يبدو أن الطائفية لم تندثر في مصر مع انتهاء النظام السابق، كما اعتقد الكثير من المصريين، حيث تواصلت بعض الخلافات والاشتباكات على أساس طائفي بين مسلمين ومسيحيين أدت إلى سقوط قتلى وجرحى وتدمير أماكن عبادة.


لم يكن أحد في مصر يتخيل أنه مع اندلاع ثورة 25 يناير، ستختفي العديد من المشكلات المزمنة التي كان يعانيها المجتمع طوال عشرات السنين، وعلى رأسها الطائفية والتحرش الجنسي والعنف والغضب لأتفه الأسباب.

كانت فرحة المصريين بتلاشي تلك المشكلة يضاهي فرحتهم بإسقاط نظام الرئيس السابق حسني مبارك عارمة، اعتقاداً منهم بأن تلك الأزمات هي من صنع نظام مبارك، ولاسيما جهاز أمن الدولة الذي كان يعمل ليلا نهارا من أجل التفريق بينهم.

فجأة، وبينما هم يحتفلون بانتصار ثورتهم البيضاء، يكتشفون أن نيران الطائفية ما زالت تحت الرماد، وأن رموز النظام السابق و ضباط أمن الدولة والمتطرفين من الجانبين يعملون على تغذيتها من أجل معاودة الإشتعال بشكل لا يمكن السيطرة عليه، والقضاء على الثورة بشكل نهائي.

استيقظ المصريون يوم الجمعة الماضي على خبر كان كالكابوس بالنسبة إليهم، ألا وهو مقتل مسلمين إثنين وإصابة ثالث وإشعال النار في كنيسة وهدمها وذلك في قرية صول مركز أطفيح محافظة حلوان. وتتلخص الواقعة في أنّ شابًا مسيحيًّا يقيم علاقة غير شرعية مع فتاة مسلمة، الأمر الذي أشعل غضب أقارب الفتاة، الذين طالبوا والدها بالإنتقام لشرفه من المسيحي، وتشاجروا معه، ما أدى إلى مقتل إثنين منهم وإصابة ثالث. وأثناء مراسم تشييع الجنازة، تجمّع مسلمون حول الكنيسة وأشعلوا النار فيها.

في اليوم التالي، تظاهر بضعة آلاف من المسيحيين أمام مبنى الإذاعة والتلفزيون، مطالبين بإعادة بناء الكنيسة، ورد رئيس المجلس العسكري، ووعدهم بإعادة بناء الكنيسة في موقعها الأصلي، ولكنهم زادوا مطالب أخرى منها الإفراج عن قسّ حكم عليه بالسجن في قضية جنائية، وبالفعل تم تنفيذ هذا المطلب أيضاً، إلا أنّهم قرروا الإستمرار في اعتصامهم أمام ماسبيرو.

وفي المقابل، تظاهر المئات من السلفيين أمام مجلس الوزراء، مطالبين بإعادة من وصفوهن بquot;المسلمات المحتجزات في الكنائس والأديرةquot; في إشارة إلى بعض المسيحيات اللائي أعلنّ إعتناقهنّ الإسلام ثم إختفين، وقيل إن الكنيسة تحتجزهن في سجون في الأديرة، وتصاعدت سخونة الأحداث عندما قطع المسيحيون كوبري السادس من أكتوبر الحيوي الذي يمرّ في وسط القاهرة رابطاً شمالها بجنوبها، وأطلقوا أعيرة نارية في الهواء لإجبار السيارات على عدم المرور. فيما قطع مسيحيون آخرون طريق quot;الأتوسترادquot;، ووقعت مصادمات مع مسلمين، نتج منها مقتل شاب مسيحي، وجرح ما يزيد على 10 آخرين، وما زالت المصادمات مستمرة حتى إعداد ذلك التقرير مساء الثلاثاء 8 مارس الجاري.

ووفقاً لهاني محروس شاهد عيان من أهالي قرية صول، فإن الأحداث وقعت عقب تشييع جنازة القتيلين المسلمين، حيث إتهمت عائلتهم المسيحيين بالتسبب في الحادثة، وتوجهوا إلى الكنيسة للمطالبة بتسليم الشاب الذي أقام علاقة غير شرعية مع الفتاة المسلمة لمحاكمته، ظناً منهم أنه يختبئ فيها، وقال محروس لـ quot;إيلافquot; إن القساوسة أكدوا عدم وجوده في الكنيسة، لكن المشيّعين الغاضبين لم يصدقوا النفي، وأصروا على عدم الرحيل من أمام الكنيسة إلا بعد تسلم الشاب، ووقعت مشاحنات كلامية بين الجانبين انتهت بإشعال النار في الكنيسة، وهروب القساوسة.

وإتهم محروس القيادات التنفيذية والشرطة بالتواطؤ أو التخاذل في القضية حتى تطورت إلى فتنة طائفية، وأوضح: كان من الممكن إحتواء الموقف، وتفادي إشعال النيران في الكنيسة، حيث لم تحضر الشرطة أو أي من المسؤولين المحليين وعلى رأسهم المحافظ إلى القرية إلا متأخراً، بعد هدم الكنيسة.

ورجح نبيل عبد المحسن من أهالي القرية تورط من وصفهم بquot;أذناب النظام السابق وضباط في جهاز أمن الدولة في التحريض على إشعال النيران الطائفيةquot;، وقال لquot;إيلافquot; إن تلك العلاقة بين الفتاة المسلمة والشاب المسيحي كانت تقريباً معروفة، وكان أمن الدولة يضغط على الطرفين للتكتم عليها، ويهدد من يحاول الحديث عنها بالإعتقال، والدليل أن أقارب الفتاة كانوا غاضبين من عدم انتقام والدها منه في ظل الظروف الراهنة التي تتسم بالفوضى. وتساءل عبد المحسن عن الأسباب التي أدت إلى شحن أقارب والد الفتاة للحد الذي جعلهم يتبادلون إطلاق النار، ما أسفر عن مقتل إثنين منهم بينهم والدها؟! وما الذي حوّل المشيّعين إلى التجمهر حول الكنيسة وإشعال النار فيها، وليس التجمهر قرب منزل الشاب مثلاً؟ ولماذا إختفت قوات الشرطة وأجهزة الإدارة المحلية؟ ويجيب بالقول إن رموز الحزب الوطني والنظام السابق وضباط أمن الدولة يحاولون الإنتقام من الثورة ومن المصريين الذين شاركوا فيها وأسقطوا النظام الفاسد وحرموا كل هؤلاء من ملايين الجنيهات والأراضي والخيرات التي كانوا يتمتعون بها طوال السنوات الثلاثين الماضية.

رغم إقرار المجلس العسكري بتكفله بإعادة بناء الكنيسة، إلا أن المعتصمين أمام مقر التلفزيون يرفضون الرحيل، ورفعوا عشرة مطالب رئيسة، حيث أطلقوا على أنفسهم quot;حركة ماسبيرو ضد الطائفيةquot;، وأصدروا بياناً حصلت quot;إيلافquot; على نسخة منه وحددوا مطالبهم العشرة في: إعادة بناء الكنيسة في موقعها ومكانها الاصلي. إعادة بناء مبنى الخدمات المجاور للكنيسة والذي تم تدميره. تكوين لجنة لتقصي الحقائق في الأحداث ومحاسبة المسؤولين عن الأحداث. وضع ضمانات لتوفير الحماية للأقباط وضمان عودتهم لمنازلهم. صرف تعويضات عن الخسائر التي تعرض لها أقباط القرية. محاسبة المتقاعسين من قيادات الجيش المقصرين عن حماية الكنيسة. تفعيل المواطنة والمساواة بين المصريين بما يضمن المساواة في ممارسة الشعائر الدينية وبناء دور العبادة. سرعة الإعلان عن التحقيقات في أحداث دير الأنبا بيشوى وكشف المتورطين عن إطلاق الرصاص الحي على الرهبان وعمال الدير. وضع الضمانات الكافية لحماية الكنائس وممتلكات الأقباط في ظل حالة الفوضى والانفلات الامني وتعرض الأقباط للاعتداءات في مناطق مختلفة. إقالة محافظي حلوان والمنيا لتعمّدهما إشعال الفتنة الطائفية والتقصير في حماية المواطنين المسيحيين.

ومن جانبه، وصف صفوت جرجس رئيس المركز المصري لحقوق الإنسان معالجة أزمة كنيسة أطفيح بأنها quot;لم تكن بالشكل المناسب وتم اتباع الطرق التقليدية نفسها التي كان يتبعها النظام السابقquot;، موضحاً أن محافظ حلوان ـ وهو قيادي في الحزب الوطني ـ والذي تقع في دائرته محل الواقعة لم يقم بأي خطوات من شأنها إعادة الانضباط إلى القرية وإعادة الأمور إلى نصابها، ولم تتحرك الأجهزة التنفيذية في المحافظة لضبط الجناة والتحقيق معهم، بل تركت أرض الكنيسة فريسة للمتطرفين ليعبثوا بها، ولم تمهد المحافظة وأجهزتها الطريق لقوات الجيش لكي تبدأ تنفيذ قرار المشير حسين طنطاوي القائد الأعلى للقوات المسلحة في بناء الكنيسة من جديد.
ودعا جرجس كل أجهزة الدولة إلى تحمل المسؤولية في اللحظة الراهنة والتعامل بطرق غير تقليدية مع الأزمة، والتوقف عن إعطاء المسكنات والبدء في حل المشكلة من جذورها، لافتاً إلى ضرورة إصدار فتوى صريحة من مفتي الديار المصرية بتحريم التعدي على الكنائس وعدم جواز بناء مسجد بدلا من كنيسة، بدلا من الصمت الذي أعطى إشارة للمتطرفين باستكمال ما يقومون به، وطالب أجهزة الدولة بالبحث عن الجناة وتقديمهم للعدالة فورا لمنع تكرار مثل هذه الحوادث.

إلى ذلك، نعت الناشط السياسي جورج إسحاق المسلمين الذين هدموا كنيسة أطفيح والمسيحيين الذين يتظاهرون أمام مقر الإذاعة والتلفزيون والذين يقطعون الطرق بأنهم quot;أعداء ثورة 25 ينايرquot;، وقال لquot;إيلافquot; إن الثورة أذابت الطائفية، ولم تعد موجودة بالفعل، لكن ما يحدث الآن هو نتيجة لتآمر فلول الحزب الوطني ضباط في جهاز مباحث أمن الدولة والقيادات القبطية المتطرفة والسلفيين، الذين يحاولون النيل من الثورة البيضاء، ويحاولون إجهاضها لصالح النظام السابق أو من أجل أهداف صغيرة ليس مكانها الآن، وأضاف إسحاق أن النعرة الطائفية مرفوضة الآن، والتظاهر من أجل مطالب فئوية أو طائفية هو تعطيل لعجلة التنمية ومحاولة لوأد الثورة وإعادة النظام السابق من خلال تمكين أنصاره من الحكم. ودعا وسائل الإعلام إلى عدم أستضافة من وصفهم بquot;القيادات القبطية المتعصبة طائفياً، والسلفيين المتطرفينquot;، وقال إن ظهور هؤلاء على شاشات الفضائيات ليس في صالح الوطن أو الثورة. وشدد على ضرورة إعمال القانون ضد كل من يرتكب جريمة ضد كنيسة أو مسجد أو أي من الممتلكات العامة أو يعطل العمل في مؤسسات الدولة.

فيما إعتبر الدكتور شريف صالح أستاذ علم الإجتماع أن الطائفية في مصر بمثابة نيران كامنة تحت الرماد، وقال لquot;إيلافquot; إن الثورة استطاعت إقتلاع النظام السياسي، لكنها تحتاج إلى بعض الوقت حتى تتمكن من إقتلاع الأفكار السيئة الكامنة في العقول منذ عشرات السنوات، لاسيما الأفكار التي تؤمن بالتعصب للطائفة ونبذ الآخر، لافتاً إلى أنه من الضروري تنفيذ القانون بحذافيره ضد كل من أخطأ والكف عن الجلسات العرفية، فمن المهم معاقبة المرأة المسلمة والرجل المسيحي المتورطين في علاقة جنسية غير شرعية، ومن المهم أيضاً معاقبة المتورطين في إحراق الكنيسة أو هدمها. وأكد صالح أن إستعادة هيبة الدولة وإعمال القانون هما السبيل الأمثل لإضفاء النيران التي تحت الرماد نهائياً، خاصة أنه ثبت بالفعل أنه يمكن القضاء عليها إذا شعر المصريون أنهم سواسية أمام القانون وأن لهم هدفا واحدا.