الأزقة الأليفة تحولت طرقًا محفوفة بالعداء، ومتاهتها الحميمة إلى شبكة يتربص الخطر بين ممراتها الضيقة. هذه هي حال سوق المدينة في حلب التي تتقاسمها قوات المعارضة المسلحة ونظام الرئيس بشار الأسد.


إعداد عبد الاله مجيد: أبو طاهر لم يبالِ وشق طريقه بين الأنقاض والواجهات المتفحمة مصممًا على أن يعرف ما آل اليه متجره لبيع الأقمشة بعد الحريق الأخير. جاء ابو طاهر بمفرده واضعًا مصيره بيد مسلحين مختبئين يبحثون عن هدف.قال ابو طاهر quot;إنه رزقناquot; ثم انفجر باكيًا. رجل في الستين ينحب وسط الخراب.

لكن ابو طاهر لم يجد ما يواسيه في محنته من مجموعة المقاتلين الذين تمركزوا أمام متجر لبيع الفستق الحلبي على بعد 50 مترًا من خط الجبهة وقناصي النظام، حيث رأى المقاتلون رفاقاً لهم يسقطون في المعارك مع قوات الأسد. وبدلاً من المواساة بادر أحد المقاتلين الى تذكير ابو طاهر بأن quot;بشرًا يموتون، وأنت تبكي على متجر!quot;، وقال له quot;عد الى بيتك يا عم!quot;.

اتضح أن متجر ابو طاهر لم يُصب بأضرار، ولكن مصالح قريبة منه لم تنجُ من الدمار. وافادت تقارير أن الحريق الذي نشب في الشهر الماضي في سوق المدينة دمّر مئات المتاجر في غمرة المعارك العنيفة بين المتحاربين. وما زال كثير من التجار لا يعرفون مصير مصالحهم التي تعتبر شريان الحياة في إعالة أسرهم.

وأصبحت مدينة حلب القديمة المدرجة على قائمة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو ساحة قتال، حيث مركز السوق المغطى مقفر ومكان خطر يصوّب فيه القناصة أسلحتهم على اهدافهم، وتسقط القذائف كل يوم تقريباً بعد ساعة الظهيرة. واختفى المتسوقون والسيّاح منذ زمن طويل.

وما زالت قوات النظام تسيطر على القلعة التي بُنيت في العصور الوسطى. ولكن جامع الأمويين التاريخي شهد معارك طاحنة تبادل فيه الطرفان السيطرة عليه أكثر من مرة في الاسبوع الماضي، قبل أن يعود تحت سيطرة قوات النظام ابتداء من يوم الثلاثاء.

واعرب خبراء في صيانة الآثار من سائر أنحاء العالم عن قلقهم على مصير سوق المدينة في حلب، الذي كان محطة تجارية على طريق الحرير. وبعد ما كانت ممرات السوق تنبض بالحياة تحت أقواسه الحجرية فانها اليوم مقفرة إلا من تراكض قطط سائبة ومقاتلين يمرون بين حين وآخر خائفين من تعرضهم للنيران من أي اتجاه.

وقال ناشطون في المعارضة إن قصف النظام هو الذي اشعل الحريق الأخير وأن الهياكل الخشبية والبضائع القابلة للاشتعال مثل الألبسة والستائر سرعان ما أصبحت وقوداً للنار. ولكن السبب ما زال مجهولاً حتى الآن.

وفي يوم الثلاثاء شاهد صحافيون عدة دخلوا أزقة السوق ما أصابها من أضرار جسيمة، ولكنهم لم يتمكنوا من الوصول الى البقعة التي نشب منها الحريق بسبب القناصة.

وبحماية مقاتلي المعارضة كان الزوار يُنصَحون بالمرور سريعًا عبر مفترقات الطرق الواقعة تحت رحمة قناصة النظام. وكان صوت اطلاق النار يتردد في الأزقة، حيث يواجه المقاتلون الذين لم يتلقوا تدريبًا نظامياً يُذكر صعوبة في تأمين متاهة الممرات والطرق الضيقة.

وفي داخل السوق التي يتقاسمها مقاتلو المعارضة وقوات النظام تملأ الهواء روائح لاذعة. وتحمل متاجر آثار ما ألحقه الحريق من أضرار فيها، فيما يبدو أن متاجر أخرى تعرضت للنهب. وأُحيلت بعض اقسام السوق ركامًا بسبب القصف والقتال. وتتناثر على أرض السوق بضائع التجار من المكانس الى الحبال.

وأغلقت مصانع كثيرة ابوابها، بينها العديد من معامل صابون حلب الشهيرة التي كانت منتجاتها الفاخرة تباع بأسعار عالية في باريس وبرلين.

لكن الأطواق الحجرية والمصابيح والبوابات الخشبية التي تفصل اقسام السوق بدت يوم الثلاثاء سليمة في المناطق التي ما زال من الممكن دخولها. فالسوق مكان واسع يغطي كيلومترات مربعة عدة، وحجم الدمار ما زال غير معروف على وجه الدقة.

اياً كان مصير السوق بأحجارها وأزقتها فإن القتال الذي شهدته كان كارثة على سكان المنطقة وتجارها. ويتحدث أصحاب متاجر عن أجدادهم الذين كانوا يبيعون بضاعتهم في هذه المتاجر نفسها. فالسوق كانت منذ زمن بعيد دعامة من دعائم الاقتصاد المحلي في حلب، عاصمة سوريا التجارية.

ونقلت صحيفة لوس انجيلوس تايمز عن صاحب متجر قوله quot;إن جد جدي بدأ هنا على ما أظنquot; مشيرة الى أن كثيرين من سكان المدينة القديمة ساخطون على قوات المعارضة التي يرون أنها نقلت الحرب الى منطقتهم. ويبدو أن غالبية مقاتلي المعارضة ريفيون وجودهم يؤجج الإحساس بوجود فجوة بين المقاتلين والسكان، على حد تعبير الصحيفة.

في حلب نفسها طوابير الانتظار على الخبز في كل مكان وأكوام النفايات تملأ الشوارع ومدافع النظام وطائراته تواصل قصفها بلا هوادة. وتحلق مروحياته ومقاتلاته بانتظام في سماء المدينة تطلق النار احيانًا، وتكتفي بترويع السكان احيانًا أخرى أو ترصد حركة المقاتلين على الأرض.

ولكن بعض المحال ما زالت تتعاطى تجارة رابحة ببيع الخضر وغيرها من البضائع في شوارع المدينة القديمة والأطفال يلعبون في الأزقة والسكان يحاولون أن يعيشوا حياة طبيعية. وقال متسوق كبير السن quot;إن الأسعار مرتفعة والقصف كل يومquot; قبل أن يسارع رجل آخر الى إسكاته.

من الواضح ان السكان يمتنعون عن إبداء تذمرهم امام مقاتلي المعارضة. ويبدو أن المتسوقين في الشوارع يتحاشون التقاء نظراتهم بنظرات الشبان المسلحين الذين يطوفون الطرق الحجرية. وقال تاجر قدم نفسه باسم حسين quot;نحن عالقون بين الجانبين من دون أن نكون مع أي منهماquot;

ويتذكر حسين أنه عندما نشب الحريق في 29 ايلول/سبتمبر استخدم وآخرون دلاء الماء من حمام قديم لإخماد النار. ولم يهرع أحد من رجال الاطفاء الى المكان.

وقال حسين لصحيفة لوس انجيلوس تايمز إن سلالم خشبية يعود تاريخها الى القرن الثاني عشر انهارت خلال محاولة المتطوعين السيطرة على الحريق. وتوقفت النار في النهاية على بعد ثلاثة ابواب من متجر عائلته لبيع الأقمشة.

وأكد حسين، الأكبر بين ثمانية اشقاء يعملون كلهم في التجارة، أن عائلته لا تعتزم مغادرة السوق. وقال حسين إن ابن المدينة القديمة لا يغادرها بسهولة لأنها أصبحت جزءاً منه. وكان حسين يتحدث تحت قوس حجري بعيدًا عن مسامع مقاتلين على مقربة.

وسرعان ما تجدد قصف ما بعد الظهيرة، ومعه بدأت ترتج ارض المدينة الجليلة بتاريخها العريق. وقال حسين quot;هذا تراث نعتز به والآن نخاف عليه من الضياعquot;.