تونس: بعد مرور أكثر من ستة أشهر على ثورة 14 يناير لا تزال تونس تتلمس الخطى لضبط العملية السياسية نحو الانتقال الديمقراطي في ظل تحديات اقتصادية واجتماعية كبرى. وفي حصاد ما تحقق من نتائج بسقوط النظام ورحيل الرئيس السابق وبروز بوادر الحرية فإن للثورة انعكاسات سلبية تنسج وضعا صعبا لاسيما على المستويين الأمني والاجتماعي.

ورغم بعض ملامح الانفراج المتواترة على الصعيد الاقتصادي تمارس القوى السياسية بمختلف ألوانها ورؤاها أدوارا ضاغطة على الحكم الانتقالي لا تقل خطورة عما يجري على الحدود الليبية وعن المطالبات الاجتماعية والمهنية التي قد تنتقل بثورة النور الى ثورة اجور.

اذ دخل المجتمع في اعتصامات وفي شعارات quot;ارحلquot; طالت مجمل القطاعات لتعصف بالاقتصاد وتعرقل عمل حكومة انتقالية حاولت العبور بالبلاد الى مأمن عبر بلورة الامال الى نتائج عملية. فعلى المستوى السياسي شهدت البلاد خلال الشهور الستة الماضية حراكا سياسيا كثيفا وتجاذبات حزبية متعددة وديناميكية غير مسبوقة يمكن اعتبارها الأسرع والأكثر سخونة وتأثيرا منذ عقود.

وتولدت على طريق الثورة التونسية تناقضات ونجاحات بين القوة والوضوح والتراجع والغموض لتشهد البلاد تخمة من الأحزاب السياسية فاقت التسعين حزبا موزعة بين اليمين والوسط واليسار. ولم يكن أمام هذه الأحزاب رغم اتساع مساحة التعبير وزيادة عدد المنابر الاعلامية التلفزيونية والاذاعية والصحفية الا منهج العمل الكلاسيكي دون تطور يذكر اذ شملت نشاطاتها ذات المجالات التقليدية في أساليب الخطاب الموجهة الى مختلف الفئات الاجتماعية.

وفي المقابل توجهت الحكومة الانتقالية لاسيما حكومة الباجي قائد السبسي منذ مارس الماضي نحو العمل على خلق وفاق سياسي في البلاد بعد ان حظيت بقبول أغلب مكونات المشهد السياسي التي رفضت اطراف منها حكومتي محمد الغنوشي الأولى والثانية.

وسعت الحكومة الانتقالية ضمن عملها على عكس بعض الاحزاب السياسية لاعادة الوفاق داخل الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة بين الهيئة والاحزاب المنسحبة. واتسمت الساحة السياسية بعد الفقر والجمود والرتابة بالديناميكية والحيوية على امتداد ستة أشهر تميزت بالتنافس الحزبي مع تنوع الآراء والمعتقدات وحرية التنظيم غير أن التحول الديمقراطي الذي تسير اليه البلاد مازال محاطا بتحديات قد تكون نتائجها عكسية في حال فشل المعالجة.

فبين المحافظة على حرية التعبير وتقنين المال السياسي ونبذ العشائرية ومواجهة التعصب اطروحات شتى تهدد السلم الاجتماعي وتحول الانتقال الديمقراطي الى وجهة مغايرة لما يأمله المواطن والشارع التونسي بصفة عامة.

ورغم خطورة هذه التحديات والتجاذبات الا انها حالة صحية ومشجعة لضمان الانتقال الديمقراطي الذي تنشده البلاد ويتكرس شيئا فشيئا في انتظار ما ستؤول اليه الأوضاع خلال الأشهر القليلة المقبلة. اذ انطلقت البلاد نحو التغيير منذ يناير بتولي فؤاد المبزع منصب رئيس الجمهورية بشكل مؤقت وتشكيل حكومة جديدة برئاسة محمد الغنوشي شارك فيها عدد من زعماء المعارضة الى ان استقال الغنوشي من منصبه في الـ27 من فبراير الماضي اثر الضغط الشعبي.

وفي مارس أعلن رئيس الجمهورية المؤقت في كلمة للشعب عن دعوة المواطنين لانتخاب المجلس الوطني التأسيسي وحدد له تاريخ 24 يوليو الذي تم تأجيله الى 23 من اكتوبر المقبل. وتشكلت على اثر ذلك الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والاصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي التي عقدت اول اجتماعاتها في 17 مارس ثم تشكيل الهيئة المستقلة للانتخابات في 18 ابريل ثم المصادقة على مرسوم القانون المتعلق بانتخاب المجلس الوطني التأسيسي في العاشر من مايو الماضي.

وعلى المستوى الأمني شهدت البلاد عدة اضطرابات منها هروب آلاف المساجين في انحاء مختلفة وحالات من الفوضى والعنف والقتل والاعتداءات التي شهدتها المناطق الجنوبية المتلوي وسيدي بوزيد الى جانب الاوضاع المضطربة في العاصمة.

ومن ابرز المظاهر الامنية خلال الاشهر الماضية سقوط متظاهرين معظمهم من الشباب في عدة مدن برصاص القناصة واعتصام رجال الأمن بعد أن أصبحوا موضع اتهام فضلا عن فرار مساجين واقتتال مجموعات من أهالي بعض المدن والقرى لاسباب وخلفيات عشائرية.

ولعل الاخطر في هذا الصدد ما يمكن اعتباره عنصر التدخل الخارجي ومحاولة ادخال البلبلة ساهمت فيه اطراف اجنبية حسب بيانات رسمية افادت بوجود أشخاص مسلحين قادمين من دول مجاورة. وبعد تجاوز هذه الاوضاع يمكن الشعور اليوم مقارنة مع ما شهدته البلاد أثناء وبعد الثورة فهناك تراجع في حجم الجريمة مقارنة بالأيام الأولى لها وتراجع الصراعات القبلية والفئوية في ظل نوع من المصالحة مع قوات الأمن واجهزته.

وعلى صعيد اخر وفي قراءة لتطورات الوضع الاقتصادي والمالي كانت للاحداث الاخيرة مضاعفات مباشرة وغير مباشرة على مختلف القطاعات مما ادى الى اقتصاد شبه منهار وخسائر بنحو اربعة مليارات دولار وتراجع نسبة النمو الى واحد في المائة وهو ما دفع الى اتخاذ اجراءات استثنائية وظرفية.

ووفق بيانات حكومية تجلت الأضرار الاقتصادية في تراجع جل القطاعات من بينها السياحة التي انخفضت عائداتها حتى نهاية يونيو 50 في المئة ما ادى الى فقدان نحو سبعة الاف وظيفة شهريا اضافة الى تراجع أداء قطاع المناجم والفوسفات بنسبة 53 في المئة.

واشارت بعض التقارير الى أن القطاع السياحي يعد من أكثر القطاعات التي تأثرت سلبا بعد الثورة وأن هذا التراجع لم يكن نتيجة مباشرة للثورة وانما كان نتيجة للانفلات الأمني. كما تكبدت المؤسسات الاجنبية خسائر كبرى جراء الاضرار التي لحقتها بعد عمليات الحرق والاتلاف وهو ما ادى الى تعطيل انشطتها الامر الذي دفع اكثر من 33 مؤسسة اجنبية الى مغادرة تونس وخسارة ما يزيد عن 2400 وظيفة.

اما بالنسبة للقطاع الصناعي الذي شهد تراجع جميع المؤشرات وأضرار كبيرة في الصناعات الكيمياوية بدأ يشهد تحسنا خاصة في شهري مايو ويونيو ما يبشر بأداء أفضل للقطاع ومساهمة أكبر في تحسين الوضع الاقتصادي العام خلال الفترة المقبلة.

وفي المقابل قفز نمو قيمة الصادرات الصناعية منذ بداية السنة من أقل من 3ر2 الى 14 في المئة نهاية شهر مايو مع تواصل تسجيل تحسن صادرات الصناعات الميكانيكية والكهربائية والنسيج والملابس والجلد والصناعات الغذائية مقابل تراجع صادرات المواد الكيميائية بنسبة 13 في المئة ومواد البناء 5ر12 في المئة.

ويعود هذا النمو الى تحسن المناخ العام بالبلاد وعودة المؤسسات للنشاط في ظروف أفضل نسبيا الى جانب التحسن الملحوظ في أسعار المنتجات التي تصدرها تونس مع تحسن الطلب الخارجي على المواد المصنعة لاسيما النسيج والملابس والجلد والمواد الكهربائية والالكترونية والصناعات الغذائية.

وشهدت البورصة ايضا لاول مرة في تاريخها ارهاصات ادت الى تكبدها خسائر مالية كبرى في النصف الاول من السنة الجارية حيث تراجع راس مال البنوك بنحو مليار دولار اضافة الى انخفاض راس مال السوق بنحو 2ر2 مليار. ومن بين الأرقام والاحصائيات الدالة على خطورة الاوضاع تسجيل ارتفاع في عدد الاضرابات بنسبة 130 في المئة وارتفاع في عدد المؤسسات التي شهدت اضرابات بنسبة 92 في المئة وعدد الأيام الضائعة فقد بلغت نسبة تطورها 374 في المئة.

اما واقع الانفلات الاجتماعي الذي عرفته جل القطاعات الانتاجية ابان ثورة 14 يناير قادت مجموعات مهنية اعتصامات العاطلين لتمرير مطالبهم في تحسين أوضاعهم وزيادة الأجور. واشارت البيانات الى ان هناك 520 ألف شخص عاطل عن العمل في تونس منهم حوالي 160 ألف من حاملي شهادات عليا هو رقم مرشح للارتفاع ليبلغ حوالي 700 ألف خلال 2011. وكشفت احصائيات حديثة لوزارة التشغيل أن الاناث يمثلن نسبة 57 في المئة من مجموع العاطلين وأن النسبة العامة للبطالة في البلاد بلغت 3ر13 في المئة بنهاية العام الماضي.

وقدرت العدد الاجمالي للعاطلين بنحو نصف مليون شخص بينهم حوالي 22 في المئة من خريجي الجامعات ومؤسسات التعليم العالي الامر الذي حذر منه تقرير حديث للبنك الدولي بأن البطالة quot;تظل مشكلة مهمةquot; لخريجي مؤسسات التعليم العالي في تونس الذين quot;يمثلون ستين في المئة من الوافدين الجدد الى سوق العملquot;.

الا أن هذا الوضع الدقيق لا يحجب بروز بعض الانفراج في الأفق في مستوى المناخ الاجتماعي في المدة الأخيرة حيث رصدت بيانات وزارة الشؤون الاجتماعية تدرجا نحو التحسن والانفراج بانخفاض عدد الاضرابات بنسبة 13 في المئة وعدد المؤسسات المعنية بهذه الاضرابات بنسبة 11 في المئة وانخفاض عدد الأيام الضائعة بنسبة 45 في المئة.

وربما بدأت تونس تكتشف أن (ثورة الياسمين) والآمال العريضة المطلوبة تتطلب الجهد الكبير كون الشعب التونسي بمختلف أطيافه وشرائحه مسؤول كل حسب موقعه عن صفحة جديدة بارزة في تاريخ بلاد quot;تمر بأوقات دقيقة للغايةquot;.