إيلاف تطرق عالم السلفيين الغامض في تونس (1/2)

في الحلقة الأولى، توقفت (إيلاف) عند أهمّ غزوات السلفيين في تونس الذين ظهر نشاطهم بعد سقوط نظام بن علي، واقترن ذلك الظهور بالعنف والاعتداء على الحريات العامة والخاصة، وفي ما يلي يقرأ خبراء ومتخصصون أفق عمل السلفيين في تونس ومدى تعايشهم مع بقية مكونات المجتمع التونسي.


راشد الغنوشي مع أحد شيوخ السلفية

شهدت تونس ما بعد بن علي، انفجار التيار السلفي وتتابع تحركاته غير المنظمة والصادمة في بعض الأحيان، وسط صمت الحكومة الحالية ومخاوف من انتهاك الحريات الفردية والعامة.

يتفق متخصصون في الحركات الإسلامية وعلم الاجتماع، تحدثت معهم (إيلاف)، على أن التيار السلفي مؤهل أكثر للانتشار، وأن نفوذه وقوته العددية قابلان أكثر للتعاظم، خاصة في مناخ استفزازي، وأن الآلية الوحيدة لمعالجة هذه الظاهرة تتمثل في الحوار والإقناع، لا في الحل الأمني، فيما اختلفوا بخصوص وزنه الحالي، ومدى طاقته في التأثير على الاستقرار السياسي والأمني في تونس.

يقول صلاح الدين الجورشي المتخصص في الحركات الإسلامية لـ (إيلاف) quot;التيار السلفي في تونس حديث النشأة، وظهرت نواته الأولى بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول، وتعرّض هذا التيار في أواخر عهد الرئيس السابق بن علي إلى محاصرة وقمع شديدين، حيث إنغالبية عناصره حوكمت استنادًا إلى قانون الإرهاب، وبعد الثورة تم تحريرهم، ووجدوا أنفسهم أمام فرصة تاريخية للتعبير عن وجودهم، من خلال المساجد أو النزول إلى الشارع بكل ثقلهم، ما أثار انتباه التونسيين، وأحدث نوعًا من الرجة لديهم.

لكن هذا التيار لا يزال محدودًا من حيث إمكانياته وعدد أفراده، إلا أنه قابل للتطور من الناحية العددية، ويمكن أن يصبح تيارًا ضاغطًا، من خلال مواقع تواجده، التي هي في الغالب مواقع شعبية، كما إنه من خلال شعاراته ومطالبه يمكن أن يلفت النظر، حيث تركز عليه وسائل الإعلام، ما يضخم من شأنه، خلافًا لما هو عليه فيالميدان، كما إنه يمكن أن يضغط على حركة النهضة، باعتبار أنه يتهمها بعدم حملها مشروعا إسلاميا، والخطر في الأمر أن التيار السلفي لا يتقيّد بالضوابط القانونية، ما يخلق حالة من الارتباك على المستوى العامquot;.

من جانبه، أكد محمد القوماني الأمين العام لحزب الإصلاح والتنمية والمتخصص في الحركات الإسلامية خلال لقاء مع (إيلاف): أن quot;مصطلح السلفية مثل مصطلح الإسلامية، حيث اعتبره توصيفًا فضفاضًا، ولا يعبّر تعبيرًا سياسيًا دقيقًا، فالإسلاميون مثلاً يمتدون من طالبان إلى إردوغان، مع فروقات كبيرة، وهذا ينطبق على التيار السلفي، إذ لا يمكن اعتبارهم تيارًا سياسيًا أو تنظيمًا، لأن السلفية بالأساس هي منهج في التفكير ورؤية للنص الديني والمجتمع، ومن أهم خصائصه، التي يشترك فيها مع الإخوان وحزب التحرير، هو القراءة اللاتاريخية للنص الديني، أي بمعزل عن التطور التاريخي للمجتمعات.

فالسلفيون، سواء في تونس أو خارجها، ينظرون إلى الأشياء على أنها ثابتة، فلا يميزون بين ثبات الدين وموقعه في المجتمع المتغير بطبيعته، إضافة إلى التعاطي مع الديمقراطية على أنها مجرد آلية لفرز الأقلية من الغالبية، وهذا خطأ بطبيعة الحال، لأن الديمقراطية أشمل بكثير من كونها مجرد آلية انتخابيةquot;.

ويتابع المتخصص في الحركات الإسلامية بقوله quot;التيار السلفي بشقيه الدعوي والجهادي يمثل قوة عددية مهمة، وهذا واضح من خلال تأثر الجمهور المسجدي بطريقة لباس وممارسات هذا التيار، خاصة خلال موجة التدين، التي عرفتها تونس خلال السنوات العشرالأخيرة، وبالتالي أصبح له تأثير، حتى على قواعد النهضة نفسها، لأنه بالأساس منهج في التفكير، قبل أن يكون تيارًا، والخطر أن التشدد يبدأ ببعض مظاهر اللباس، ويتطور بسرعة إلى أشكال عنيفة ضد كل الذين يختلفون معهم في الرأي، خاصة إذا كان مرتبطًا بالدين، حيث يعتبر صاحبه أنه يمتلك الحقيقة المطلقة، فتصبح المسافة بين الاعتقاد بامتلاك الحقيقة والعنف قصيرةquot;.

المظاهر السلفية تزداد في تونس

وقال المهدي مبروك وزير الثقافة في الحكومة التونسية لـ (إيلاف) quot;التيار السلفي في تونس لا يمثل قوة عددية كبيرة، وحسب دراسة قمت بها في وقت سابق، فقد كان عدد المعتقلين في سجون بن علي بين 4000 و 5000 منتم إلى هذا التيار، ويتركز أساسًا في محافظة بنزرت وسيدي بوزيد والمناطق الساحلية، وهذا التيار ليس له وزن ميداني كبير، إذا كان منفردًا، ولكنه يستفيد من تعاطف التيارات الإسلامية الأخرى، وكما نتابع ففي كل التحركات يكون التيار السلفي هو النواة، وليس صاحب القوة العددية الأهم، وأعتقد لو تأخذ بقية التيارات الدينية الأخرى موقفًا مناهضًا له، وبعيدًا عن الحسابات الانتخابية، مثلاً، حيث إن هذا التيارانبثق من السياق الانتخابي، فلن يكون له وزن ميداني كبير، ولن يكون له أي تأثيرquot;.

وأضاف وزير الثقافة التونسي لـ (إيلاف) وهو باحث اجتماعيّ معروف: quot;التيار السلفي ينقسم إلى سلفية اجتماعية (غير موجود في تونس)، وسلفية علمية وسلفية سياسية، منها الشق الجهادي، الذي يشارك في الحياة السياسية من خارج المنظومة، عكس حركة النهضة مثلاً، التي تقبل بشروط اللعبة الديمقراطية، وهم يؤمنون بالعمل السياسي، لكن في منظومة لا تعترف بالديمقراطية والانتخابات، فلهم تصورات للحقل السياسي بعيدة عن المعنى الحديث للمصطلح، فهم لا يتحدثون عن مجلس نواب وبرلمان، بل مجلس شورى، والفرق الأساسي بين التيار السلفي والتيار الاخواني هو أن الأول حركة أصولية، فيما يعتبر التيار الأخواني حركة إصلاحيةquot;.

ويرى زياد الدولاتلي القيادي في حركة النهضة وعضو مكتبها السياسي خلال إفادته لـ (إيلاف) quot;أن استعمال مصطلح تغول التيار السلفي كما هو متداول غير موضوعي، لأن هذا التيار لو كان فعلاً متغولاً لاختاره الشعب، وكان له تأثير على الواقع السياسي في تونس، ولكن هناك بعض الأطراف السياسية، التي تحاول أن تستغل بعض المواقف والتحركات الخاطئة للتيار السلفي وتضخيمها، ففي أعتى الديمقراطيات نجد الأحزاب التي تستند إلى فكر متشدد ومنغلق، ونحن في مرحلة تلي فترة دكتاتورية واحتقان وتوتر، ومن الطبيعي أن نجد ظواهر، مثل التيار السلفي، ولكننا نتجه نحو ديمقراطية وتشريك الجميع، سواء كان أقصى اليسار أو أقصى اليمين، ونفسح لهم المجال للتعبير، وعددهم الذي تفاقم خلال الأزمات سيتقلصquot;.

ويؤكد القيادي في حركة النهضة quot;في كل المجتمعات نجد التطرف والاعتدال، واليمين واليسار، والمتخصصون في علم الاجتماع يؤكدون أن التطرف ينمو ويتضخم خلال الأزمات، ويجب أن لا ننسى أن المجتمع كان يعيش حالة احتقان رهيب، والعالم العربي يعيش أزمة وإحباط أمام التغول الأميركي والحرب على العراق، وفي خضم هذا وجد خطاب التيار السلفي رواجًا لدى الطلبة والشباب بصفة عامة، سواء في تونس أو خارجها، واليوم المجتمع التونسي فيه أقصى اليمين وأقصى اليسار، ونحن الآن في مرحلة حرية وديمقراطية، ونتجه نحو الاعتدالquot;.

عبد المجيد الحبيبي رئيس حزب التحرير أشار خلال لقاء مع (إيلاف) قائلاً quot;التيار السلفي غير مهيكل في تونس، وخلافًا لما هو متداول، فهو يمارس السياسة، لكن ليس بمعناها الحديث، ولا أحد يمكنه إنكار تأثيرهم خلال فترة ما بعد بن علي، ومعظم المتبنين لهذا الفكر هم حديثو العهد بالتدين، وبالتالي جهلهم بالدين يسهّل تأثرهم به، باعتبار أنهم لا يمتلكون الآليات الكافية لنقده، كما إنهم لا يتحركون إلا بالعودة إلى شيوخهم، سواء كان في تونس، كما هو الحال بالنسبة إلى السلفية الجهادية، أو خارجها بالنسبة إلى السلفية العلمية، التي تعتبر متصلة عضويًا بمشايخ السعودية، ولا يتدخلون في الشأن السياسي في الغالبquot;.

وتشير إحصائيات غير رسمية إلى أن التيار السلفي في تونس يسيطر على حوالى 400 جامع ومسجد من بين 5000 منتشرة في كامل البلاد.

الحوار وتجنب الاستفزاز

يرى سياسيون ومتخصصون في علم الاجتماع أن الحل الأمني لن يجدي نفعًا مع التيار السلفي، بل ستكون له نتائج عكسية، وشددوا على ضرورة اعتماد الحوار والإقناع والتحلي بالحكمة في معالجة هذه الظاهرة، التي توصف بالغريبة والدخيلة على المجتمع التونسي، وتجنب الاستفزاز خاصة.

وقال زياد الدولاتلي القيادي في حركة النهضة خلال لقائه مع (إيلاف): quot;معالجة مثل هذه القضايا الفكرية والإيديولوجية لا تكون أمنية، إنما بتوفير مناخ من الحرية والحكمة والإشراك، ونحن في حركة النهضة نؤمن بهذا، وقد شاركنا أقصى اليسار في مواجهة بن علي، فما بالك بالتيار السلفي اليوم، ونحن في حركة النهضة نجحنا في عقد حوار إسلامي علماني في 18 تشرين الأول (أكتوبر) 2005، وفي ظروف قاسية، فإذا نجحنا مع أقصى اليسار، الذي يتناقض معنا إيديولوجيًا، فكيف لا ننجح في التحاور مع التيار السلفي، أضف إلى ذلك أن الديمقراطية لا تحتمل الإقصاء، ولن نمارسه ضد أي كان، وهذه تركيبة المجتمع التونسي، ويجب أن نقبل بها كما هي، ونتجه إلى الحوارquot;.

وتابع الدولاتلي quot;يجب أن نجعل حرية المعتقد أمرًا مقدسًا، وبالتالي يجبألا نفرض على أي كان تغيير عقيدته ومواقفه المنبثقة من هذه العقيدة، والسماح بالممارسة العملية المتصلة بهذا المعتقد، فمسألة النقاب مثلاً أؤمن أنها خاطئة، ولكن المنتمين إلى التيار السلفي يؤمنون بكونها عبادة، وهم أحرار، إضافة إلى أن مواجهة أي معتقد بالقوة والاستفزاز لن يولّد غير مزيد من التطرف، لذا يجب مواجهتهم بالإقناع، وتوفير مساحة للتعبير، بما لا يخلّ بالمصلحة الوطنية، ولكن ليس من المعقول أن نفرض عليهم التخلي عن الممارسة المتصلة بعقيدتهم أو حرمانهم من حقوقهم، كالتعليم للمنقباتquot;.

وشدد عبد المجيد الحبيبي رئيس حزب التحرير من خلال إفادته لـ (إيلاف): quot;على المدى الطويل لن يكون أي تأثير أو امتداد للفكر السلفي في حال فسح المجال للحوار معهم على وسائل الإعلام والمنتديات، وكان الإسلام موضوع النقاش، وسيعرف الجميع مواطن الخلل في تفكيرهم، وستظهر كل الثغرات في تصورهم للإسلام، وحصره في ممارسات ولباس معين، وبالتالي سيتوقف امتداد هذا التيار في تونسquot;.

المهدي مبروك الباحث في علم الاجتماع ووزير الثقافة قي تونس أكد لـ (إيلاف) قائلا: quot;هذا التيار ينمو، خاصة في مناخ استفزازي، لأن العاطفة الدينية هي التي تحرّكه، وبالتالي يجب التحلي بالحكمة والحذر في الصراع مع السلفيين، وعدم الاستسلام إلى ما يريدون جرّ المجتمع إليه، وكل الحركات الاستفزازية لن يستفيد منها إلا التيار السلفيquot;.

إمكانية التهيكل

وفي الوقت الذي تنكر قيادات التيار السلفي وشيوخهم في تونس نيتهم في التهيكل أو بعث حزب يضم كل المتبنين للفكر السلفي، لا يستبعد متخصصون في الحركات الإسلامية أن يتطور هذا التيار العقائدي إلى حزب يشارك في الحياة السياسية من داخل المنظومة، شأنه شأن حزب النور في مصر.

في هذا السياق، قال محمد القوماني المتخصص في الحركات الإسلامية لـ (إيلاف) quot;حركات التشدد الديني في بدايتها ترفض الديمقراطية، وتعتبرها كفرًا، فمثلاً حركة الاتجاه الإسلاميفي بداية نشاطها (حركة النهضة حاليًا) لم تكن تعترف بمصطلح الديمقراطية، وتعتبرها بضاعة مستوردة من الغرب، ولكن تطورت الحركة، وأصبحت تعتبر أن الحرية والديمقراطية مطلب الشعوب، لذا لا أستبعد أن يقبل بها التيار السلفي، والدليل أن نظيره في مصر شارك في الانتخابات، وقبل باللعبة الديمقراطيةquot;.

وتابع القوماني: quot;من الأفضل أن يتهيكل التيار السلفي في إطار حزب أو تنظيم سياسي، وأؤكد أن التخويف منهم أو الهجوم الإعلامي عليهم لن يجدي نفعًا، خاصة أن العمل في السرية يغذّي التشدد، ويجعل التنظيمات تنغلق على نفسها، في حين أن العمل العلني، والاحتكاك ببقية الأطراف السياسية، يمكن أن يطوّرها، وحركة النهضة خير مثال، حيث تطورت خلال الثمانينات، بعد الصراعات في الجامعة مع التيارات اليسارية، واليوم بالتدافع مع الأحزاب العلمانيةquot;.

وتذكر بعض المصادر أن quot;السلفيةquot; في تونس نشأت في أواخر الثمانينات تحت اسم quot;الجبهة الإسلامية التونسيةquot;، ولكن نظام بن علي فتك بها.

وفي أواخر شهر كانون الأول (ديسمبر)2006 شهدت تونس حادثة عرفت بـquot;مجموعة سليمان المسلحةquot;، حيث اقتحمت مجموعة من السلفيين الجهاديين المسلحين مدينة سليمان التونسية، وخاضت اشتباكاتعنيفة مع الأجهزة الأمنية المتخصصة في مقاومة الإرهاب، دامت حوالى أسبوع، لتنتهي بقتل بعض السلفيين، واعتقال البعض الآخر، وكذلك مقتل ضابط سام في الجيش.

واعتبر محللون أن أحداث مدينة سليمان مثلت إشارة قوية إلى صعود السلفيين في تونس، وانتقال عدوى quot;السلفية الجهاديةquot; إليها، مؤكدين أن تسلل المجموعة المسلحة إلى تونس، رغم أن النظام الأمني قوي، دليل على أن البلاد اخترقتها السلفية الجهادية.

وبحسب الأجهزة الأمنية، فإن المرشد الروحي لمجموعة سليمان المسلحة شيخ في الستينات من عمره، ويدعى الخطيب الإدريسي، وقد سجنته السلطات لمدة عامين، وأطلقت سراحه أوائل كانون الثاني (يناير)2009 بعد إنهائه عقوبة بتهمة quot;الإفتاء بقيام عمليات جهادية، وعدم الإرشاد عن وقوع جريمةquot;.

وقد تلقى الإدريسي تعليماً دينياً في المملكة العربية السعودية، وعاد إلى تونس، وأصدر كتبًا عدة،منها quot;صفة الصلاةquot;، وquot;كتاب الأذكارquot; وquot;ترتيل القرآنquot;.