مهما حاولت الكتابة أن تكون محايدة فلابد على القراءة ألا تحاول

يسكن داخل كل كاتب وهم خاص عن قارئ نموذجي. قارئ الأحلام. قادر على إدراك كل ما قاله الكاتب، وما لم يقله بعد. بل والأدهى ما يعجز عن قوله. يتنبأ بأفكاره قبل لحظة الميلاد، ويبشر بأهميتها في العالم. ويهدي البشر لكاتبه العظيم. ينتظر كتاباته كنبي ينتظر وحي الإله، بجلال يليق بقدسية الرسالة، التي تم اصطفاؤه لأجلها. قارئ لا ينازعه منازع في الحضرة المقدسة لكل كاتب حين يقرر أن يعرج به إلى السماوات العلا. ليحيا في دهشة إبداعه الدائم، لا يفيق

غالبا ما نتساءل، عندما ننشر مقالا في إيلاف، من هو قارئي الافتراضي - الإيلافي هذا، إلى أي جيل، تيار، ينتمي، ماذا ينتظر مني حتى أكون في حسن ظنه، ما هو العنوان المناسب الذي يجذبه لفتح مقالي، أي موضوع قريب من قلبه وعقله، هل أغلبه أنثوي أم ذكري، وأية طريقة مثلى للتأثير فيه/ فيها، حتى أشعر أني ساهمت في التغيير الفكري والاجتماعي المنشود...
نريد من هذا السؤال أن يكون موضوع مقال بمناسبة التصميم الجديد

منها إلا بموت المؤلف. حالة خلابة من التوحد بالذات ينتجها العقل النرجسي للإبداع. فالكتابة فعل يوهم صاحبة دائماً بالتميز، يجعله يظن أنه أفضل. لقدرته الدائمة على صياغة الأفكار في هذا الإطار اللغوي الذي تشاهدون. وهم التفوق يخلق له كائناً وهمياً هو الوحيد ممنوح جدارة قراءته بلا منافس، غالباً لا يكون سوى ذاته. فمهما وجه خطابه للأخريين فهو يقصد واحداً فقط. فكثير ما نسمع من أي كاتب تلك العبارة الشهيرة: إنهم لم يفهموا ما أقصد، فالوحيد الذي يحيا أفكاره بدلاً عنه هو ذلك القارئ الوهمي الذي يسكن مخيلته.
غالباً ما تتحطم تلك النرجسية لدى صدمة الكتاب في قارئيهم الحقيقيين، فهناك من يرفعه لعنان السماء ليلامس سحاب المجد. وهناك من يضعه أسفل نعال الخيانة أو العمالة أو الكفر. فالواقع يفرض شروطه في النهاية. وعلى من يصنع الفكرة أن يتحمل آراء مستهلكيها، حتى يستطيع أن يتعايش وسط أذواق الجميع. لابد أن ينقل لهم واقعهم مصفى من شوائب الخيال، محملاً بطموح التغيير. ذلك الطموح الذي تختلط فيه قمة المثالية بعمق المعاناة. فالقارئ هو المستهدف الأول في النهاية، الذي ننتظره بشغف حقيقي ليصدمنا في كل ما نكتب.
ستظل إشكاليات الكتابة والتلقي دائماً مرهونة بآليات الزمن المنتج لكلا السياقين، أزمات الواقع وأحلامه المكبوتة يشكلان كل أنواع التفاعل الثقافي والسياسي والمجتمعي بشكل عام. فكل ما يتبقى من الكاتب مجرد نص لغوي حامل لأفكار منتهي ومغلق على ذاته، وتظل القراءة هي الباقية، بشتى توجهاتها و ميولها النقدية أو الانطباعية. أي أن المؤلف يموت بالنسبة لما أنتجه لحظة فراغه من الكتابة، ليبدأ النص رحلته الجديدة بعيداً عنه تماماً. في عقول أخرى ليتفاعل ويؤثر ويتأثر منفرداً، فيعكس عالم الواقع بالفعل من خلال تفاعلات المتلقين وردود أفعالهم.
فبتحليل ردود الأفعال المنتجة على الكتابات سنتمكن من رصد ملامح واقعنا العربي بكل توجهاته السياسية والدينية والفكرية، ومن خلال تجربتي الكتابية مع إيلاف وغيرها من الصحف سواء الإلكترونية أو المطبوعة، لاحظت أننا أمام حالة من غياب الرغبة في التغيير أي حالة ركود فكري تعكس الثبات الاجتماعي والسياسي الذي نحياه. فكل جماعة تركن إلى حزمة من التابوهات الفكرية، تعتقد أنها الحقيقة المطلقة ولا تحاول تغييرها أو حتى وضعها على حافة النقاش، خوفاً من تأتي النتيجة بضرورة التغير. تنعكس تلك الفكرة بوضوح في تعليقات القراء على مقالاتي وغيري من الكتاب أو الموضوعات، بحيث يسهل تقسيمهم، فقسم يعارض على طول الخط، مهما حاولت إرضاءه في كتابة أخرى، فهو قد اتخذ هذا الموقف الذي لن يتغير، وارتكن لهذا الدور الثابت في الممارسة الثقافية. والأغلب أن هذا القسم لا يرفض المكتوب سواء كان منطقياً أو لا يمت للمنطق بصلة، إنما يرفض رؤية وجود من يخالفه في الرأي بشكل عام، فمن المؤكد أن هذا أسلوب تفكيره الذي اعتاد عليه في تعطيه مع العالم. وقسم أخر يتفق مع النص دائماً، حتى لو كان يتناقض في ذاته وفي مضمونه. ولكنه قرر أن يأخذ دور المؤيد من مبدأ انصر أخالك ظالماً أو مظلوماً، لمجرد أن التوجه العام لما قرأه أتى على هواه في فكرة أو اعتقاد مذهبي أو سياسي، فلم يطرح القضية للنقاش ولكنه قرر أن يغلب الهوى. أما القسم الأخير فيعبر بشكل واضح عن فكرة موت المؤلف التي ذكرتها، بحيث يتورط في مناقشة القسمين السابقين، دفاعاً وهجوماً، ولا أستطيع أن أتبين موقفه بشكل كامل. ولكنه يشكل الحافز لاحتدام الصراع بين الأطراف المتناقضة، ليتركوا النص جانباً ويدخلوا في معركة كلامية، يتحول فيها النص الأصلي إلى هامش فقط، ويصبحوا هم المتن والأساس. في انعكاس واضح لحالة الفردية التي تسيطر على تفكيرنا وعدم قبول الأخر، أو حتى مجرد نقاشه.
جيد أن تثير كتابتنا شيئا من الجدل، فهذا دليل أننا تمكنا ككتاب من عرض فكرة جديدة استدعت نقاش قد ينتج عنه تغير أو إرهاصات تغير في نطاق الفكرة المطروحة في المقال بين مختلف توجهات القراء. ولكن هذا في حالة الوصول لنتيجة نهائية بين القراء تشير لذلك على الأقل. فما يحدث في النهائية أن نشوة الصراع تخفت ثم تختفي، لتنتقل إلى ضحية أخرى لمقال أو موضوع أخر، دون الوصول لنقطة تلاقي واحدة بين الأطراف. مما يؤدي إلى حالة من الإحباط أحياناً مهما كثرت التعليقات أو قلت.
فما يشغل بالي وبال أي كاتب أخر أثناء ممارسة للكتابة، أن نقدم فكرة جديدة تستحق القراءة و تساهم ولو بشكل ضئيل في إضافة أفكار تستحق النقاش، خاصة في مواقع ذات الصيت والتي تشكل منافسة حقيقية في الساحة الثقافية والإعلامية مثل إيلاف، خاصة مع تنوع القراء ونوعيتهم الخاصة التي تجسد تنوع البيئة العربية على اختلاف أشكالها. أي تقديم نوعية من الموضوعات تتجاوز الشأن المحلي لتخاطب الهم العام، في أسلوب بسيط يتناسب مع كل المستويات الثقافية، خاصة جمهور المواقع الإلكترونية، الذي يتعاطى معها بوصفها وسيلة سهلة لتتدفق المعلومات والتحليلات السريعة والمباشرة في النهاية. مما يشكل مغامرة غير مأمونة العواقب في تجربة الكتابة. فأغلب الكتاب المشاركين في إيلاف، من الباحثين أو الأكاديميين الذين اعتادوا الكتابة المطولة، أو المعقدة أحياناً في دوائر النخب الثقافية. فلم يتحملوا عبئ التبسيط كثيراً، كما أن أفكار النخب في الأغلب غير ملفتة أو جذابة للقارئ العادي. وأصبح الدور المنوط بنا مضاعف، فكيف يمكن أن نحول تلك الأفكار الكبرى التي تشغلنا في قاعات الدرس أو الحلقات التخصصية إلى عالم جذاب وممتع، وربطها بالواقع وتفاعلاته وبهموم الإنسان العربي وتساؤلاته بشكل مباشر. فما حاولنا فعله باختصار هو التخلي عن قارئنا النموذجي، لصالح القارئ الحقيقي، الذي يحتاجنا كما نحتاج إليه، أي التخلي عن المثال لصالح الواقع.
وقد يتورط أحياناً بعض الكتاب في محاولة إرضاء أو استرضاء المتلقين، فيقع في عيب التضليل أو الإضلال بتغييب بعض الحقائق أو وجهات النظر التي قد يراها صادمة لقرائه، فيمارس هو أيضاً دوره في التأكيد على التقسيمات الفردية التي يمارسها القراء على النص، بل قد بغذي فيهم أحاسيس الطائفية بوعي أو دون وعي، فكما للقارئ أفكاره التي يبدأ قراءته للنص وهو محمل بها منذ البداية، فللكاتب أيضاَ تناقضاته التي يحياها من الأساس. وبالتالي لابد وأن يتم قعل القراءة بعيداً عن أهواء الكتاب أو ميولهم أو حتى مصالحهم الخاصة، وعلى أي قارئ أن يتخيل تلك النصوص بلا أسماء لكتابها، ويتعامل معها بعقل ناقد. ففي النهاية القراءة هي الضامن الوحيد لاستمرار المعرفة، فنحن في مجتمعات تفتقد لكثير من التدريب الواعي في التعامل مع المعلومات أو الأفكار، وتحتاج لتجارب حقيقية وقوية من فكر وجدل وصراع، حتى تصل لمعرفة كاملة بذاتها وبالأخر.

أكاديمي مصري

[email protected]