حياته الاكاديمية ورئاسته جامعة بغداد
1/ بدايات الحياة الاكاديمية

الجزء الأول

تسنح الفرصة للرجل مجدداً في التمتع ببعثة دراسية لنيل شهادة الدكتوراه في جامعات الولايات المتحدة عام 1944، فغادر إلى هناك، وحصل عبد الجبار عبد الله على شهادة الدكتوراه في العلوم الطبيعية (الفيزياء) من معهد مساتشوست للتكنولوجيا MIT في الولايات المتحدة الأميركية، وهو من أهم المعاهد العلمية في العالم.. وتمكن بفضل موهبته العلمية العالية من انجاز مهمته في وقت قصير ورجع عائدا إلى وطنه عام1946 حاملا شهادة الدكتوراه، ليمارس تخصصه في دار المعلمين العالية التي كانت تعد في تلك المرحلة من أهم المعاهد العلمية في الشرق الأوسط كله. وشغل عبد الجبار عضوية مجلس جامعة بغداد منذ بداية تأسيسها، وكان وجوده في المجلس فاعلاً ونشيطاً على عهد مؤسسها ورئيسها العالم العراقي الشهير الدكتور متي عقراوي وكان أول رئيس للجامعة، فكان أن اشتغل بمعيته وكيلا له رفقة الدكتور عبد العزيز الدوري. وعند حدوث ثورة 14 تموز / يوليو 1958 أحيل الأستاذ متي عقراوي على التقاعد، فتحول وكيله عبد الجبار إلى منصب الرئاسة من الناحية الفعلية. وأمين عام لها حتى شهر شباط / فبراير 1959، إذ صدر مرسوم جمهوري بإناطة مهمة الرئاسة إليه، بعد تنافس شديد مع الدكتور عبد العزيز الدوري، وهو شخصية علمية لامعة أخرى. ويقال ان متى عقراوي ارسل تبريكاته لزميله عبد الجبار عبد الله من خارج العراق الذي تركه بعد 14 تموز / يوليو 1958، قائلا في رسالته: quot; أني اشعر باطمئنان شديد، فالجامعة اصبحت بايدي آمنة quot; (نص الرسالة بحوزة الدكتور ثابت عبد الله).

2/ مشكلة رئاسة جامعة بغداد وحسمها:
نعم، لقد تسلم عبد الجبار عبد الله مسؤولية الجامعة، في أوضاع سياسية محتدمة بين تيارين سياسيين عراقيين متعارضين تماما، تيار يمثله الزعيم الركن عبد الكريم قاسم وحلفائه من الشيوعيين والديمقراطيين والتقدميين، وتيار يمثله العقيد الركن عبد السلام عارف وحلفائه من القوميين والناصريين والبعثيين، فانعكس ذلك على شخصيتين علميتين اثنتين، وجدت كل واحدة ضالتها عند هذا التيار أو ذاك باحتدام الجدال والنقاش في الأوساط السياسية والعلمية حول المرشح لرئاسة الجامعة آنذاك. ومن الطرائف التي رواها المؤرخ خليل إبراهيم حسين في واحد من كتبه أن الفريق الركن نجيب الربيعي رئيس مجلس السيادة بعد تموز / يوليو 1958، اعترض على ترشيح الدكتور عبد الجبار عبد الله رئيسا لجامعة بغداد كونه ينتمي إلى الصبة المندائيين، فردّ عليه احمد محمد يحي وزير الداخلية قائلا: quot; نريد إماما للجامعة، لا إماما لجامع يؤم المصلين quot; !
ويكتب لي الأستاذ الخميسي حول هذا quot; الموضوع quot; بالذات قائلا: quot; أريد أن أوضح لكم سيدي نقطه أراها مهمة حول تسمية هذا العالم كرئيس جامعة بغداد بعد إحالة الدكتور متي عقراوي على التقاعد بعد ثورة 14 تموز وكنت حينذاك عن قرب وعلى اطلاع حول الكيفية ومن كان المنافس والمعترض.. وكما كتبه أيضا الدكتور نجيب محيي الدين رئيس نقابة المعلمين آنذاك القصة كالآتي:

3/ قصة الرئاسة
يقول الخميسي: quot; طلبت الحكومة من مجلس الجامعة الذي كان يضم عمداء الكليات وآخرين وفق نظام الجامعة المعمول به آنذاك لترشيح ثلاثة من أساتذة هذه الجامعة، فترشح كل من الدكتور عبد الجبار عبد الله، والدكتور عبد العزيز الدوري ودكتور آخر (لم نتوصل إلى ذكر اسمه) وقام مجلس الجامعة بإرسال ملفاتهم إلى مجلس الوزراء، وبعد دراسة مستفيضة لملفات المرشحين من قبل مجلس الوزراء طرحت الأسماء لتصويت المجلس. وكان من الحاضرين الفريق الركن نجيب الربيعي رئيس مجلس السيادة لذلك اليوم رغم انه غير معني بها ، ولم يحضر إلا نادرا ولن يكن من مهماته التصويت أو الاعتراض لأن

عبد العزيز الدوري مع محمد مكية

الأمر يخص رئاسة الوزراء، وبعد الفرز تبين أن أكثرية الأصوات حازها عبد الجبار ويليه الدكتور عبد العزيز الدوري.. أما الثالث فلم ينل أي صوت وعلى هذا الأساس، أعلنت النتيجة كل هذا جرى والزعيم عبد الكريم قاسم كان صامتا ولم يتكلم أبدا إلا الربيعي أبدى اعتراضه بحجة أن المنتخب من أبناء الصابئة المندائيين، ولا يمكن أن يتولى الجامعة من غير المسلمين فرد عليه وزير الداخلية احمد محمد يحيى قائلا (سيدي إحنا نريد رئيس جامعه مو إمام جامع) فسكت الجميع وهكذا تم انتخاب عبد الجبار عبد الله بطريقه ديمقراطيه وليس عن طريق فرض من الزعيم عبد الكريم قاسم أو غيره لمؤهلاته الكبيرة دون منازع quot; (انتهى النص الذي كتبه لي الأخ عربي الخميسي).
أما الصديق الدكتور رشيد الخيون، فقد أورد في مقال له عن عبد العزيز الدوري النص التالي: quot; قال الدكتور صالح احمد العلي موضحاً حيثيات تولي عالم الفيزياء عبد الجبار عبد الله (ت 1969) بدلاً عن عبد العزيز الدوري لرئاسة جامعة بغداد، مع أن الأخير كانت له خبرة تأسيس كلية الآداب وإدارتها لسنوات: quot;كان القانون يقضي أن يرشح مجلس الجامعة أسماء ثلاثة تختار الجهة العليا أحدهم لرئاسة الجامعة، وقد حاز الدكتور الدوري أكثر الأصوات، وتلاه الدكتور عبد الجبار عبد الله، ثم مرشح ثالث وضع اسمه لتكميل العدد... ولكن عبد الكريم قاسم اختار عبد الجبار عبد الله للرئاسة، فتوسع التباعد بين الدوري وعبد الجبارquot; (مجلة الجديد في عالم الكتب والمكتبات). وانقسم الجمهور العلمي والأكاديمي إزاء العالمين إلى يساريين مع عبد الله وقوميين مع الدوري، وظل الحال عليه حتى شباط 1963، يومها اعتقل عبد الجبار عبد الله لأنه كان محسوباً على اليسار وعبد الكريم قاسم، ليصبح مؤرخنا ـ ويقصد الدوري ـ رئيساً للجامعة لكن وسط أجواء ملبدة وحرجة جداًquot;.

4/ الزعيم عبد الكريم قاسم يحسم الامر
ولكن رواية تاريخية أخرى تقول بأن مجلس الوزراء قد اختار عبد العزيز الدوري بالإجماع، ولكن رئيس الوزراء الزعيم عبد الكريم قاسم أصّر على أن يكون عبد الجبار عبد الله رئيسا لجامعة بغداد، إذ انه حسم مسألة الاختيار على أساس تقدمية عبد الجبار عبد الله إزاء قومية عبد العزيز الدوري ناهيكم عن منطلق معرفته الأكيدة بكفاءة عبد الجبار ومنجزه العلمي وموهبته النادرة، حين رد بالقول: إن الثورة لا تفرق بين مذهب، ومذهب، ودين وآخر، بل جاءت لوضع كل إنسان عراقي مهما اختلف دينه وقوميته، وشكله في المحل المناسب. ويرى العديد من العارفين، إن سمعة عبد الجبار عبد الله العلمية العالمية، وكفاءته العلمية، وصفاته الأخلاقية، واستقلالية تفكيره، ومنهجيته الصارمة والدقيقة كانت كلها عوامل أهلته لان يحتل هذا الموقع بجدارة وإخلاص. وخلال توليه هذه المسؤولية، قدم الكثير من أجل بناء وتطوير هذا الصرح العلمي، على الرغم من قصر الفترة التي تسنّم فيها رئاسة الجامعة. لقد كتب تلميذه أولا وزميله وصديقه المخلص الدكتور عبد الكريم الخضيري الأستاذ في جامعة بغداد لاحقا موضوعا تحت عنوان (عبقري الجيل) يسرد الخضيري في مقالته المذكورة بالتفصيل والإسهاب الشيء الكثير وذلك بحكم قربه مع د عبد الجبار عبد الله أثناء دراسته في أميركا ومن ثم العمل سوية ورفقته الطويلة معه وعلاقته العائلية الشخصية يكتب عن الراحل تفاصيل دراسته وتدريسية في الجامعات الأميركية وانجازاته ونظرياته العلمية في مجال علوم الأنواء الجوية ومن ثم يوضح جليا رؤية د عبد الجبار للنهوض بالواقع العلمي للعراق في ذلك الوقت وفي المستقبل وعن كيفية إدارته لجامعة بغداد حين توليه رئاستها كما يتطرق بعض شيء عن نمط حياته وحتى الأيام الأخيرة منها.

5/ خدمات الرجل لجامعة بغداد
ومما قاله الدكتور الخضيري في مقالته خلال توليه رئاسة جامعة بغداد واقتبس منها ما يلي: ndash;كان الدكتور عبد الجبار عبد الله يسابق الزمن للنهوض بمشروع الجامعة ولذلك شجع الأساتذة العراقيين في الخارج للعودة إلى الوطن ليشغلوا مواقعهم في الجامعة الوليدة وفي ذات الوقت نشط حركة إرسال البعثات العلمية إلى الخارج بالتعاون مع مجلس الوزراء ومديرية البعثات.. ومن الأمور التي شغلت باله كثيرا مسألة الكادر الوسطي أو الفني.كان يرى الزيادة في حملة الشهادات الجامعية ستؤدي إلى قلب الهرم في عدد المثقفين إذا لم تقترن هذه الزيادة بتوسع مقابل في أعداد الكادر الوسطي من حملة الدبلوم واعتبر أن معالجة المسالة مهمة من مهمات الجامعة لذلك أنشأ عددا من المعاهد.. يلتحق بها من أكمل الدراسة الثانوية ليمضي بها سنتين مثل معهد اللغات، ومعهد الإدارة العامة، ومعهد الغابات، ومعهد التمريض.. وانصرف في الجانب المقابل إلى العناية بقمة الهرم وإعداد دراسات الماجستير والدكتوراه.. وقرن هذه المهمة بالعمل لتنشيط البحث العلمي وكان يرى أن تنشيط البحث العلمي.وكان أول معهد ينشأ للبحث والدراسات العليا هو معهد بحوث المناطق القاحلة، ليجري البحوث في النباتات العراقية المقاومة للجفاف والملوحة،ولدراسة التربة وإيجاد الحلول لمشكلة الملوحة التي تهدد مستقبل الزراعة،ودراسة البيئة وقد قبل عدد من الطلبة لدراسة الماجستير فيه،وتولت الجامعة الإنفاق عليه وعين الدكتور رسول كمال الدين مديرا له وقد أصبح هذا المعهد من بعد نواة ل (مجلس البحث العلمي) ولأول مره أيضا تفتح كلية الزراعة في أبي غريب أبوابها لطلبة الماجستير عام 1960 ndash; 1961 غير أن هؤلاء الطلبة أرغموا بعد شباط / فبراير 1963 على ترك دراستهم العلمية وافلح بعضهم في إكمال دراسته العليا بالخارج. كان عبد الجبار عبد الله يؤمن تماما بأن الجامعة ينبغي أن تكون محايدة سياسيا، ولم يقبل أن يتدخل أحد بشؤونها.. وكان ينزعج من تصرفات بعض القوى السياسية في داخل الجامعة، ويرفض ممارساتها كلها.

العالم الفيزيائي: عين الاعصار
حدثني صديقي المهندس طالب مطلك أن خاله جليل شّلال كان قد درس في ثانوية العمارة إبان نهاية الثلاثينيات من القرن العشرين، وكان مديرها الأستاذ عبد الجبار عبد الله السام الذي كان يدرّس الرياضيات.. واستطرد قائلا إن الطلبة كانوا يتعجبون عندما يرون أستاذهم يأتي صباحا وهو يحمل بيده مظلة والدنيا مشمسة، فيقولون له: أستاذنا الدنيا اليوم مشمسة، فلماذا تحمل الشمسية؟ فيقول لهم: عندما أعود إلى بيتي ستكون الدنيا ممطرة، وما أن يأتي عصر اليوم حتى تتلبد السماء بالغيوم لتنهمر مياه الأمطار، فيمضي الأستاذ عبد الجبار إلى بيته وقد حمل مظلته تقيه المطر، فكانوا يعجبون لتنبؤاته ! ويبدو أن هوايته وشغفه بالأنواء الجوية ومعرفته بحركة الرياح قد تمكنّت منه قبل أن يذهب للتخصص في هذا المجال.
لما كان عبد الجبار عبد الله قد عمل في الأنواء الجوية، فلقد شاع انه قد تخصّص فيها، علما بأن ليس له علاقة بالأنواء الجوية، وان تخصصه ومعظم أبحاثه بما فيها رسالة الدكتوراه كانت حول ديناميكا حركة الكتل الهوائية من مناطق الضغط العالي باتجاه مناطق الضغط الواطئ، وعلاقتها بما يسمى بالموجات الهوائية الصدمية، كما اشتغل حول الأعاصير والرياح القوية والزوابع، دارسا أسباب وطرق تولّدها والعوامل التي تساعد على نموها وأخذها أشكالها النهائية. كان خبيرا بطبقات الهواء المتباينة، وعلاقات تلك الطبقات مع بعضها البعض. ودرجات حرارتها، وأسباب اختلافها عن بعضها وفرق الضغط بينها، إضافة إلى دراسته العوامل والمؤثرات التي كانت تلعب دوراً مهماً في حدوث ونمو وتكامل الزوابع والأعاصير. ولقد خصص قسماً من أبحاثه لدراسة قلب الإعصار الذي يدعى (عين الإعصار)، وله معادلاته الرياضية وتنبؤاته بصدد الأعاصير وكيفية مواجهتها والاستجابة لتحدياتها في البر والبحر.. والمدن.
لقد عالج في أطروحته نظرية الأمواج الجوية وتزايد طاقة مثل هذه الأمواج بواسطة سرعة مجموعتها. ومن أعماله الأخرى أيضا: دراسة التأثير الميكانيكي لموجة الهواء البارد على حدوث الأعاصير الحلزونية المدارية وتأثيراتها، وحدوث الزوابع، مستخدما أسلوب الأعداد البيانية في اللوغاريتمات على قضايا الأنواء الجوية، ومعالجة قضاياها، كما ودرس الموجات الجوية المنفردة واحتمالات وجود مثل هذه الموجات في الهواء الجوي. وأثبت وجود ذلك فعلاً، كما بين إمكانية حدوث مثل هذه الموجات في الهواء الجوي، وكيف إنها قد تؤدي إلى خلق نشاط انتقالي يسبب بدوره نشؤ إعصار قُمعي(على شكل قُمع). باتت دراسته بهذا الشأن طليعة الحقل الخاص من العلوم الذي أصبح يُعرف ب Mesometeorology والذي أزدهر، وغدا فرعاً مهماً من علم الأنواء الجوية rdquo;.
ولما كان عبد الجبار فيزيائيا ماهرا، فلقد درس شكل الحزم الحلزونية للإعصار وكيفية تكوّنها. فضلا عن سرعة الرياح، وأستطاع توضيح شكل وسلوك الحزم الحلزونية في الإعصار سواء الحزم المنفردة منها أو المجتمعة. وبين أيضاً أن توضيح طبيعة الحزم الحلزونية يساعد على إعطاء معلومات مهمة عن طاقة الإعصار. إضافة إلى ذلك ألف الرجل وترجم عدة كتب مهمة منها، كتاب (الصوت) لطلبة الفيزياء في الجامعة، فكان خير مرجع لهم ولأساتذتهم. كما ترجم، مع زميل له، كتاب (مقدمة في الفيزياء النووية والذرية) لمؤلفه هنري سيمات، وهي ترجمة أفادت أجيالاً من الفيزيائيين، طلبة وأساتذة. إضافة إلى أبحاثه العلمية قام بعمل تدريسي وتربوي كبير. فقد درّس في جامعة بغداد وفي كليات ومعاهد ومدارس أخرى.عبّر عبد الجبار عبد الله في أكثر من مناسبة عن آراء وأفكار قيمة عن كيفية النهوض بالبحث العلمي وبمجمل العملية التعليمية والتربوية في العراق. آمل في إمكانية التطرق إلى ذلك في وقت آخر.

آراؤه التربوية وفلسفته
تقوم فلسفة عبد الجبار عبد الله على المعرفة مرتكزا أساسيا للمجتمع، والإيمان بدور العلم في تطوير حياة الإنسان ايماناً مطلقاً، كما يؤمن بالإنتاج والإبداع البشري، وان خير مقياس عنده من اجل تقدير تقدم المجتمع، هو مقدار ما ينتج فيه من بحوث علمية، وإبداعات معرفية. وهو يؤكد هذه النزعة في حديثه عن العلاقة بين العلم والمجتمع، بقوله: quot; البلد المتأخر هو ثقافة متأخرة، والثقافة هي جميع الطرق للعمل أو التفكير التي تعلّمها الناس في تاريخهم الحافل بالتطور. ولأن المجتمع (أي مجتمع) لا يمكن أن يعيش بمعزل عما يجري من حوله من تطورات علمية في مختلف صنوف الحياة. فلابد له من مواكبة التطورات التي تجري من حوله quot;. ويرى الرجل أن الجامعة باعتبارها المؤسسة العلمية الأولى، يمكن لها ان تأخذ بيد المجتمع في التقدم بعد أن عرفت واجباتها نحوه. ويقترح عبد الجبار عبد الله مشروعاً تنموياً وحضاريا لتحقيق هذا الغرض الذي يضع الجامعة في خدمة المجتمع، ولكي تقوم بهذا الواجب الاجتماعي الكبير. فلابد لها أن تنشئ لها كياناً وتقاليد خاصة بها تميزها عن سواها بمرتكزات وثوابت لا يمكن الحياد عنها، ويأتي في مقدمة تلك الثوابت والمرتكزات: خلق العرف الجامعي واحترامه، وتفعيل دور الجامعة في المجتمع، الإيمان بقدرات الأجيال الجديدة، الحرية الأكاديمية الفكرية، وأخيرا استقلالية الجامعة باعتبارها سلطة معرفية. وأكد الشرطين الأخيرين في أكثر من مناسبة. بقوله: quot; إن الحرية الأكاديمية لا تأتي بالرغبة المجردة، ولا تتحقق بالنية وحدها، بل لابد من ممارستها دوما، ولابد من التوصل إليها بالتجربة المضنية الطويلة quot;. أما استقلالية الجامعة كونها سلطة معرفية لا يمكن التدخل بشأنها، فكانت متأصلة في فكر الرجل، وظل يعمل من اجلها، بتحديد مضامينها وأساليب تطبيقها، لكي تكون جزءاً من حياتنا العراقية، ومستقراً في دواخلنا، ادراكاً منه بالترابط الوثيق بين الاستقلال الوطني واستقلال الجامعة. والإقرار بحتميتهما في الحياة.
وينتبه الدكتور ستار العبودي في كتابه عن الرجل، كثرة استعاراته أقوال الفلاسفة وكبار رجال الفكر، في أحاديثه ونقاشاته. إذ يستعين بحكمة الفيلسوف الصيني (كونفوشيوس)، وطروحات (غاليلو)، وكتابات الفيلسوف (بيكون)، أو العودة للأساطير القديمة، والموروث الثقافي العربي والإسلامي، وتاريخ العراق القديم والحديث. ومحاولته استخدام قصص الخيال العلمي. وجميعها تشير إلى سعة اطلاعه، وفيض قراءاته، وثقافته العامة، وعمق تفكيره، فضلاً عن تمتعه برؤية ثاقبة للإدارة التربوية الناجحة.

مواصفاته وخصاله العراقية
كان عبد الجبار عبد الله كما روى الصديق الأستاذ عربي الخميسي في مقال رائع له عنه وقد توثقت العلاقة بين الاثنين مذ سكن الاثنان في دارين متقابلين بمنطقة العلوية ببغداد عام 1959، وبحكم الترابط العائلي صار قريبا منه، فذكر الخميسي أن عبد الجبار عبد الله صاحب كلمة نافذة، ويهتم بالشأن العام، ويقّدس الحياة العراقية، ويهتم بالجوانب المدنية لا العسكرية.. أنيقا على الدوام، إذ كان دائم الاعتناء بقيافته منتظما، ويقدّس المواعيد والزمن، ونزيها نظيف اليد، بحيث لا يستخدم السيارة الحكومية إلا كي توصله شخصيا إلى مقر عمله وترجعه إلى بيته، إذ قد حّرم استخدامها شخصيا لبيته علما بأن سيارة متواضعة خاصة كان يمتلكها، وهي صغيرة من نوع فولكسواكن بيتلز . كان متواضعا جدا، لا يتقبل الاطراء عليه من الاخرين، ولا يقبل أن يفتح له احد باب السيارة، فلا يفّخم نفسه ولا يعظمّها.. عاملا ونشيطا لساعات طوال من النهار والليل، وقد ينتهي الدوام الرسمي، لكنه يأبى المغادرة إلى حين إكمال أعماله. كان يقدّس حياته العائلية ويرعى بيته وأطفاله مع معاملتهم بلطف كبير موجها ومرشدا رفقة زوجته التي كانت تعمل معلمة في إحدى المدارس. كان بيته أهم مكان لديه، إذ يقضي وقته في عمل دائب وقراءات متنوعة وأبحاث عديدة. كان هادئا ومنسجما مع نفسه والآخرين. ويستطرد الأستاذ الخميسي قائلا عنه: quot; إن هذا الرجل إنسان أبي َنزيه النفس، لم ولن يستغل وظيفته الرسمية ومركزه الإداري كرئيس جامعة.. لأغراضه الشخصية ! فهو لم يطلب دارا أوسع، أو سيارة خاصة، أو سعيا لنقل زوجته لمدرسة اقرب، ولم يتخذ أي موقف محاباة أو وساطة لأي فرد من عائلته أو غيرهم بالمطلق طيلة توليه مهام وظيفته حتى يوم الانقلاب... وكان بإمكانه الحصول عليه لو أراد ذلك ومن المرحوم الزعيم عبد الكريم قاسم مباشرة.... كنت أهاب التحدث معه لا خوفا منه ولكن لوقاره وورعه، ويخال لي بتصوفه وزهده وقناعته التي لا حدود لها، راهبا مندائيا متصوفا، فهو يفرض احترامه على من يتحدث معه دون أن يشعر به المقابل بلا نرجسيه أو تعصب، يحترم رأي المقابل ويصغي إليه باهتمامquot; !

عمله في مجال الطاقة الذرية
لقد حرص الدكتور عبد الجبار عبد الله على أن يمتلك العراق مصادر الطاقة الذرية للأغراض السلمية في الفترة التي شغل فيها منصب نائب رئيس لجنة الطاقة للفترة من 1958 ـ 1963، وتعد تلك المدة من أهم وأغنى المراحل التاريخية في الحصول على المعلومات المهمة في مجالات استخدام الطاقة في مختلف الفروع العلمية. وينبغي القول أن اهتمام العراق في هذا المجال قد تأخر عن موعده بعض الشيء. لقد أتيحت للدكتور عبد الجبار عدة فرص وتجارب سابقة إبان مرحلة دراسته أن يتعّرف على كثير من أسرار الطاقة الذرية. ويبدو واضحا لنا جميعا وبعد مرور نصف قرن على بدء المشروع وأفكاره في العراق، إن عبد الجبار عبد الله كان واحدا من ابرز المؤسسين للمشروع من الذين عملوا بجد ومثابرة وإخلاص، كي يؤسس لمجال الطاقة الذرية في العراق، وقدم عدة إسهامات وبحوث ودراسات، كما وترجم عدة مصادر بهذا الشأن، فضلاً عن دوره في اختيار الموقع المناسب لبناء الفرن الذري للبحوث في بغداد.

اعتقاله واهانته عقب انقلاب 8 شباط / فبراير 1963
لم يكن الدكتور عبد الجبار عبد الله يظن يوما انه سيساق إلى المعتقل ويهان اهانة شديدة، لا لجرم إلا كونه رئيسا لجامعة بغداد على عهد الزعيم عبد الكريم قاسم. ويبدو أن علماء العراق واكاديمييه المبدعين لم يتخلصوا أبدا من أحقاد السياسيين التافهين، فيتهموا بشتى التهم الدنيئة.. هكذا سيق عبد الجبار عبد الله من قبل الحرس القومي ميليشيا البعثيين إلى واحدة من الزنزانات واهين وضرب على يد احد طلبته الأغبياء، بتهمة كونه محسوبا على اليسار العراقي، ودفع ثمن هذا الاتهام، بإحالته على التقاعد اثر انقلاب 1963. كان طوال بقائه معتقلا مشدوها مما يحدث له، إذ لم يكن يتخّيل أبدا انه سيعامل بمثل تلك المعاملة في يوم من الأيام. وثمة روايات حول موقف الاستاذ عبد العزيز الدوري من زميله عبد الجبار عبد الله، وقد غدا الدوري رئيسا للجامعة بعد اعتقال عبد الجبار عبد الله.. دعوني أوضّح الروايات الثلاث التالية:

1/ الرواية الاولى
لقد سعى كما يشهد بعض من شهد تلك الأحداث، ان العديد من الأساتذة في جامعة بغداد قد سعوا لمساعدة عبد الجبار عبد الله، وعلى رأسهم الدكتور عبد العزيز الدوري الذي نصّب رئيسا لجامعة بغداد بدلا من الدكتور عبد الجبار عبد الله ! اذ نرجع أيضا إلى مقال الدكتور رشيد الخيون الذي جاء فيه قوله: quot; لم يترك الدوري زميله وصديقه العالم عبد الجبار عبد الله يهان وربما يصفى جسدياً، فقيل إنه سعى في إطلاق سراحه بالتنسيق مع وزير التربية أو المعارف آنذاك أحمد عبد الستار الجواري. سألت أحد المعتقلين مع عبد الجبار عبد الله حول ما حدث له، قال: أهانوه وكانوا يبصقون على وجهه، ويوماً نودي عليه لمقابلة شخص ما، فعاد بعد مغادرة ذلك الشخص مهاناً، فقلنا له: مَنْ رأيت قال: صديقي الدكتور عبد العزيز الدوري، وأنا لا أعرف منْ يكون الدوري، قلت له، هو الذي أمر بإهانتك، وعندها أصر عبد الجبار على مساعدة الدوري له، قائلاً: لا، الدوري صديقي وقدم لمساعدتيquot;، وفعلاً كانت النتيجة أن عبد الجبار أُطلق سراحه بمساعدة الدوري، والأخير كما نعلم وإن كان قومياً لكنه لم يكن في يوم من الأيام حزبياً. غير أن هذا التفاضل بين عالمين يخبر عن زمن جميل، يحترم العلم والعلماء إذا ما قيس ذلك بتربع شخص مثل سمير الشيخلي، ليس رئيساً لجامعة بغداد، وإنما وزيراً للتعليم العالي وقس على هذا. وإن أُقيل عبد العزيز الدوري من رئاسة الجامعة من قبل عبد السلام عارف، أعاده عبد الرحمن عارف ليفصل منه بعد انقلاب 17 تموز 1968، ويعتقل لمدة عام، ثم تضطره الظروف للهجرة quot; (انتهى النص).

2/ الرواية الثانية
وحول هذه المسألة المهمة، يكتب لي الأستاذ عربي الخميسي قائلا: quot; أما عن اعتقاله فلم يشفع له الدوري .. بل كانت هناك ثمة تدخلات أجنبية وأوساط علميه من كل صوب وممارسات ضغوط دول منها أميركا وجامعاتها خاصة معهد (ايم آي تي) وانكلترا خاصة مؤسسة اللورد برنارد رسل وجامعة اوكسفورد وجامعة كيمبرج والتجمع للدفاع عن المعتقلين الذي يترأسه الشاعر محمد مهدي الجواهري في براغ بجيكوسلوفاكيا والمؤسف انه تعرض للاهانة والشتم على أيدي الحرس القومي وكذلك في سجن رقم واحد العسكري..quot; (انتهى النص).

3/ الرواية الثالثة
حدثني بها ولده الأصغر الصديق الدكتور ثابت عبد الله قائلا: quot; عندما كان عبد الجبار عبد الله رئيسا لجامعة بغداد، فانه قد تدّخل لدى الزعيم عبد الكريم قاسم لإطلاق سراح عبد العزيز الدوري الذي كان قد اعتقل في الجامعة على عهد عبد الكريم قاسم، وكان عبد الجبار عبد الله قد رفض تدّخل الحكومة في حرم الجامعة، فللجامعة حرمتها. وكان عبد الجبار يعتقد ان له دالة على الدوري، فلما اعتقل هو نفسه بعد انقلاب البعثيين في 8 شباط / فبراير 1963، طلب من زوجته، وهو في المعتقل أن تذهب إلى الدوري كي يساعده في محنته.. فذهبت إليه وذكرته بمعروف اسداه له زميله، فأجابها الدوري انه لا يستطيع فعل شيء، فرجعت خائبة متألمة من جوابه واعتذاره ! ولكن يستطرد ولده الدكتور ثابت قائلا: إن صديقا لوالده عبد الجبار اسمه نعمان الجادر وهو أستاذ رياضيات صابئي حدثّه بأن الدكتور عبد الجبار قال له بأن الدكتور الدوري عندما طلبت المحكمة شهادته على زميله عبد الجبار الذي كان قد وجهت إليه تهما عدة منها انه كان شيوعيا أو متعاطف مع الشيوعيين.. فان الدوري أجاب بأن عبد الجبار عبد الله برئ من كلّ هذه التهم، وانه لم يكن مرتبطا بأي حزب سياسي، ولم يكن متعاطفا مع اية جهة، أو منتميا إلى أي اتجاه.. يقول الدكتور ثابت بأن الدوري لم يشهد ضد والدي. وان عبد الجبار قد حفظ للدوري جميله.

ماذا نرى؟
إنني أكاد اجزم أن عبد الجبار عبد الله لم يكن منتميا أبدا إلى أي حزب سياسي أو كتلة سياسية، لكنه كان ديمقراطي النزعة، وتقدمي التفكير، ويميل إلى اليسار فكريا، وله استنارته التي يعتز بها غاية الاعتزاز، ويعشق العراق إلى ابعد الحدود، ويكمن هاجسه في خدمة وطنه ليس إلا.. كان مؤمناً بالحرية، ويحترم الآخرين، وكان جريئا وصريحا في قول كلمة الحق، فتعرض إلى الأذى، والملاحقة.. ولما أفرج عنه واخلي سبيله، قرر مغادرة العراق كي يعود مجددا إلى الولايات المتحدة الأميركية، وكان قد تجاوز الخمسين من العمر، وبقي يحمل العراق في أعماقه، ويحنّ إليه بالرغم من كل ما تعّرض له فيه، إذ يحدثّني بعض الأصدقاء الذين رافقوه رحلته الأخيرة وسنوات اغترابه القاسية، انه كان دائم الحنين إلى العراق، وكان يتتبع أخبار العراق.. ولكن لم تفارقه أبدا الغصّات التي تعرّض لها، وخصوصا الأيام الصعبة عندما تلقّى الاهانة وأسيئ إليه في الزنزانة أو خارجها وهو العالم والأكاديمي العراقي الشهير. إن علماء وأساتذة لا حصر لهم في العراق تعرضوا ويتعرضّون حتى اليوم للمزيد من الشتائم والاهانات لأسباب فكرية وسياسية، ومن قبل أناس عديمي النظر والتفكير والأخلاق.. أناس متعصبون أو جوقات من المجانين الذين يخلطون دوما أهواء السياسة بالعلم، ولا يميزّون الناس ولا يقدرون العلماء حق قدرهم. إن علّة هؤلاء الافاكين تكمن بما يكبتونه من أحقاد وكراهية، ويترجمون ذلك إلى هوس حقيقي والى سلوك همجي ضد كل المبدعين العراقيين في أزمان وعهود مختلفة.

الرحيل: النهاية المؤلمة
اشتغل في الولايات المتحدة الأميركية قرابة ست سنوات، إذ درّس في جامعات ومعاهد أمريكية مرموقة، منها جامعة نيويورك وجامعة بوسطن ومعهد أبحاث الفضاء في ألباني (نيويورك)، وفي كولورادو (بودلر). توفي فيها يوم 9 تموز / يوليو 1969 وهو في الثامنة والخمسين من العمر.. وكان رحيله فاجعة أليمة ألمّت بعائلته وأصدقائه وزملائه وكل معارفه وطلبته، ونقل جثمانه إلى العراق ليدفن في ترابه، ليترك من ورائه سيرة واحد من المع علماء العراق ومبدعيه في القرن العشرين، ومن أولئك الذين دفعوا ثمنا باهظا جراء وطنيتهم وتقدميتهم ونظافتهم وذكائهم.. واذكر أن بعض المثقفين العراقيين اختلفوا حول مقترح تسمية يوم العلم العراقي ليكون باسم الدكتور عبد الجبار عبد الله ليحتفل بذلك اليوم سنويا في العراق، وكانت ردود البعض غير مقبولة في حينه.. إذ لم يزل المثقفون العراقيون منقسمون في ما بينهم حول كل الموضوعات التي تخص العراق والعراقيين !
كلمة أخيرة
كان قرارا قد صدر في العام الماضي عن مجلس الوزراء يقضي بتسمية إحدى القاعات في جامعة بغداد، وأيضا تسمية أحد شوارع بغداد باسم الدكتور عبد الجبار عبد الله.. ولكن القرار لم يتم تفعيله وتطبيقه حتى اليوم.. إننا بهذه المناسبة نذّكر به كل المسؤولين عسى يلتفتوا إليه وفاء لهذا الرجل الذي خدم المعرفة العراقية خدمة ممتازة، وكان وراء إصدار قانون تأسيس جامعة بغداد وهو ابرز منجزاته.. رحم الله الأستاذ الدكتور عبد الجبار عبد الله، تلك العلامة المندائية الوضيئة في تاريخ العراق الحديث، وان اسمه سيبقى شمعة مضيئة لكل الأجيال.

فصلة من كتاب الدكتور سيار الجميل: زعماء ومثقفون: ذاكرة مؤرخ
أضيفت إليها معلومات جديدة وستنشر لمناسبة مئوية الأستاذ الراحل الدكتور عبد الجبار عبد الله
www.sayyaraljamil.com