربعة اطفال تتراوح اعمارهم من الرضيع الى سن السادسة او السابعة ، فهي أسرة صغيرة نسبيا. لم تكن العائلة متزمتة دينيا ولكن النساء محجبات على الطريقة التقليدية. كان الطعام لذيذا رغم تواضع مواده وكان الحديث مسترخيا وشيقا حتى بعد ان عرفوا اننا يهود ، وكانت المساند صلبة كالحجر.

كان البيت جميلا بما يزينه من اعمال فنية. وحين سألتُ مضيفي عن مصدرها اوضح ان شقيقه صنعها في السجن. وسألت بأدب لماذا سُجن الأخ (لعدة سنوات كما ينبغي ان اذكر) قيل لي ان احدا لم يبلغه أو عائلته بأي سبب سوى انه يشكل تهديدًا امنيًا.

جنود إسرائيليون يقتادون أسرى فلسطينيين بعد اعتقالهم
بعد ايام على ذلك الحادث قابلْنا ناشطين في منظمة للدفاع عن حقوق المعتقلين في رام الله. فان سجون اسرائيل تطبق حاليا على نحو 11 الف طبيب ومحامي وطالب وفنان واكاديمي وquot;مناضلquot; بطبيعة الحال ولكن ليس بينهم جنود لأن فلسطين لا تملك جيشًا. ودخل السجن في وقت ما من حياته واحد من بين كل اربعة فلسطين في الضفة الغربية وغزة ، بمن فيهم اطفال.

ذاق مرارة السجن 42 في المئة من الرجال في غزة والضفة الغربية ، ويمكن اعتقال الأطفال لرميهم الحجارة على دبابات الجيش اثناء قيام الجنود باستفزازفهم عبر اللاسلكي من داخل الدبابة ، أو اعتقالهم لرسم العلم الفلسطيني في دفتر أو ارتداء الكوفية ، التي تعتبر كلها رموزا سياسية.

وإذا ارادوا ان يحاكموا طفلاً كشخص بالغ (سن البلوغ 16 سنة للفلسطينيين و18 للاسرائيليين) فانهم ينتظرون ثم يعتقلونه بعد سنوات حين يكون بالغًا.

لا يتعين على الفلسطيني ان يفعل شيئا كي يتعرض الى الاعتقال. وفي القضايا الأقل خطرا من القتل لا يتعين تقديم ادلة جنائية بل ان افادة اعتراف بالذنب هي كل المطلوب. وتكون الافادات مقبولة حتى إذا ثبت انتزاعها بالتعذيب. كما ان للقضاة العسكريين الاسرائيليين مطلق الحرية في تحديد الأحكام التي يصدرونها. وقد اصدر قاض في الخليل ذات صباح احكاما متعاقبة بالسجن 3 سنوات على قاصرين لرميهم حجارة رغم ان الحكم المتعارف عليه 10 اشهر. كما يُحظر التنظيم السياسي وبالتالي فان تأسيس حزب سياسي أو الانتماء اليه جريمة يُعاقب عليها ، ويُمنع تشكيل نقابة عمالية بل حتى انشاء جمعية خيرية ممنوع. وتوقفت الجامعات الفلسطينية عن انتخاب رؤساء للاتحادات الطلابية بعد اعتقال العديد منهم فور انتخابهم. كما ان هناك الكثير من المطبوعات الممنوعة بينها اعمال شعرية وكتب عامة وكتب الجغرافية وكتاب صادر عام 1982 يذكر دون تعليق قرارات الأمم المتحدة الصادرة في 1947 و1982 حول القضية الفلسطينية. الجيش لا يلتزم طبعا بهذه النصوص القانونية ولكن الواقع ان الفلسطيني يقع تحت طائلة الاعتقال في اي وقت.

هناك عدة جامعات في فلسطين بسبب الأهمية التي يوليها المجتمع الفلسطيني للتعليم ، وقد أُغلقت هذه الجامعات 15 مرة حتى العام 2009. وكانت اطول فترة غلق من 1988 الى 1992. وطُرح في الكنيست مشروع قانون يلزم الفلسطينيين داخل الخط الأخضر بأداء يمين الولاء للمحتل الاسرائيلي ويكون خرق هذا القانون جريمة يُعاقب عليها بالسجن. فالفاشية ظاهرة غريبة لدى معاينتها عن قرب.

* آرون روزنبرغ: يهودي كندي متضامن مع الفلسطينيين

ترجمة عبدالإله مجيد