لم يكن من المتوقع ان تعلن ايران نواياها وخبايا سياستها تجاه العراق بهذه السرعة، وبهذه الطريقة السمجة والمكشوفة واللاعقلانية، سيما وأن quot;قادسية صدامquot; المجنونة لم تجف بعد، ومآسيها وشرورها ما زالت تعيث فساداً في مختلف جوانب حياة الشعبين العراقي والايراني.

ان احتلال ايران لحقل الفكة اعتداء صارخ على سيادة العراق وحقوقه الاقتصادية، ولا يمكن السكوت عنه او التهاون فيه بأي شكل من الأشكال. وفي حالة عدم تراجعها وإصرارها على المضي في سلوكها اللاعقلاني هذا، فانها تكون قد برهنت على أهمية المعاهدة العراقية ndash; الامريكية، التي أرعبتها، وأهمية وجود الجيش الامريكي على أرض العراق والأراضي العربية الأخرى، كما برّرت الموقف الاقليمي والدولي المتطير والرافض لمشروعها النووي.

وتكون ايضاً قد اكدت صحة ظنون صدام، التي برّرت تلك الحرب الهوجاء والمشؤومة، والتي ما زال العراق يدفع ثمنها حتى اليوم بطرق مختلفة، ومنها التعويضات التي استنزفت الاقتصاد العراقي، وكذلك ترسيم حدوده المائية المجحف في شط العرب، وفق اتفاقية 1975 بين صدام وشاه ايران، واعتبار خط التالوك، المتحرك لغير مصلحة العراق، هو الحدود المائية العراقية ndash; الايرانية (قدّر ما يخسره العراق سنوياً بحوالي 100 دونم من أراضيه لمصلحة ايران بسبب ذلك).

وحقل الفكة أرض عراقية قبل معاهدة 1975 بين صدام وشاه ايران، وبعدها، وقبل الحرب العراقية ndash; الايرانية، وبعدها، وقبل الغزو الامريكي للعراق عام 2003، وبعده. ولا تزال خرائط وملاحق الاتفاق العراقي ndash; الايراني عام 1975 موجودة لدى الجانب العراقي بشهادة دولية.

وجاء احتلال حقل الفكة ليتوّج جملة تصرفات، عزّزت الشكوك العراقية في سلامة نوايا ايران تجاه العراق. ومن هذه التصرفات، على سبيل المثال، اقدامها على تحويل أهم الروافد التي تصب في نهر دجلة، والهامة للزراعة العراقية، واعادتها الى أراضيها، مثل نهر الفاروق والوند وكليمان والكنكير. وكذلك تدخلها الكبير والسلبي في السياسة العراقية، ومساهمتها بشكل فعّال في تأجيج الصراع الطائفي، وكذلك الحديث المتواتر عن المخدرات الايرانية، التي تسترب عبر حدودها الى العراق، والتي من شأنها تدمير الأطفال والمراهقين (سيما وإن عدد اليتامى في العراق يقدر بحوالي 3 ndash; 5 مليون يتيم). ومعلوم مدى تأثير ذلك في تخريب البنية الاجتماعية العراقية.

هل تريد ايران تفريغ أزمتها الداخلية المتفاقمة حول شرعية السلطة او ازمتها الدولية، التي ما زالت تتصاعد بشأن ملفها النووي في العراق؟ ام انها وسيلة ضغط على السيد المالكي لحمله على الدخول في الائتلاف الوطني او الاندماج معه؟ سواء كان هذا او ذاك فانها تكون قد ارتكبت خطأ فادحاً. إذ انها تكون قد اضعفت نفوذها السياسي في العراق، وأضعفت حلفائها في الساحة السياسية العراقية. ولعل رد فعل الشارع العفوي، وغير العفوي، هو أحد نتائج سياستها التي توّجتها باحتلالها حقل الفكة.

وبإعتدائها الصارخ هذا على السيادة العراقية، تكون قد فرشت السجاد الأحمر للنفوذ الإقليمي الآخر، لكي يتعزّز ويزدهر، وقد ينفرد في الساحة السياسية العراقية. كما انها تكون قد عزّزت جهود النفخ في بعث صدام ليتسلّل الى الساحة السياسية العراقية ثانية، بما لديه من قواعد مدنية وعسكرية، ليوازن الخطر القادم من الجار الشرقي.

كان للحكومة العراقية، ولا يزال لديها، أدوات ضغط عديدة لرسم علاقة متوازنة مع ايران، بدلاً من ترك الأمور سائبة طيلة الفترة الماضية. ومن هذه الوسائل:
-توظيف العلاقة التجارية ndash; الاقتصادية معها. فالعراق ndash; كما هو معلوم ndash; صار سوقاً تجارية مفتوحة للمنتجات الايرانية الصناعية والزراعية، من دون ضوابط او مقابل، بما في ذلك منتجات الألبان، وحتى الخبز.
-السياحة الدينية وضرورة توظيفها.
-طرد منظمة quot;مجاهدي خلقquot; بثمن متفق عليه مسبقاً.
-الاستفادة من عقات بعض دول الجوار، وعلى رأسها سوريا، رغم تكدر العلاقة معها مؤخراً.
-الاستفاد من علاقات الصداقة السياسية، التي تربط بعض المجتمع السياسي العراقي بايران.
-الجامعة العربية ودولها النافذة دولياً واقليمياً، وكذلك منظمة المؤتمر الاسلامي.
-منظمات الأمم المتحدة، وعلى رأسها مجلس الأمن.
-وأخيراً، التلويح بالاتفاقية العراقية ndash; الامريكية، التي تلزم أمريكا بحماية حدود العراق بناء على طلبه.


على الحكومة العراقية ان تتحرك سريعاً لوقف هذه البادرة الخطيرة. والعراق لن يكون لقمة سائغة، وميداناً أبدياً للصراع الاقليمي، وغير الاقليمي، على حساب مصالحه، بل سيتعافى ويخرج من القمقم، وينهض من كبوته، ويرسم الطريق لمستقبله بنفسه بعزم وإصرار، مهما أوغل أعدائه في كسر إرادته وتطويعه لمصالحهم المريضة. والتاريخ القريب والبعيد خير شاهد على ذلك.