اندلعت الاحتجاجات في تونس بوتيرة متصاعدة عمّت أرجاء البلد ومعظم قطاعاته، لا سيما في مرحلة ما بعد الانتخابات، وإلى جانبها اندلعت الإتهامات المتبادلة بين الحكومة المتهمة بإغداق الوعود الفارغة، وبين المعارضة اليسارية المتهمة بإستغلال الناس للتحريض والتخريب.


الرئيس التونسيالمرزوقي

تونس: تتصاعد في تونس منذ بداية الأسبوع الماضي حركة الاحتجاجات والاحتقان الاجتماعي من قبل مواطنين، يقول عنهم خبراء ومتابعون إنه لم تعد لديهم قدرة على مقاومة رياح الفقر والبطالة، التي تشتد بعد أكثر من عام على ثورة، كان quot;الخبزquot; أحد الرموز المرفوعة فيها، فيما اتهم الرئيس المرزوقي أقصى اليسار وبقايا نظام بن علي بتحريكها للإطاحة بالحكومة.

وعمّت الإضرابات والاحتجاجات مناطق متفرقة من المحافظات التونسية منذ يوم 14 كانون الثاني/يناير الجاري، مما ينبئ بتصاعد الضغوطات على حكومة فتية، لم تتوان في طلب هدنة، حتى يتسنى لها الانطلاق في تطبيق مشاريعها الاقتصادية والاجتماعية.

بلغت الموجة الاحتجاجية العنيفة، التي بدأت منذ يوم الاحتفال بالذكرى السنوية الأولى لـquot;ثورة 14 ينايرquot;، حدود إعلان الإضراب العام في مدن عديدة، مما أدى إلى شلّ كل مظاهر الحياة الاقتصادية والاجتماعية والإدارية بالكامل، حيث أغلقت المؤسسات التربوية، فيما قامت مجموعات من المحتجين بقطع الطرقات وإغلاق منافذ العديد من المدن الأخرى.

وأكد حمادي الجبالي رئيس الحكومة التونسية أن الاعتصامات أدت إلى تردي الوضع الاقتصادي في تونس خلال العام الماضي، كما عبّر عن قلقه من تواصل الاضطرابات وقطع الطرقات، التي نتج منها توقف نشاط العديد من الشركات، ونبّه من أن quot;مصير البلاد أصبح في الميزانquot;.

وحذر من أن حكومته quot;لن تقبل الاعتصام العشوائي بعد اليومquot;، وأضاف أن quot;من يريد تركيع الحكومة أو الإطاحة بها بهذه الطريقة فهو مخطئquot;.

وأوضح أن الاقتصاد التونسي تكبّد بسبب هذه الظاهرة خسائر مالية بقيمة 2.5 مليار دينار خلال 2011، فقد سجلالحوض المنجمي والمجمع الكيميائي خسائر بـ120مليون دينار.

وبيّن أن النمو الاقتصادي للبلاد تراجع في العام نفسه بحوالى نقطتين تحت الصفر، مشيرًا إلى أن quot;هذه هي المرة الأولى التي يسجل فيها الاقتصاد التونسي نموًا سلبيًا منذ 20 عامًاquot;، واتهم بقايا نظام بن علي بتأليب الجهات على حكومته.

يذكر أن الرئيس المرزوقي طلب فور تسلمه منصبه كرئيس من التونسيين هدنة لمدة 6 أشهر كمهلة لحكومة الإسلامي حمادي الجبالي، حتى تتمكن من تنفيذ برامجها بدون ضغط، ويستعيد الاقتصاد عافيته.

الإحتجاجات تعم تونس

وعود الحكومة
في هذا السياق، صرح المحلل السياسي الجمعي القاسمي لـquot;إيلافquot; أن الاحتجاجات والاعتصامات، التي تشهدها تونس، quot;تجاوزت الحد المطلوب خلال هذه المرحلة الانتقالية، والسبب يتمثل في احتقان سائد قبل 14 كانون الثاني/ينايرquot;.

وأوضح أنها quot;اتخذت أشكالاً جديدة خلال هذه الفترة لاعتبارات أساسية مرتبطة بطبيعة الوعود وسقفها العالي، التي طرحتها الأحزاب السياسية خلال الحملة الانتخابية، والمواطن التونسي رأى في تلك الوعود حلاً قابلاً للتطبيق، لكنه لم يلمس أي تغيير في وضعه الاجتماعي والاقتصاديquot;.

ورأى أن الأحزاب السياسية والحكومات المتعاقبة، بما فيها الحكومة الحالية، quot;أخطأتquot; في هذا المجال، quot;حيث نرى عددًا من الوزراء لا يترددون في الحديث عن مشاريع كبرى قادرة على امتصاص نسبة البطالة، في حين أن الوضع الاقتصادي الراهن لا يدل على ذلكquot;.

من هذا المنطلق رشح quot;حالة الاحتقان للتصاعد خلال الأسابيع والأشهر المقبلة، إذا لم تخاطب الحكومة الشارع بلغة واقعية، تتماشى وإمكانيات البلاد الاقتصادية وقدرتها الحقيقة على التخفيض من البطالةquot;.

في هذا السياق، أكد شكري بلعيد الناطق الرسمي باسم quot;حزب الوطنيون الديمقراطيونquot;لـquot;إيلافquot; أن quot;الأسباب الرئيسة لتفجّر الاحتجاجات هي تفاقم البطالة وعدم التواصل مع سكان أكثر من 14 محافظة داخليةquot;، لافتًا إلى أنها نفسها التي اندلعت منها ثورة quot;14 ينايرquot;، وهي quot;تحتجّ الآنquot;.

وأضاف quot;أن التونسيين شاهدوا أحزابًا سياسية، روّجت خطابًا شعبويًا خلال الفترة الانتخابية مليئًا بالوعود غير القابلة للتحقيق في سبيل الحصول على الأصوات، وعوضًا منأن تتفرغ لمشاكلهم، غرقت لمدة شهرين في الصراع على الحقائب الوزاريةquot;.

زاد على هذه العوامل quot;نفاد صبر التونسيين وعدم لمسهم لأي تغيير في وضعهم الاجتماعي والاقتصاديquot;، موضحًا أنه quot;لا يمكن مطالبة مجتمع فيه أكثر من 800 ألف عاطل عن العمل، بالسكوت عن وضعهم، الذي يسوء يومًا بعد يوم، في غياب إجراء جدي يفتح باب الأمل أمامهمquot;.

من جانبه، حسين العباسي الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، أكبر منظمة عمّالية في تونس، شدد على أن الاتحاد لا يستطيع منع الاعتصامات والاحتجاجات، وأن انفجار المطالب يعود بالأساس إلى كثرة الوعود من طرف الأحزاب خلال الحملة الانتخابية.

ودعا الأحزاب السياسية الفائزة في الانتخابات إلى مصارحة الشعب quot;بوهمية الوعود التي وزعتها خلال الحملة الانتخابيةquot; بدلاً مناتهام الاتحاد العام التونسي للشغل بأنه يقف وراء انفجار الاحتجاجات، وطالب الحكومة بإيجاد حلول عاجلة لبعض الجهات المهمشة.

يذكر أن حركة quot;النهضةquot; وعدت في حملتها الانتخابية بتوفير quot;590 ألففرصة عملخلال السنوات الخمس المقبلةquot;، وأعلن نور الدين البحيري آنذاك أن الحركة تخطط لتقليص نسبة البطالة إلى حدود 8.5 % بحلول سنة 2016.

راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة

شماعة النظام السابق واليسار

أما الرئيس التونسي النصف المرزوقي، فاتهم أقصى اليسار وبقايا النظام السابق باستغلال الاحتجاجات الاجتماعية وتحريكها quot;لتخريب الثورةquot;، واصفًا ما يجري في تلك الاحتجاجات من طرف هذه القوى السياسية بأنه quot;استغلال وتسييس وتحريض لإغراق الائتلاف الحاكمquot;، واعتبر أن quot;الاعتصامات والإضرابات العشوائية عملية انتحار جماعيquot;.

وأكد أنه quot;رغم استغلال بعض الأطراف عدم استخدام الحكومة للقوة للحد من الاحتجاجات والاعتصامات الفوضوية، إلا أن الحل لن يكون أمنياً، بل بالحوار والإقناعquot;، ومشيرًا إلى quot;التفاوت بين المناطق،بسبب تركة حكم بن علي، وأن الحكومة تسعى إلى تقليصهquot;.

من جانبه قال راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة quot;لن نقبل أن تسرق ثورة شعبنا من قبل أقلية تريد شلّ البلاد، وجرّها إلى العنف وإثارة نعرات جهوية، فهم يحاولون إيهام بعض العاطلين والفقراء بأن شلّ اقتصاد البلاد وإحالة مئات الآلاف من العمال على البطالة، سيساهم في معالجة مشاكلهم، إنها مؤامرة خطرة، لا بد من وقفها فورًاquot;.

ورد شكري بلعيد على أقوال المرزوقي باعتبارها quot;تدل على ارتباك كبير ولامسؤولية لأنه أصبح يستقي معلوماته من الشائعات، التي يطلقها أنصار النهضة على فايسبوكquot;.

وأكد أن تحرك كل هذه الأعداد من التونسيين quot;شرف لا ندّعيه، ولو كانت لدينا القدرة فعلاً على تحريكهم، لقمنا بذلك، فكيف لأحزاب الصفر (في إشارة إلى تهكم أنصار النهضة على نتائج أحزاب اليسار في الانتخابات) كما ينعتنا حلفاؤه أن تحرك أعدادًاكبيرة في كل هذه المناطقquot;.

وكشف الناطق الرسمي باسم حركة quot;الوطنيون الديمقراطيونquot; أن الرئيس quot;لو نزع كل صلاحياته من طرف حلفائه، كان يمكن أن يكون عنوان وحدةلمكانته الاعتدالية ورصيده النضالي في مجتمع، أصبح يشكو انقسامًا كرّسته الحكومة الحاليةquot;.

وأضاف quot;سنعتبر أن ما صدر منه زلة لسان أخرى، وندعوه إلى انقاذ البلاد بالدعوة إلى الحوارquot;.

في هذا الإطار، أكد المحلل السياسي الجمعي القاسمي لـquot;ايلافquot; أن اتهامات الرئيس المرزوقي أو راشد الغنوشي هي quot;اتهامات مجافية للحقيقة، ولا تستند إلى قرائن موضوعية لطبيعة الوضع في تونسquot;.

ورأى أن اتهام أقصى اليسار أو بقايا النظام السابق بإثارة الاحتجاجات quot;لا يتماهى مع الحقيقة، ولا يعبّر عن قراءة دقيقة للوضع، لأن المسؤول الأول والأخير هي الأحزاب السياسيةكلها، وفي مقدمتها حركة النهضة، التي قدمت وعودًا كبيرة جدًا للناخب التونسي، لكنها لم تستطع ترجمة تلك الوعود إلى حد اللحظةquot;.

واستنتج بالتالي أن quot;اتهام أقصى اليسار وأزلام النظام السابق، أضحت شماعة، لا يمكن القبول بها، بعد مضي عام على ثورة 14 كانون الثاني/ينايرquot;.

محتجون يقطعون الطريق في منطقة quot;مكثرquot;

الحكومة سلمية!

منذ تفجّر الاحتجاجات، يثير صمت الحكومة على الاعتصامات العشوائية وقطع الطرق ومداخل المدن وعدم قيامها بواجبها الأمني التساؤلات، خاصة بعد تأكيد بعض وزرائها ورئيسها أن هذه الاعتصامات ستدمّر الاقتصاد كليًا إن تواصلت.

وقد سجلت الحركات الاحتجاجية اعتداءات على بعض المسؤولين ورجال الأمن، كما هو الحال في محافظة القيروان وإتلاف المنشآت العمومية والخاصة في منطقة سيدي بوزيد، وطرد المحافظ في quot;قبليquot;، بحجة عدم قدرته على إدارة شؤون المنطقة.

وذلك بالرغم من أن الغنوشي صرّح أنه quot;لا بد للحكومة وقوات الأمن أن تتدخل، ولا بد للشعب أن يحمي ثورته، والشعب سيتصدى لمن يريد تخريب البلاد وإجهاض ثورتهquot;.

حول هذا الشأن، يوضح سالم الأبيض الباحث في علم الاجتماع السياسي لـquot;إيلافquot; أن quot;الأحزاب، التي تمسك بالسلطة، لا تستطيع ممارسة واجبها الزجري على بعض الاعتصامات الفوضوية، التي لا مبرر لها في الوقت الحاليquot;.

يرجع السبب في ذلك إلى quot;ضعف مؤسسات الدولة، إضافة إلى تركيزها على الانتخابات المقبلةquot;.

إلا أن الأستاذ الجامعي في تونس يرى أن هناك بعض quot;التحريض الإعلامي من طرف بعض التنظيمات السياسية والاجتماعية، تسبب تصاعد الاحتجاجات واستغلال الشرائح الفقيرة والمهمشة، التي لم تفهم أن الوعود الانتخابية لا يمكن تحقيقها في ظرف وجيزquot;.

عن كيفية الحد من الاحتجاجات، ينصح الأبيض quot;بتغيير طبيعة العلاقة بين الحكومة والمواطن، وإيجاد أدوات مصالحة جديدة عبر حوار الجهويين وإعطائهم ضمانات حقيقية، والتخلي بالتوازي عن القنوات الرسمية، التي لم تعد لها أية مصداقية، ولم يعد المواطن يثق بما يتلقاه منها من وعودquot;.

في شأن متصل، هدّد النقابي التونسي عدنان الحاجي في وقت سابق الحكومة التونسية بإعلان العصيان المدني في مدينة الرديف من محافظة قفصة (350 كلم جنوب غرب تونس العاصمة) معتبرًا خلافه مع الحكومة quot;ليس سياسيًاquot;.

كما ألغى quot;الاتحاد العام التونسي للشغلquot; إضرابًا عامًا كان مقررًا في 25 كانون الثاني/يناير الجاري، بعد مفاوضات مع وزارة الشؤون الاجتماعية، أفضت إلى إلغاء العمل بالمناولة في القطاع العمومي.

وأغلقت منذ 14 كانون الثاني/ينايرقرابة 120 مؤسسة اقتصادية، تبلغ طاقة استيعابها حوالى 40 ألف عامل بسبب الاعتصامات.

وبلغ عدد الإضرابات من دون سابق إعلام حسب منظمة الأعراف التونسية حوالى 360 إضرابًا خلال الأشهر العشرةالأولى من 2011.

كما أعلن البنك المركزي التونسي في وقت سابق أن نسبة النمو الاقتصادي ستعادل مستوى الصفر أو ما دونه، مما سيؤدي إلى تراجع نسق توفير فرص العمل وتجاوز نسبة البطالة مستوى 18 % ليبلغ مليون عاطل عن العمل.