تحاول روسيا محاربة عادة شرب الخمور بين سكانها،وذلك لما تسببه من مخاطر اجتماعية وصحية،فالإحصائيات تبين أن أكثر من 60 ألف طفل مدمنون،ووفقا للمعطيات الرسمية فإن الروسي يحتسي شهريا لترًا ونصفًا من الكحول وسنويا من 14 الى 15 لترا. وتتسبب هذه العادة سنويا بقتل مليون شخص وتعتبر من العوامل الرئيسة لانخفاض سكان روسيا.

موسكو: جدد الرئيس الروسي ميدفيديف معركة محاربة الإدمان على الخمور التي بدأها وانهزم فيها تقريبا كل أمير وقيصر ورئيس حكم روسيا قبله. وستكون المعركة هذه المرة قاسية ايضا رغم أهدافها النبيلة. فلماذا ينتشر الإدمان في روسيا على الرغم من تداعياته وانعكاساته السلبية النفسية والمادية، وهل ثمة وسيلة لإقلاع الأمة الروسية عن عادتها التاريخية. الولع بشرب الفودكا؟

إن الولع بالمشروبات الروحية القوية في روسيا معروف منذ قديم الزمان، ويقال إن الامير فلاديمير حاكم كييف الروسية حينما أراد ان تعتنق أمته دينًا في القرن التاسع للميلاد، اعتذر لأصحاب الدعوة له إلى اعتناق الاسلام، لانه يحرم الخمور، وزاد ايفان غروزني من إنتاجها وجعلت منها السلطة السوفياتة رافدا مهما لموازنة الدولة وفرض غورباتشوف قيودا على بيعها، ونصّب يلتسين، الذي كان مولعا بها، نفسه قائدا لاوركسترا كان يعزف في أحد شوارع برلين وهو واقع تحت تأثيرها.

إن السلطات منذ زمن قديم أغرت الروس بالفودكا لانها كانت عاملا اقتصاديا مهما ومصدرا كبيرا لمدخول الدولة. وكان ايفان غروزني اول من طالب محلات بيع وشرب الخمور بدفع الضريبة عن بيعها، بينما فرض بطرس العظيم على حاشيته اخذ لتر ونصف في المآدب التي كان يقيمها وجعل آخر القياصرة الروس الكسندر ونقولاي الضريبة على الفودكا مصدرا رئيسا لميزانة الدولة، وامر ستالين اعطاء 100 غرام منها للجنود الذين يقومون بالهجوم على العدو في معارك الحرب العالمية الثانية.

وحوّل بطرس الاول وستالين الفودكا الى جهاز لكشف الكذب، فإنهما عملا على تقديم كميات كبيرة من الخمور لحاشياتهما من اجل أن يكشفوا عن خبايا نفوسهم وأفكارهم. فالمثل الروسي يقول ما معناه: ان ما يخبئه الصاحي بعقله يعبر عنه السكران بلسانه.

وجدد الرئيس ديمتري ميدفيديف محاولات أسلافه من الزعماء لوقف زحف quot;الحية الخضراءquot; القاتلة (الفودكا) في جسد روسيا. وقررت إدارة موسكو منع بيع المشروبات الروحية القوية من العاشرة ليلا حتى العاشرة صباحا، كإجراء لتدريب البلاد على الإقلاع عن تناول الكحول.

ويختلف العلماء حول سبب ولع الروسي بالفودكا والمشروبات الروحية القوية، وتجاهلهم أضرارها الصحية والاجتماعية والاقتصادية. وحقا فالروس يحتسون الفودكا عند ميلاد الشخص وحينما يرحل الى العالم الآخر وحين يحقق نجاحات بحياته أو يفشل بتحقيقها، وحين يلتقي صديقه او يفارقه، وعندما يتزوج أو يطلق، الفودكا رفيقة الروسي في الأفراح والأتراح.

ووفقا لمعطيات كبير أطباء روسيا جينادي انيشينكو الرسمية فثمة في روسيا 2.5 مليون مريض بالإدمان على الخمور، وإذ جرى لهم اضافة أولئك الذين لا يحبذون الاعتراف بمرضهم فان العدد سيرتفع كثيرا، وثمة معطيات غير رسمية الى 7 ملايين من المرضى على الادمان. الى جانب ذلك فهناك 60 ألف طفل يتعاطون الخمور. ووفقا للمعطيات الرسمية فان الروسي يحتسي شهريا لترا ونصفا من الكحول وسنويا من 14 الى 15 لترا. وتتسبب هذه العادة سنويا بقتل مليون شخص وتعتبر عاملا رئيسا بانخفاض سكان روسيا. وحسب المعطيات فان 51% من الكحول تصرف في الاسواق السوداء من المصانع التي تعمل في المناوبة الليلية من دون رخصة، ومن أولئك الذين ينتجون العرق المصنوع في البيوت (ساماجون)، ومن ثم يصرف في الاسواق.

واتسعت في الاونة الاخيرة شبكة مراكز علاج المدمنين على الخمور، بعضها حكومية واخرى خاصة، وهناك من يعتمد الاسلوب السايكولوجي للاقلاع عن العادة الضارة، وآخرون يلجأون للوصفات الشعبية والاعشاب، ومنهم من يتوجه الى المشعوذين. ويؤمن معظم الخبراء بان العلاج الناجع هو الصادر عن قرار شخصي حاسم وإرادة قوية.

وتوارث الروس الاعتياد على المشروبات الروحية منذ قدم التاريخ ولم يتخلوا عنها في العصر الحديث، ووفقا للمعطيات فان روسيا تتقدم بحجم استهلاك الكحول موزعة على عدد نفوس السكان، على الدول الاخرى المدمنة مثل فرنسا والبرتغال وايطاليا والتشيلي والمانيا والمجر وغيرها. وحسب رأي الاطباء فإن استهلاك الكحول في البلاد يتخطى الخطوط المسموح بها. ويفقد الروس بسبب الادمان بالمتوسط من 9 الى 22 سنة من اعمارهم، وهم يعرفون ذلك، ولكنهم يشربونها.

وحسب ما قالت الخبيرة الاجتماعية اللا سيرجيفا في كتابها عن طبيعة الانسان الروسيquot;: quot;ان الادمان مصيبة تخطف حياة ملايين الناس. انها مأساة وطنيةquot;. ويقف الادمان وراء زيادة نسب حالات الطلاق وحوادث المرور والوفاة بنوبات القلب والدماغ وارتفاع نسب الجرائم البشعة.

واعلن ميدفيديف الحرب على الادمان في صيف العام الماضي، قائلا إنه يشعر بالصدمة من الارتفاع الحاد لتناول الخمور. وأمر الحكومة بإعداد تدابير للتصدي للإفراط بتناول الخمور وخفض إنتاج مكونات انتاج من الكحول.

وعقب ذلك ضاعفت روسيا المكوس على البيرة، ورفعت الاسعار عليها في المخازن. وتجري التحضيرات لإجراء تعديلات على القانون تقضي بتشديد عقوبة بيع الخمور للمراهقين وجعلها جريمة جنائية وليست ادارية، وفي الاسبوع الماضي دخل حيز التنفيذ قانون حظر تناول الخمور اثناء قيادة الحافلة.وقال اندريه ديمين الخبير في شؤون الصحة العامة الذي قدم اخيرا تقريرا عن تداعيات الإفراط في تناول الخمور ان البرلمان سيقاوم المصادقة على التدابير الجديدة الامنية لفرض قيود شديدة على بيع الخمور موضحا أن لوبي الكحول والمنتجين الاجانب العاملين في روسيا قوي وغير رحيم. وعلى حد قول ديمين فإن رفع الأسعار وتشديد القوانين هي الوسائل الوحيدة لحل المشكلة وبخلافه فإن الابادة الجماعية التي تمارسها الكحول ستستمر.

وترجع سيرجييفا اسباب ولع الروس بتناول الخمور وفي مقدمتها الفودكا الى الطقس البارد، فالكحول تبعث الدفء، والى الحياة العسيرة على مر العصور للانسان الروسي ورغبته في الاسترخاء ونسيان المصاعب والآلام التي تحيط به، ولكون تناولها تقليدًا اجتماعيا، لخلق أجواء الألفة والتقارب ما بين الحاكم ورعيته.اضافة الى ان التركيبة الفزيولوجية للروسي تساعده على تناول كميات كبيرة من الكحول دون ان يفقد توازنه، علما بانها حتى في هذه الحالة تلحق الضرر بصحته.

ومنعت الامبراطورية الروسية بيع الخمور من 1914 الى 1917، ولكن النظام البلشفي رفع القيود عنها، من منطلق ان بمقدروه جني الارباح منها.وفي الثمانينات منع غورباتشوف ايضا بيع الخمور وأمر بالقضاء على حقول العنب في القرم وغيره من المناطق الجنوبية. وبالنتيجة فإن إنتاجها انخفض بشدة، ولكن ارتفع بالمقابل استعمال الكحول المغشوشة الخطرة، مثل كالونيا ما بعد الحلاقة ومواد تنظيف الاسنان والنوافذ والكيرسين وغيرها.

وتبقى الفودكا التي تباع سرا ام علنا وسيلة القتل الرئيسة في روسيا حيث يتناولها 70% من المستهلكين، على الرغم من انتشار تناول البيرة والمشروبات الخفيفة الاخرى.

وما زال تجمع المدمنين ( آلكشي) مشهدا عاديا في الشارع الروسي، وخاصة عند مداخل محطات انفاق المترو. وعند مترو كمسمولسكايا التاريخية. يقول احدهم الذي نمت لحيته وزاغت عيونهquot; لقد ارتفع سعر الفودكا لذلك فان عدة اشخاص يشتركون لشراء قنينة. وهذه عادة تمارس منذ زمن الاتحاد السوفياتي السابق، اذ يدفع 3 رجال كل بروبل لاقتناء قنينة فودكا.