تتشعب الأزمة السورية وتتداخل فيها أوراق عديدة، خصوصًا الورقة الأكثر تأزيمًا على الملعب التركي السوري، إذ يعرف الأتراك أن الأسد يؤلّب الأكراد ضد الحكومة التركية، في سياسة مدروسة لتجنب أي تدخل عسكري تركي في النزاع، قد يقلب المقاييس، لكنه سيكلف تركيا الكثير.


عبد الاله مجيد: يبدو أن الاحتمالات التي تنذر بامتداد حريق الأزمة السورية إلى دول الجوار تزداد يومًا بعد آخر. ففي تركيا تحديدًا، تنتشر قوات المشاة على ضفتي نهر العاصي، الذي يعبر السوريون الهاربون من القتال مياهه العكرة بزوارق صغيرة، وفوق رؤوسهم تحوم الطائرات التركية.

ويرى العديد من المراقبين أن الحدود التركية ndash; السورية، التي تمتد نحو 900 كلم، أصبحت برميل بارود، يخشى كثيرون أن يفجّر حربًا إقليمية لا أحد يريدها. وتجد تركيا نفسها تبذل معظم الجهود الدولية لمواجهة نظام الرئيس بشار الأسد، وهددت سلسلة الحوادث الأخيرة بين البلدين بتصدير النزاع السوري خارج حدوده، وجرّ لاعبين آخرين إلى الصراع.

طائرة الأزمة
شهد الأسبوع الماضي تصعيدًا جديدًا في حدة التوتر، أقحم قوة عظمى هي روسيا بعدما اعترضت المقاتلات التركية طائرة مدنية سورية آتية من موسكو، أجبرتها على الهبوط في تركيا، بدعوى أنها كانت تنقل معدات عسكرية إلى دمشق. أثار الحادث غضب روسيا، شريك تركيا التجاري، الذي أخذت أنقرة تغازله بعد عقود من العداء في فترة الحرب الباردة. واتخذت واشنطن جانب تركيا بوصفها الجناح الشرقي لحلف شمال الأطلسي.

جاء حادث الطائرة بعد نحو اسبوع على القصف المتبادل عبر الحدود، وقرار البرلمان التركي تفويض الجيش التركي بتنفيذ عمليات عسكرية خارج حدود تركيا. واشتدت لهجة الجانب التركي، مع دفع دبابات ومدافع وقوات مشاة ومضادات جوية إلى الحدود. واعلن رئيس الاركان التركي الجنرال نجدت اوزيل خلال زيارة للقرية التي قُتل فيها خمسة مدنيين بقذيفة سورية أن تركيا مستعدة للرد على النيران بأقوى منها.

سوء تقدير تركي
كان من المحتم أن تجر اهمية سوريا الجيوسياسية في قلب منطقة قابلة للاشتعال لاعبين آخرين أقوياء إلى دائرة النزاع، لديهم مصالح متنافرة. وبالنسبة إلى تركيا، فإن ما يجري جنوب حدودها يؤثر فيها أكثر من أي بلد آخر، لكن ذلك لم يمنعها من الدعوة مرارًا إلى تنحي الأسد، وتقديم المساعدات إلى المعارضة المسلحة التي تقاتل قوات النظام السوري، واستضافة أكثر من 100 الف لاجئ سوري نزحوا هربًا من القتال في بلدهم.

ويعتبر مراقبون أن النزاع السوري تحول منذ فترة إلى حرب بالوكالة بين النظام السوري وحليفيه روسيا وايران من جهة، والمعارضة السورية مدعومة من تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي ودول خليجية من الجهة الأخرى.

وكانت تركيا التي بدأت حديثًا بالوقوف ضد حليفها السابق، متوقعة سقوطه بسرعة نسبيًا كما سقط حكام استبداديون من قبله في ثورات الربيع العربي. لكن ذلك لم يحدث، واصبحت الأراضي التركية منطلقًا لعمليات المعارضة السورية المسلحة، ومركزًا لوجستيًا لامداد مقاتليها.

وترى تركيا أنها وصلت الآن إلى نقطة اللاعودة. فقد نقلت صحيفة لوس انجيلوس تايمز عن الباحث سونر جاغابتاي من معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى قوله quot;إن تركيا اصبحت رأس حربة المجتمع الدولي في معارضة الأسد، وإذا كان ثمة بلد لا يستطيع التعايش مع الأسد بعد اليوم فهذا البلد هو تركياquot;.

خشية المستنقع السوري
على الرغم من التصريحات النارية التي أدلى بها رئيس وزراء التركي رجب طيب اردوغان، فهناك قلق يسود تركيا من اتساع رقعة النزاع السوري اقليميًا. واظهرت استطلاعات الرأي أن الاتراك يعارضون بقوة الدخول في حرب مع سوريا. ويخشى كثير من الاتراك أن يكون بلدهم وحيدًا في موقفه من النظام السوري، بما ينطوي عليه هذا الموقف من مخاطر في منطقة متفجرة، حتى على دولة عضو في حلف الأطلسي لديها ثاني أقوى جيش بين جيوش الحلف.

ولاحظ محللون أتراك رغبة واشنطن في البقاء بعيدة عن معركة تشارك فيها افواج من المتطرفين الاسلاميين، الذين يريدون اسقاط الأسد. ورفضت ادارة اوباما تسليح المعارضة خشية وقوع أسلحة متطورة بأيدي تنظيم القاعدة أو جماعات متطرفة أخرى، فيما قالت فصائل معارضة إن الأسلحة التي تصلها بتمويل خليجي ليست كافية لإلحاق الهزيمة بقوات الأسد.

ويرى مراقبون أن اجتياحًا تركيًا للأراضي السورية خطوة ضررها أكبر من نفعها، لأنها لن تساعد المعارضة، ومن شأنها أن تدفع أكراد سوريا إلى التصدي لقوات انقرة، ما يؤدي إلى نزاع مديد يمكن أن يصبح تربة خصبة للجهاديين. لهذا، يخشى كثير من الاتراك وقوع بلدهم في المستنقع السوري.

تساءل المعلق عبد الله بوزكورت في الطبعة الانكليزية لصحيفة زمان التركية: quot;لماذا على تركيا أن تكون رأس الحربة في إسقاط النظام السوري، في وقت ليست لدى المجتمع الدولي رغبة لتسهيل اسقاطه؟quot;. اضاف: quot;تركيا ليست بحاجة إلى القيام بدور دون كيشوت هنا، ولنكن واقعيين فإن الولايات المتحدة لا تريد التورّط في النزاع السوري، كما هو واضح الآن لكل ذي بصيرةquot;.

الشعب لا يريد الحرب
أصبحت الاحتجاجات المناهضة للحرب ظاهرة شائعة في تركيا، بما في ذلك عقد اجتماع حاشد في مدينة انطاكيا الحدودية يوم السبت الماضي، حيث رفع المتظاهرون لافتات كُتبت عليها عبارة quot;لا نريد القاعدةquot;. وتسكن المدينة واقليم هاتاي المحيط بها اعداد كبيرة من العلويين الاتراك، الذين يؤيد كثير منهم نظام الأسد، ويشجبون دعم تركيا لما يسمونه quot;المجموعات الارهابيةquot; في الجارة سوريا.

على الرغم من الرغبة الشعبية بعدم التورّط في حرب مع سوريا، يؤكد الخبراء وجود تأييد شعبي واسع لرد تركي مناسب على الاستفزازات السورية، مثل قذيفة الهاون التي قتلت خمسة مدنيين في بلدة اكاجاكالا.

على امتداد عقد كامل، شهدت تركيا ازدهارًا اقتصاديًا لافتًا، بسبب استقرارها وبقائها بمنأى من اضطرابات المنطقة. ويخشى البعض الآن انتهاء هذه الفترة من التقدم والسلام النسبي مع انجرار بلادهم بصورة متزايدة إلى نزاع ليست له نهاية واضحة، وقد يزداد تفاقمًا قبل أن يصل إلى خواتيمه، خصوصًا أن التدخل التركي في سوريا قد يقحم مليوني كرديا سوريا في المعركة، لا سيما أن قوات الجيش التركي تقاتل مسلحي حزب العمال الكردستاني في جنوب شرق تركيا وشمال العراق منذ ثلاثة عقود.

تصعيد كردي
وكان مقاتلو حزب العمال الكردستاني فجّروا قبل نحو شهرين مركز الشرطة في مدينة شرناك، التي يسكنها نحو 60 الف شخص في جنوب شرق تركيا. ونُفذ الهجوم في 18 آب (اغسطس) لإيصال رسالة معينة، كما قال موظف محلي. ففي ذلك اليوم قبل 20 عامًا، أحال الجيش التركي مدينة شرناك انقاضًا عندما حاول المتمردون الأكراد السيطرة عليها.

وتزايدت خلال العام الماضي هجمات المسلحين الأكراد، وكان أشدها جرأة ما نُفذ صيف هذا العام عندما حاول حزب العمال الكردستاني السيطرة على بلدة سمدينلي بين الحدود الايرانية والعراقية والاحتفاظ بها والمناطق المحيطة. ردّ الجيش التركي بقوة ساحقة، مستخدمًا المدفعية والمروحيات والدبابات ليتمكن في النهاية من طرد المسلحين. وأفادت غالبية التقارير بأن الاشتباكات اسفرت عن وقوع مئات القتلى.

ونقلت مجلة تايم عن هيو بوب، رئيس قسم تركيا في مجموعة الازمات الدولية، أن عدد الضحايا منذ حزيران (يونيو) 2011 بلغ 775 قتيلاً، بينهم 262 من عناصر قوى الأمن، و426 من مقاتلي حزب العمال الكردستاني، و87 مدنيًا.

الأسد يستعمل الأكراد
ترى الحكومة التركية أن تصاعد اعمال العنف ليس مصادفة، بل يرتبط ببروز تركيا في صدارة الدول الداعية إلى تغيير النظام في سوريا، وبتصاعد حدة التوتر بين انقرة ودمشق وتحولها إلى عداء سافر. وتذهب بعض اوساط الحكومة التركية إلى أن النظام السوري يستخدم حزب العمال الكردستاني ضد تركيا. وقال وزير الخارجية التركي احمد داود اوغلو في آب (اغسطس) إن الأسد مد الحزب بالسلاح quot;واننا اتخذنا الاجراءات اللازمة ضد هذا التهديدquot;.

واكد مسؤول في وزارة الخارجية التركية لمجلة تايم أن لدى الحكومة أدلة على دعم سوريا لحزب العمال الكردستاني، لكنه رفض الخوض في التفاصيل. ويرى كثير من الاتراك انه إذا كان الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد وفر مأوى لحزب العمال الكردستاني في التسعينات، فإن لدى ابنه بشار سببًا قويًا لمساعدة الحزب، هو معاقبة أنقرة على قرارها ايواء الجيش السوري الحر، وتحمس تركيا للتدخل في سوريا.

ويُعتبر انسحاب النظام السوري من مناطق يسيطر عليها الأكراد جنوب الحدود التركية وتسليم الادارة إلى تنظيم كردي سوري يرتبط بحزب العمال الكردستاني في اطار هذه الخطة.

كما وُجّهت اتهامات مماثلة إلى ايران، التي تنظر باستياء إلى دعم تركيا لقوى المعارضة السورية، وإلى قرارها السابق استضافة قاعدة أطلسية في اطار مشروع الدرع الصاروخية. واتهم نائب وزير الخارجية التركي بولنت ارينج ايران مرارًا بالضلوع في عملية التفجير التي وقعت في بلدة غازي عنتاب وعمليات حزب العمال الكردستاني في بلدة سيمدينلي وحولها.

وبلغ النزاع بين انقرة وطهران ذروة جديدة قبل شهر، عندما عرض التلفزيون التركي فيلمًا يظهر فيه عملاء ايرانيون يناقشون استهداف مواقع عسكرية وأمنية تركية مع عناصر من حزب العمال الكردستاني.

سياسة ناجحة
يذهب محللون إلى أنه إذا كانت استراتيجية سوريا وايران هي لعب ورقة حزب العمال الكردستاني لحمل الاتراك على التفكير مرتين، قبل أن يقرروا التدخل، فإنها استراتيجية ناجحة على ما يبدو، حتى وإن كان نجاحها جزئيًا.

وعلى الرغم من خطابية انقرة المتشددة لفظيًا وما تخللها من قصف مدفعي ضد اهداف سورية بعد مقتل المدنيين الخمسة، فإن غالبية الاتراك تعارض التدخل العسكري في سوريا.

بالنسبة إلى كثير من الأكراد، بدلًا من القاء مسؤولية الموجة الجديدة من هجمات حزب العمال الكردستاني على عاتق النظام السوري، يتعين على القيادة التركية أن تراجع سياستها. فحكومة اردوغان لم تستجب لمطالب الأكراد الرئيسة، كالحكم الذاتي والتمثيل السياسي الأوسع والحقوق الثقافية واللغوية الكاملة، ونقل زعيم الحزب عبد الله اوجلان من الاعتقال إلى الاقامة الجبرية.