يتعجب المهمومون بالشأن المصري من الصورة التي وضعت السياسة الرسمية فيها مصر في العقود الأخيرة. فمن كان يتصور أن ترفض مصر نجدة الاشقاء الفلسطينيين في غزة، وتصبح طرفا من أطراف حصار الشعب الفلسطيني فتمنع قوافل الإغاثة، وترفض نجدتهم في حرب غزة؟ بل وتعتدي على بعض المشاركين في قافلة غالاوي الأخيرة؟
ومن كان يتصور أن مصر التي خاضت حروبا شرسة ضد العدو الصهيوني راح ضحيتها 100 ألف شهيد وجريح تبقى مكتوفة الأيدي، مكبلة، لا حول لها ولا قوة إزاء الممارسات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، وهي ترى المذابح، والحصار، وسياسة التهويد تجري على قدم وساق بالقدس والمسجد الأقصى؟
من كان يتصور أن تتحول مصر إلى دولة quot;عادية quot; في منطقة الشرق الأوسط، وإلى دولة ndash; ربما - خارج الحسابات السياسية الإقليمية والدولية؟
إنها صورة لا ترضي أي وطني مصري أولا، فضلا عن عدم رضى الأشقاء العرب الذين ينظرون إلى مصر نظرة مختلفة مثالية رومانتيكية، تحمل في جوهرها مفاهيم الأخوة، والبطل المخلص الذي يهرول للنجدة، وإسعاف أخيه، وحل مشكلاته. إنها النظرة إلى الشقيقة الكبرى، قلب العالم العربي، وكنانة الله في أرضه.
هكذا هي الصورة المخايلة لمصر لدى العرب، مهما حدث من مشكلات طارئة أو عابرة، ومهما تحرشت بها وسائل إعلام عربية أو غير عربية.
لقد حملت مصر قضايا العرب عقودا طويلة، ومع قيام ثورة يوليو 1952 تجشمت مصر عناء القضايا العربية، حيث حدد عبدالناصر الهوية المصرية عربيا، بعد أن كانت تتواتر في كتابات لطفي السيد، ومحمد حسين هيكل، والحكيم، ونجيب محفوظ، وطه حسين بأن هذه الهوية تنتمي لشعوب البحر المتوسط، الأوربية بالطبع. وكان طه حسين يحدد بشكل واضح في كتابه:quot; مستقبل الثقافة في مصرquot; نمط هذه الهوية وتقاسيمها.
بيد أن الاتجاه العروبي القومي الذي جسده عبدالناصر، ومساندته حركات التحرر العربية والعالمثالثية، أعطى مصر أبعادا دولية ضخمت من صورتها، خاصة بعد إنشاء منظمات دولية متعددة مثل: عدم الانحياز، وتضامن الشعوب الأفروآسيوية، والمؤتمر الإسلامي، وتفعيل دور الجامعة العربية، وإعلان الوحدة المصرية السورية، واشتداد الصراع العربي الإسرائيلي.
وعلى الرغم من الانكسار الذي تعرضت له الصورة المصرية عالميا بعد هزيمة 1967، إلا أن وميض هذه الصورة وبريقها عاد لتألقه عقب حرب أكتوبر 1973، لكن ما تلاها من مشاريع تسوية سلمية، ومن تحويل النصر على إسرائيل إلى مشروع استثماري، وفقدان الجيش المصري لدوره العسكري، ليتحول إلى دور آخر تنموي، وسكاني، ومدني، وعقد اتفاقيات كامب ديفيد، ومعاهدة السلام المصرية ndash; الإسرائيلية 1979، والانزواء المصري إلى الداخل حجم قليلا من صورة الدولة المصرية عربيا ودوليا، وأصاب الشعب المصري بصدمة حقيقية ما يزال يعاني منها إلى اليوم، فلم يكن يتصور أحد في يوم من الأيام أن يرفرف العلم الصهيوني على شاطىء النيل القاهري، وهذا الأمر كان يعد من ضروب الخرافة والخيال. فالشعب الذي عاني خلال حروب أربعة أكلت الأخضر واليابس، وأثرت على خطط التنمية، وقدم للقضايا العربية مئات الآلاف من الشهداء والجرحى من مختلف محافظات مصر، فوجىء بهذا التحول السياسي الذي بات يستقبل فيه الإسرائيليين ويودع الإسرائيليين وكأن تاريخ الصراع الدامي كان نوعا من العبث المسرحي، وكأن الأحلام القومية، والخطب السياسية، والمانشيتات الإعلامية، والأغاني الوطنية بحناجر المطربين، وبأقلام الشعراء، وأنامل الموسيقيين كانت نوعا من الزفة الكبرى. هكذا كانت الصدمة التي أعقبها استرخاء عسكري، وتحويل كبار القادة العسكريين إلى عضويات مجالس إدارة شركات استثمارية، أو إلى محافظين، وتقاعد عدد كبير ممن أسهموا في نصر أكتوبر 1973.
هذا الاسترخاء العسكري أعقبته موجة quot; انفتاح اقتصاديquot; جاء في معظمه بطرق غير مشروعة، ومثل المؤشرات الأولى للفساد الاقتصادي الذي تعاني منه مصر إلى اليوم.
ومع بدايات حكم الرئيس مبارك، شعر المصريون بتكرار الحدث الذي يشير إلى خواء الخزينة العامة للدولة مع بداية كل حكم جديد، وبدأت الدولة في البحث عن موارد اقتصادية، وتوقيع اتفاقيات دولية، وبدأ المصريون يهتمون بلغة الأرقام التي شملت كل شيء، تعززها دعاية إعلامية استثمارية، ويعززها نزوع نحو الخصخصة، وكف يد الدولة عن المشروعات الاقتصادية، حيث انتشرت في الثمانينيات من القرن العشرين شركات توظيف الأموال، وظهرت مفاهيم الاقتصاد الإسلامي، والبنوك الإسلامية، وهرول الناس إلى هذه الشركات، وسحبت أرصدة كثيرة من البنوك التابعة للدولة.
انهمك المصريون في متابعة الشأن الداخلي، ورويدا رويدا ارتفع صوت التمصير، وإعلاء الهوية المصرية داخليا، ولم يهتم المصريون كثيرا بعودة العرب إلى مصر أو عودة مصر إلى العرب، فتحت وطأة غلاء الأسعار، والبطالة، وقلة الموارد بدأ الشعب المصري ينهمك في التفكير اقتصاديا، والبحث عن موارد بكافة الطرق، شرعية وغير شرعية، وبدأت مصر تعرف ظاهرة جديدة عليها في العقد الأخير من القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين، تتمثل في انتشار ظاهرة quot; المليونيراتquot; أو ما سمي إعلاميا بquot; القطط السمانquot; وسينمائيا بquot; الكبارquot; أو quot; أهل القمةquot; وشعبيا بquot; الحيتانquot;.. فهؤلاء الحيتان قطفوا ndash; داخليا- ثمرة المشروع الاستثماري لحرب 1973 وثمرة معاهدة السلام، والمعونة الأمريكية، خاصة مع اتجاه الدولة المصرية لبناء البنية التحتية وإقامة مشاريع تنموية متعددة في مختلف المجالات، ومن بينها إقامة مدن سكنية جديدة كان من المؤمل أن تتوجه إلى عموم الشعب المصري، لكن quot; الحيتانquot; اتجهوا بها وجهة أخرى، حيث تم بناء مساكن شعبية رديئة، في مقابل بناء فلل وشقق باهظة الثمن، وملاعب جولف، وقرى سياحية فاخرة، وكمباوندات، مما لا يمثل عموم الشعب المصري، ولا يفكر فيه بالأساس.
مع ذلك حققت الدولة طفرة تنموية ملحوظة، في مشاريع الكهرباء والطاقة، والتصنيع، وبناء المساكن، والطرق والمواصلات، والإنتاج البترولي، وزادت على فترات عوائد قناة السويس، والجمارك، والضرائب، والسياحة.
وعلى الرغم من وجود أعداد كبيرة من العاطلين عن العمل، وعلى الرغم من وجود أحياء عشوائية، ووجود كثافة من الأحياء الفقيرة، إلا أن مصر شهدت جملة من التحولات الاقتصادية والاجتماعية، تتمثل في إعادة بناء البنية الأساسية من كهرباء ومياه وصرف صحي ومستشفيات ومدارس وخطوط مواصلات، وزيادة دخل بعض الطبقات، وبناء مدن جديدة، وبناء قرى سياحية وفنادق وفلل وقصور، إلا أن ذلك كله جاء في خدمة الطبقة العليا، وبعض الشرائح الاجتماعية التي تعمل بالخارج، ولم يفد عموم المجتمع المصري الذي لا يزال معظمه محروما من المستويات الأولية للحياة الكريمة، وكلما اقتربت بعض فئاته لتحقيق أحلامها البسيطة، جاءته موجة غلاء، أو ارتفاع أسعار، أو زيادة في تكلفة المعيشة، أو فرض ضرائب جديدة.
إن مصر مشغولة داخليا بهمومها، حيث تجاوز عدد السكان ال (80) مليون، ولم يعد الوقت وقت معارك أو حروب طاحنة أو أزمات، وهو الأمر الذي يفسر نأي السياسة الرسمية المصرية عما قد يحدث لها مشاكل كبرى مع إسرئيل أو الولايات المتحدة، ونأيها عن إثارة القضايا الإقليمية، وعن اتخاذ قرارات حاسمة لعدد من القضايا العربية والفلسطينية والإسلامية، وخفوت الدور السياسي المصري كنوع من الالتفات إلى الذات، وإلى الداخل.
ومع أن قراءة التاريخ المعاصر تدلنا على أن القضايا والإشكاليات الداخلية اقتصادية كانت أم اجتماعية لا تتسبب بالضرورة في خفوت الصورة الخارجية لدولة ما، فهي قضايا لا تنتهي حتى لدى الدول الكبرى، إلا أن البقاء في الظل ورفع شعار الquot; أنا ماليةquot; الذي يسم السياسة الخارجية المصرية سحب البساط الإعلامي على الأقل من دور شهد له التاريخ بتحقيقه إنجازات مدوية إقليمية ودولية، وهو دور كامن تحت الرماد في انتظار تغيير قادم بلا ريب، في دولة ما تزال تمسك بجواهرها المطمورة قليلا، دولة ثرية بعلمائها وبطاقتها البشرية الضخمة المتنوعة، بل ودولة ثرية بإمكانياتها كما يصور الشعور الجمعي لدى كل مواطن مصري.
هذا الشعور الناجم من التصور البسيط ndash; المفارق أحيانا- لدى مختلف طوائف الشعب بأن quot; مصر أغنى دولة في العالم، لأنها تنهب على مر التاريخ وما يزال فيها الخيرquot;!!