بعد نحو ثلاثة عقود من الصراع الدموي مع حزب العمال الكردستاني قد تكون تركيا مقبلة على تدشين حقبة جديدة بإنهاء النزاع أخيرًا. وهذا ما من شأنه قلب موازين القوى في سوريا خصوصًا إذا ما ألحقت محادثاتها مع أوجلان بأخرى مع زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي صالح مسلم.


يوم الأربعاء الماضي دعا زعيم الحزب عبد الله أوجلان، الذي يقضي عقوبة بالسجن مدى الحياة في جزيرة أيمرالي منذ عام 1999، إلى وقف فوري لإطلاق النار ورحيل آلاف من مقاتليه عن الأراضي التركية.

جاءت الدعوة في أعقاب جولة من المحادثات، التي بدأت في تشرين الأول/أكتوبر 2012، بين جهاز الاستخبارات التركية وأوجلان لإقناع مقاتلي حزب العمال الكردستاني بإلقاء السلاح والانسحاب من الأراضي التركية. واستجابة لمقترح أوجلان، فضلًا عن القيام ببادرة حسن نية، أفرج حزب العمال الكردستاني عن ثمانية جنود وموظفين أتراك كان يحتجزهم منذ نحو عامين.

ويمكن أن تكون دعوة أوجلان الخطوة الأولى في إنهاء واحد من أقدم النزاعات المسلحة في العالم. وإذا تكللت الدعوة بالنجاح فإنها ستؤثر إيجابًا في عملية بناء الديمقراطية التركية، وربما تغيير مجرى الانتفاضة السورية أيضًا.

أزمة سوريا خلطت الأوراق
وكانت الانتفاضة السورية أعادت خلط الأوراق الاستراتيجية لسائر اللاعبين الإقليميين والدوليين، ولكنها طرحت تحديًا خاصًا على تركيا بسبب موقع سوريا الفريد في حسابات تركيا الإقليمية والداخلية.

فقبل اندلاع الانتفاضة السورية عام 2011 كانت سوريا ركنًا أساسيًا من أركان سياسة quot;صفر مشاكل مع الجيرانquot;، التي انتهجتها حكومة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان.

وبعدما كادت حرب تشتعل بين البلدين عام 1998 نظر وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو إلى سوريا على أنها محك لرؤيته في مد جسور مع سائر القوى الإقليمية، بما فيها قوى معادية سابقًا، من خلال التجارة والاستثمار والتبادل السياسي والثقافي. وفي الداخل تكفل التواصل مع النظام السوري بتأمين تعاونه مع تركيا في حربها ضد حزب العمال الكردستاني.

وإذ واجهت تركيا أزمة ذات تداعيات بالغة الأثر على حدودها الجنوبية، فإنها اتخذت في البداية موقفًا حذرًا من الانتفاضة السورية مكتفية بدعوة رئيس النظام بشار الأسد إلى تنفيذ إصلاحات سياسية. لكن الإحباط الذي أصاب تركيا نتيجة استمرار نزيف الدم أملى عليها الانضمام إلى معسكر القوى المناهضة لنظام الأسد في خريف 2011.

ملاذ آمن للمعارضين
وإلى جانب مساعي أنقرة لإيواء اللاجئين السوريين وتشديد الضغوط الدولية على النظام السوري فإنها قامت بدور نشيط في استضافة وتوفير مركز تنظيمي لوجستي للمعارضة السورية. وردًا على هذا الموقف قدم الأسد تنازلات لكرد سوريا ولحزب العمال الكردستاني بصفة خاصة. وسمح لصالح مسلم، زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي الموالي لحزب العمال الكردستاني، الذي ظل سنوات يعيش في جبل قنديل شمال العراق، بالعودة إلى سوريا، ولحزبه بحرية العمل في شمال سوريا.

يتنافس مع حزب الاتحاد الديمقراطي على النفوذ في المنطقة الكردية من شمال سوريا المجلس الوطني الكردي، الذي تنضوي تحت لوائه 16 منظمة كردية قريبة من حكومة إقليم كردستان برئاسة مسعود بارزاني في العراق. ويعتبر المجلس الوطني الكردي، الذي أُنشئ برعاية بارزاني حليفًا لحكومة إقليم كردستان من دون أن تكون له شرعية بين الكرد.

الكرد على هامش الصراع
في حين أن حزب الاتحاد الديمقراطي حزب قوي تنظيميًا وفاعل على الأرض، كما ترى مجلة فورين بولسي، مشيرة إلى أنه يتولى تقديم خدمات اجتماعية، فضلًا عن توفير الأمن في المناطق الكردية شمال شرق سوريا. لكن حزب الاتحاد الديمقراطي ظل عمليًا يقف موقف المتفرج من النزاع السوري نتيجة ارتيابه بدور تركيا في المعارضة السورية العربية عمومًا وخوفه من سيطرة الأسلاميين على سوريا بعد سقوط الأسد.

ويمكن أن يقوم الكرد بدور حاسم في الانتفاضة السورية، ولكنهم يمتنعون عن القتال ضد قوات النظام السوري بكامل قواهم أو تعطل دورهم الانقسامات الداخلية في صفوفهم. وسعى بارزاني، في محاولة لتوحيد كرد سوريا وترويج صورته قائدًا قوميًا للكرد، إلى التوسط بين حزب الاتحاد الديمقراطي والمجلس الوطني الكردي، للاتفاق على تقاسم السلطة في حزيران/يونيو 2012.

وتعهد الطرفان في إطار اتفاق أربيل بتشكيل جبهة كردية موحدة، يمكن أن تكون عاملًا داعمًا للجهود الرامية إلى إسقاط نظام الأسد. لكن فرص بناء وحدة دائمة بين حزب الاتحاد الديمقراطي والمجلس الوطني الكردي ليست مشجّعة. فالحزب لا يثق بالمجلس نظرًا إلى العلاقات المتينة التي تربط بارزاني بتركيا، ولكون المجلس الوطني الكردي تنظيمًا فضفاضًا يعاني انقسامات من دون أن تكون له قوة حقيقية تتيح له التأثير في النزاع.

لكن هذا كله يمكن أن يتغير إذا أسفرت دعوة أوجلان إلى وقف إطلاق النار والانسحاب من تركيا عن نزع سلاح حزب العمال الكردستاني وإيجاد حل ديمقراطي للقضية الكردية في تركيا. ويمكن أن تتحول شكوك حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي ومخاوفه في سوريا إلى علاقة عمل مع قوى المعارضة السورية غير الكردية إذا تعاطت إيجابيًا مع المطالب الكردية بعيدًا عن ضغوط تركيا.

كما يمكن أن تؤدي إلى بناء الثقة بين المجلس الوطني الكردي وحزب الاتحاد الديمقراطي وقيام جبهة كردية موحدة في سوريا تتمتع بشرعية دولية وموقع قوي ولديها قوة مقاتلة على الأرض، بحسب مجلة فورين بولسي.

توحيد المعارضة تحد تركي
في النهاية فإن بناء معارضة سورية موحدة تضم قوى كردية تقاتل مع فصائل عربية، يمكن أن يغير ميزان القوى ضد الأسد. ويمكن أن تكون تركيا عامل توحيد بين العرب والكرد إذا توصلت أخيرًا إلى حل جذري للقضية الكردية. وحينذاك فقط سيكون بمقدور تركيا أن تستعيد صورتها التي عملت بمشقة على بنائها كقوة إقليمية في الشارع العربي، وأن تنتهج سياسة واثقة تجاه الأزمة السورية من دون الاستعانة برئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني كمقاول ثانوي، على حد تعبير مجلة فورين بولسي.

وكانت تركيا رفضت الاجتماع مع ممثلي حزب الاتحاد الديمقراطي بسبب ارتباطاته بحزب العمال الكردستاني. لكن بعدما بدأت تتحادث مع أوجلان على المكشوف، قد يكون بمقدور وزير الخارجية أحمد داود أوغلو أن يتحادث مع زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي صالح مسلم. ومن شأن هذا أن يقلب موازين القوى في سوريا.