بقدر ما انتاب البؤس البغداديين واغتاظوا وحزنوا لسماعهم نبأ اعتبار مدينة بغداد (أسوأ الأماكن للعيش في العالم)، إلا أنهم أكدوا قناعتهم بكون المدينة لم تشهد أي تطورات خلال السنوات الأخيرة، التي تمتد على أقل تقدير إلى ما بعد عام 2003 بعد سقوط النظام السابق، حيث وبالنظر إلى صحة ما جاءت به منظمة quot;ميرسرquot; الدولية، يجد البغداديون أنفسهم إزاء واقع لا يمكنهم المبالغة فيه أو مخالفته، لأنهم أدرى بشعاب بغداد، التي تمتلك ملامح كئيبة وثيابا كالحة، ولا يعرف وجهها الابتسام، وليس من سهر هنالك، إذ ما زالت الليالي تخلد إلى النوم في وقت مبكر، فتخلو الشوارع من المارة، ويسكن الليل تمامًا إلا من الوحشة.
الحرب والإهمال ساهما في احتلال بغداد مركز أسوأ مدينة للعيش في العالم |
عبد الجبار العتابي من بغداد: تمنى بغداديون في أحاديث مع quot;إيلافquot; أن يحفز استبيان أو مسح quot;ميرميسquot; المسؤولين إلى النظر إلى بغداد بعين الاهتمام، والعمل على أن تكون غير ما ظهرت عليه، وأن يكون هذا اللقب السيئ حافزًا إلى تقديم الأفضل من أجل أن تكون بغداد أجمل وأنظف، وهو الشعار المرفوع دائمًا، ولكن من دون جدوى.
وكانت منظمة quot;ميرسرquot; العالمية لجودة مستويات المعيشة، التي تتخذ من نيويورك مقرًا لها، وتعتبرها المدينة المعيارية (المثالية!!!)، التي تحمل الرقم 100، قد اعتبرت في تقرير أن بغداد أسوأ مدن العالم من حيث جودة مستويات المعيشة، واحتلت الرقم 221 من بين مدن العالم.
ونقل الموقع الرسمي للأمم المتحدة عن التقرير قوله إن quot;عدم الاستقرار وتدني مستويات الأمن ما زال يؤثر سلبًا في جودة مستويات المعيشة في المدينة، كما إن نقاطها لاتزال بعيدة جدًا عن ثاني أسوأ مدن القائمة، وهي بانغوي في جمهورية أفريقيا الوسطىquot;. وأوضحت أن quot;بغداد بقيت في أسفل القائمة، على الرغم من تحسن نقاطها بشكل ضئيل من 14 فاصلة أربعة إلى 14 فاصلة سبعة خلال هذا العام، حيث لا يزال لعدم الاستقرار وتدني مستوى الأمن الأثر السلبي على مستويات المعيشة في المدينة.
وقد أبدى العديد من المواطنين البغداديين من مختلف الشرائح ممن التقيناهم حزنهم وأسفهم بكلمات معبرة عن مشاعرهم حول هذا اللقب، الذي نالته بغداد مدينتهم، واشاروا الى أن بغداد خرّبتها الحروب، وسقاها الحصار الاقتصادي في التسعينات كأس الانهيار والدمار، ومن ثم ضربها الإرهاب الأعمى، الذي تزامن مع إهمال ولا مبالاة كبيرة من قبل القائمين عليها، وأعرب هؤلاء المواطنون عن حبهم للمدينة بغداد التي لم يستطيعوا مفارقتها على الرغم من كل شيء.
وقالت المهندسة والناشطة المدنية شروق العبايجي، مديرة مركز عراقيات للدراسات والتنمية: بغداد اختيرت، ولأكثر من مرة على التوالي، باعتبارها أسوأ مدينة للعيش في العالم، من خلال هذه المنظمة، التي تختار معايير حيادية، 16 معيارًا إنسانيًا وخدميًا وأمنيًا، وكل ما يتعلق بتوفير أساسيات العيش الكريم في مدينة، وخصوصًا عاصمة مثل بغداد، بكل هذه المقاييس والمعايير تخرج بغداد الأسوأ للعيش، وهذا يدلل على أننا فعلاً لا نزال متخلفين جدًا عن الوصول إلى مستوى من المعيشة، يوفر أبسط المقومات للإنسان البغدادي، فكيف في المناطق الريفية وغيرها.
إضافة الى ذلك فإن بغداد كمدينة لا تستحق أن تكون أسوأ مدينة في العالم، بغداد عمرها ألف سنة، بغداد مدينة مرت عليها حضارات عديدة، وهي عاصمة لدولة نفطية، ومعروف أن البغداديين يفتخرون ويعتزون بانتمائهم اليها، فلماذا هذا الإهمال، لماذا يتم فعلاً ترسيخ الصورة عن بغداد بأنها أسوأ مدينة في العالم؟، أعتقد أن المسؤولية مسؤولية الدولة العراقية، وتحديدًا أمانة بغداد.
أما نهلة الندواي، أستاذة جامعية، فقالت: بالتأكيد إن بغداد الآن من الأسوأ، حينما تنزل من المطار في أي مدينة من مدن العالم يصيبك الذهول حين تشاهد الخضرة وجمال شوارعها وسعتها، ولكن حين تدخل إلى بغداد لا ينتابك غير الكآبة، حيث الملامح الداكنة واللون الرصاصي، الذي يصبغ الأبنية ولا تعرف لماذا، والقاذورات التي على الطريق، وبغداد أيضًا أصبحت كئيبة بناسها، أنا كل يوم حين أذهب إلى كليتي وأنا اقود السيارة تصادفك الزحامات الشديدة التي تجعلك تتأمل طويلاً في الوجوه، فأحاول أن أحسب من منطقة (الوزيرية) إلى الجادرية عدد السيارات المارة، واحاول أن احسب عدد الوجوه المبتسمة، ومن الصعب أن تجد في اليوم الواحد من ثلاثة إلى اربعة مبتسمين من مئات وآلاف الناس، بغداد كالحة بشوارعها وبشرها.
وأضافت: وأنا أسمع أن بغداد هي الأسوأ أتساءل: هل لك أن تتخيل مشاعر شخص عنده أب يحبه ويعشقه، وأم يحبها ويعشقها، ويلاحظ عليهما ملامح المرض والعجز، ولا اقول الكهولة. اما كيف نقاوم، فنحن نعتقد كمثقفين ونخب أن من لديهم مسؤولية لا بد أن يتحملوها، فترى عددًا من التجمعات الخاصة، يحاولون التواجد إلى ساعة متأخرة من الليل، لأنهم يعتقدون ان الأمن وإشاعة فكره هي مسؤوليتهم، فيتواجدون الى اقصى حد يسمح به حظر التجوال، واعتقد ان المجتمع المدني ودوره يعادل الكثير مما أنجزته مؤسسات حكومية، وبالتالي هذا من حب بغداد، حتى وإن كان معلنًا، ولكن للمدينة والمكان حبّ لسبب بسيط هو أن الذي لا يحب المكان يغادره، وهناك اناس متاحة لهم فرص كثيرة للخروج، وربما البعض لديه جنسيات، ويجيء الى بغداد، وهذا لا نترجمه إلا حبًا لبغداد.
وقال الكاتب والصحافي شمخي جبر: بغداد تاريخ وحضارة وتنوع حضاري ومحط انظار العالم، محط انظار الباحثين، فأي عالم من علماء الدنيا لا تصبح شهادته صحيحة إلا حين تختم من بغداد أو يزور بغداد أو يأخذ العلم من بغداد، ولكن ان تصل بغداد الى هذا المستوى من الإهمال فهذا ما يحزننا، هناك آثار مهمة في بغداد تهدم وتخرب، وشوارع مهمة وتراثية منها تهمل، ومراكز ثقافية مهملة، لهذا بغداد وصلت الى هذا المستوى من الإهمال، الذي يشير إلى شيوع ثقافة انحطاط، وضياع ثقافة التنوع، الثقافة العراقية الحقيقية للعراق الموجودة في بغداد.
من جانبه قال الكاتب معقولة جلال حسن: ليس من المستبعد أن تكون بغداد أسوأ عاصمة في العالم، هذا ما أظهره استبيان (مجموعة ميرسر) الذي ذكر أنها مكان لا يصلح للعيش بعدما كانت مدينة السلام. وأبسط دليل حي النصر، وهو حي لا يبعد 10 كيلومترات عن الباب الشرقي. حي لا يمكن وصفه نهائياً، ليس للبؤس الذي فيه، وإنما لحجم الكارثة المرسومة في عيون الأطفال، مدارس خاوية، وبيوت من صفيح، وجوع يصرخ في عيون الأرامل.
ويتساءل: فهل من المعقول أن يحدث هذا في وطن يصدّر مليوني و100 ألف برميل نفط يومياً، وعاصمته الأسوأ في العالم وشعبه بائس؟!،
لكن الكاتب سامي كاظم يرى أنه مهما بلغ حجم المشاكل التي تعانيها مدينة بغداد فلا يمكن بأي حال من الاحوال وضعها في ذيل القائمة على مستوى العالم، فهناك في قارة أفريقيا على سبيل المثال العديد من العواصم، التي لا تحمل أي ميزة تدل على كونها عاصمة بلد، بل إننا لو قارنّا بين تلك العواصم مع أفقر حي في بغداد، سنجد أن هذا الحي البغدادي (التعبان) أفضل بكثير من تلك العواصم، ناهيك طبعًا عن الكثير من عواصم دول في أميركا الجنوبية، وكذلك في آسيا التي يزخر العديد من مدنها بالسوء فعلاً، فهل يمكن أن تكون بغداد أقل جمالاً من العاصمة الأفغانية كابول مثلا؟.
ويرى كاظم ان هذه التقارير quot;مسيّسةquot; بالكامل، وغرضها الواضح وهو بفعل فاعل بالتأكيد، وتقف وراءه دول، تكره العراق، هدفها إعطاء دفعة إعلامية كبيرة للمناوئين للتغيير، الذي حدث في العراق، لذا هم يحاولون جاهدين أن يضعوا العراق في ذيل أي قائمة تصدر، سواء عبر المنظمات الانسانية او غيرها، كي يقال ان العراق في ظل النظام السابق كان أفضل بكثير، وهم يعلمون أن البلاءات بدأت مع ذلك النظام.
أما الخبير الاقتصادي الدكتور ستار البياتي فيقول إن حصول مدينة بغداد على لقب أسوأ مدينة للعيش في العالم جاء نتيجة لعدم مراعاة التصاميم الحضارية وقضايا التلوث البيئي والتنظيف في موضوع مواقع المناطق الصناعية، إضافة إلى عدم الاستخدام الامن للفضاءات والشوارع والباحات.
واضاف: إن شيوع حالات الفساد المالي والإداري على حساب سيادة القانون يعدّ من اهم الاسباب، مبيناً أن هذا اللقب يجعل من بغداد بيئة طاردة للاستثمار، كما يقلل من فرص الجذب السياحي.
وقد أحالني البعض على قراءة الملاحظات التي كتبها المهندس المعماري والأكاديمي موفق جواد الطائي، وقد كتبها تحت عنوان quot;ملاحظات شاهد عصرquot;، ليوضح كيف أن بغداد صارت أو تحولت إلى واحدة من اسوأ مدن العالم ، وذهبت الى الملاحظات وقرأت فيها قول الطائي :في تقرير للمؤسسة ميرسر للاحصائيات العالمية وضعت بغداد واحدة من أسوأ الأماكن للعيش في العالم، إنها أسوأ صفعة وشتيمة توجّه إلى العراق، كان من المفروض الرد عليها من قبل الدولة ووسائل الإعلام والمؤسسات شبه الحكومية ومنظمات المجتمع المدني، الذين يتألمون في الغربة على العراق.
وأوضح أن التقرير قد اعتمد لأجل التقييم المتطلبات الآتية:
1) البيئة الاجتماعية والسياسية (الاستقرار السياسي، والجريمة، وإنفاذ القانون، الخ)
2) البيئة الاقتصادية (لوائح صرف العملات، والخدمات المصرفية، إلخ)
3) البيئة الاجتماعية والثقافية (الرقابة والقيود المفروضة على الحرية الشخصية، الخ)
4) الصحة والصرف الصحي (اللوازم والخدمات الطبية والأمراض المعدية والصرف الصحي والتخلص من النفايات، وتلوث الهواء، الخ)
5) مدارس والتعليم (القياسية وتوافر المدارس الدولية، الخ)
6) الخدمات العامة والنقل (الكهرباء والماء والنقل العام، وازدحام حركة المرور، الخ)
7) الاستجمام (المطاعم والمسارح ودور السينما والرياضة والترفيه، الخ)
8) السلع الاستهلاكية (توافر الغذاء/سلع الاستهلاك اليومي، والسيارات، الخ)
9) إسكان (السكن، والأجهزة المنزلية، والأثاث، وخدمات الصيانة، الخ)
10) البيئة الطبيعية (المناخ، وسجل للكوارث الطبيعية)
وتابع quot;في نظرة متأنية للتقرير نجد أن المنظمة لم تكن بتقويمها بعيدة عن الواقع، شئنا أن نصمم أحسن التصاميم، وقد ننفذها، ثم نغفل قليلاً، فيتعطل كل المشروع، وهذا ما حدث في معظم مشاريع البنية التحتية الفنية في بغداد، وهذا أشبه بمن يرتدي أحلى بدلة (سموكن)، وبعدها يلبس (بسطالاً) أو يخرج حافيًا لإغفاله جزءا بسيطا من الكل أو عدم استعماله الشيء المناسب.
وخير مثال على ذلك تصميم الطرق في بغداد، الذي كان قد أعدّ من قبل أكبر مكتب استشاري بريطاني في مجال تصميم الطرق سكوت ولسن في بداية الثمانينات، وقد أنجز منه الكثير، ولم يبق منه سوى بعض العقد الضرورية لجعله نظاما متكاملاً، مثل توصيلة جسر الأعظمية المعلق بساحة عنتر، وتوصيل شارع المرور في الكرخ قرب المطار بالطريق السريع قرب الدورة.
بعد ذلك يمكن لاحقًا تنفيذ جسر مستشفى الرشيد العسكري، ونفق ساحة كهرمانة، وجسر الكريعات، و جسر هور رجب، وجسر المسبح والدوار المحيط في بغداد. وقال إن التأخير في تنفيذ هذه المفاصل المهمة جعل النظام المروري غير متكامل، رغم إنجاز معظم أجزائه، وتعطل المرور، رغم وجود الشوارع ونظامها المروري المدروس، ونفذت جسور أخرى، لا تعمل على تكامل النظام المروري، وكان سبب تنفيذها هو أن تشاهد من قبل الناس، وليس لسبب استراتيجي تنموي، وانما كسب إعلامي.
واستطرد: لقد بدأت هذه المأساة في بداية الثمانينات عندما طلب الفريق الاستشاري للتصميم الإنمائي الشامل لمدينة بغداد، والذي كان بقيادة المخطط الياباني يمادا (وكنت حينها أحد أعضائه) من وزارة التخطيط التوجيه الاستراتيجي للدولة، فقد أخبر يمادا بضرورة التصميم لعاصمة لدولة ذات اقتصاد متقدم، لأن البلد في عام 1990 سوف يترك حظيرة الدول النامية، ويصبح من الدول المتقدمة.
ترتب على هذا القرار إعداد بنى تحتية من النوع المتقدم (الأبهة) والابتعاد عن الخدمات، التي تعتمد التنمية المستدامة والتكنولجية المناسب، واختير لتنفيذها أغلى الشركات، مثل مدماك الكورية، وما إن جاء عام 1990 حتى أتت معه كل الكوارث من حروب وحصار وخراب، فلم نتمكن من إنجاز العمل، ولا حتى تنفيذ المتبقي بتكنولوجيا مناسبة. وقد صاحب ذلك فساد إداري فقد كانت شركة مدماك قد رشت في حينها أكبر مسؤول في أمانة بغداد، وتسببت بعدها في سجنه، وأخيرًا عادوا مناضلين، وهم يقودون العمل الاستشاري الآن. لكن هذا لا يعني عدم وجود كوادر مجربة ومخلصة، قد يكونون استبعدوا أو استبدلوا بمسؤولين وأصحاب قرار غير كفوئين.
وقال أيضًا: لقد قدمت اليابان أخيرًا دراسات تعنى بالمجاري المناسبة للعراق، وبدورات (ممتعة) في اليابان، لكننا لم نجد انعكاس هذه الدورات على تصاميم المجاري، وخصوصًا في مركز بغداد، حيث أكدت الدراسة على تصميم خاص لتلك المناطق، ولعل هذه الدورات كانت للنزهة والاستجمام.
التعليقات