الحلقة الاولى

الحلقة الثانية

الحلقة الثالثة

الحلقة الرابعة

المسيحيون العراقيون في عهد الدولة المعاصرة
ظل المسيحيون في العراق يعيشون مع سائر أبناء الديانات والملل والطوائف الأخرى تحت ظل الدولة العراقية التي قامت سنة 1921م وكانت لهم تعايشاتهم مع التقلبات السياسية التي حدثت في العراق، خصوصا وان ثمة مسيحيين عراقيين كانت لهم أدوارهم السياسية وخصوصا في تكوين الحزب الشيوعي العراقي منذ نشأته وبرز عدد من المسيحيين العراقيين السياسيين والمثقفين المناضلين.. ولعلّ أشهر حدث في تاريخ العراق المعاصر يمّثل حالة صراع رسمي بين السلطة الملكية والملة الآثورية هي التي تضمنتها الحركات الآثورية إبان ثلاثينيات القرن العشرين والتي قمعتها الحكومة العراقية في المناطق التي انتشرت فيها تلك الحركات من قبل الآثوريين في شمال العراق قرب الموصل، والتي تزعمّها المار شمعون بنيامين والذي طالب بتأسيس كيان سياسي للآثوريين عقب استقلال العراق في العام 1932، مما حدا بالحكومة العراقية إرسال قوة عسكرية يقودها ضابط اسمه إسماعيل عبّاوي، واستطاع أن يقضي على تلك التوترات، ويهرب المار شمعون وحاشيته إلى خارج العراق. لقد شكّل ذلك quot; الحدث quot; نقطة سوداء في تاريخ تأسيس الدولة العراقية على عهد الملك فيصل الأول 1921- 1933 والذي لم يكن يقبل بأي سياسة للقمع كتلك التي مورست ضد الاثوريين أثناء غيابه عن العراق للعلاج في سويسرا. إن مسيحيي العراق لم يتعاطفوا كلهم مع المار شمعون، بل تعاطف معه الآثوريون فقط. ولكن يبدو أن تلك الأحداث قد سبّبت هجرة كبيرة للاثوريين إلى خارج العراق (من اجل الاطلاع على وجهة النظر النقدية الاثورية حول الموضوع، راجع كتاب: أبرم شبيرا، الاشوريون في السياسة والتاريخ المعاصر، ط1، السويد، 1997).
وكان لعدد كبير من المسيحيين مشاركة في إحداث الموصل في العام 1959 التي قادها العقيد الركن عبد الوهاب الشوّاف قائد اللواء الخامس المرابط بالموصل ضد حكم الزعيم الركن عبد الكريم قاسم، اثر قرار أنصار السلام العراقيين بعقد مؤتمرهم في الموصل، وإصرار الزعيم قاسم على انعقاده موفرا لهم القطارات إلى الموصل التي كانت تعيش احتقانا ساخنا بين الشيوعيين والقوميين، فانفجرت الأحداث، وقتل في تلك الأحداث المحامي المثقف خريج الجامعة الأميركية في بيروت كامل قزانجي احد القادة الشيوعيين المسيحيين، ولقد قصف المتمردون من ثم فشلت الحركة وقتل الشواف بعد اعلان بيانه الانقلابي وسحل، وسيطرت الحكومة المركزية على الوضع بعد عدة أيام من انفلات الوضع وانتشار الفوضى وسيطرة الشيوعيين على الوضع، وقيام السلب والنهب والقتل والسحل في مدينة الموصل، اذ هّب عليها الناس من توابعها واصبحت بايدي الرعاع ثم استتبت الامور لصالح الحكومة المركزية.. على أثر ذلك، جرت اغتيالات واسعة في مدينة الموصل قرابة سنتين، طالت العديد من المسيحيين لتصفية حسابات سياسية أو أحقاد شخصية، فنزح آلاف المسيحيين من الموصل إلى بغداد خلاصا من موجة الاغتيالات التي بدأت تطال الشيوعيين في الموصل، علما بأن هناك بعض مسيحيين موصليين تعاطفوا مع الشواف، ومنهم الضابط إسماعيل هرمز الذي اشترك في الحركة، واعدم مع الضباط الموصليين القوميين الذين شاركوا الشواف حركته، واعدموا عام 1959 ببغداد بعد محاكمتهم في محكمة الشعب التي تزعمّها العقيد فاضل عباس المهداوي بأوامر من الزعيم قاسم.
وفي عهد المشير عبد السلام عارف، يعدم احد القادة البعثيين وهو من مسيحيي الموصل واسمه ممتاز قصيرة شنقا حتى الموت بتهمة القتل العمد.. وبعد اقل من سنتين يهرب الطيار المسيحي العراقي منير روفا بطائرة ميك عراقية سوفيتية الصنع إلى إسرائيل، فاثار موجة استنكار كبيرة عند العراقيين حتى في الأوساط المسيحية العراقية كونه جاسوسا، وطوال خمسين سنة مضت، وبالرغم من تسّنم بعض المسيحيين أجهزة ومسؤوليات ووزارات ومشاركة في القيادة، إلا أنهم عانوا كثيرا، كما عانى الشعب العراقي كله من الرعب السياسي والسلطوي، وتحملّوا بعض الاهانات الاجتماعية فضلا عن مشاركتهم للعراقيين كلهم في الحروب القاسية والحصار الاقتصادي.. صحيح أنهم تمتعوا بنشر منشوراتهم ومقالاتهم وكتبهم ومجلاتهم على عهد البعثيين، إلا أن آلافا مؤلفة منهم بدأت تهاجر إلى خارج العراق هربا من الضغوطات والملاحقات والاهانات.
لابد أن أقول بأن المسيحيين العراقيين قد تلونّت اتجاهاتهم السياسية في العراق، فمنهم كان الملكيون وتسّنم بعضهم بعض الحقائب الوزارية والمناصب الادارية والقيادات المصرفية والمالية، ومنهم كان العديد من الشيوعيين قادة وأعضاء لهم مكانتهم السياسية وخصوصا اولئك القادمين من القرى المسيحية، ومنهم كان العديد من البعثيين قادة وأعضاء لا يستهان بعددهم سواء في بغداد أو المدن الكبيرة.. أما اليوم، فكان هناك من أيّد تغيير النظام وشارك في العملية السياسية، ولكن لم يكن هناك أي تعاطف مع الأحزاب الدينية الإسلامية، كونها لا تقبلهم أعضاء، بل ومن تلك الأحزاب والجماعات من لا يعترف أصلا بعراقية هؤلاء الناس!!

المسيحيون العراقيون اليوم مع معاناتهم
قُدّر عدد المسيحيّين العراقيّين العام 1975 بحوالي نصف مليون نسمة، غالبيّتهم من الكلدان الكاثوليك. يأتي بعدهم الآثوريّين (= النساطرة)، ثمّ السريان والأرمن والروم الأرثوذكس واللاتين والبروتستانت والروم الكاثوليك. غير أنّ إحصاء رسميًّا جرى عام 1977 عدّهم بما هو أقلّ بكثير، وأقلّ بكثير أيضًا من التصوّرات الحاليّة التي قدّرتهم بثلاثة أرباع المليون. إذ عدّهم الإحصاء المذكور بحوالي 250 ألف نسمة. طبعًا، لا نستطيع الجزم بعدد المسيحيّين في العراق حاليًّا لأسباب عديدة منها الهجرة وغياب إحصاءات دقيقة. ويتركز معظم المسيحيين في العراق في بغداد وكذلك في المدن الشمالية مثل كركوك واربيل والموصل التي كانت يوما ما مركزا تجاريا مهما ورد ذكره في الكتاب المقدس باسم نينوى..
فضلا عن الأدوار السياسية للعديد من المسيحيين، فقد كان هناك منهم أعدادا متميزة من المثقفين والصحفيين والإعلاميين والكتّاب وبعض الفنانين وكل قطاعات المهن كالمحامين والمعلمين والأطباء والمهندسين.. الخ نعم، هناك عدة ادوار ثقافية واجتماعية وإدارية مؤثرة وإثراء كل من الصحافة العراقية واللغة العربية والآثار وتاريخ الموجودات والموسيقى والفن والأدب والطب والعلوم والتدريس والقانون.. إضافة إلى الحذاقة الرائعة في المهن والخدمات كالبناء والمعمار والنجارة والحدادة والفندقة والسياحة.. الخ وكل ذلك في النصف الأول من القرن العشرين،.وبالرغم من أن الحكومات التي تعاقبت على العراق كانت تدعي العلمانية ألا أنها عجزت أن تتبنى نظرية واضحة تجاه المجتمع العراقي. وأضحت الكيانات الطائفية والدينية والمكونات الاجتماعية تلعب دورا سياسيا مهما، لذلك فبعد سقوط نظام صدام حسين في العام 2003 وقيام النظام الجديد الذي يسعى إلى إقامة حكومة ودستور قائم على أسس ديموقراطية، ولكن مع وجود أحزاب دينية في السلطة، ونواقص دستورية اثبت وألزم الدستور نفسه إصلاحها، تحول ما يعرف بالإرهاب أو التشدد السلفي إلى ممارسة العنف المباشر ضد دور العبادة والسكان الآمنين وأصبحت الكنائس المسيحية أحد أهم الأهداف التي طالها هذا العنف المدمر وهي سابقة مهمة تهدد الوجود المسيحي على ارض العراق.

الهجمات المنتظمة على المسيحيين العراقيين على عهد الاحتلال:
أحصت إحدى الوكالات الإعلامية الحوادث الرئيسية التي حصلت للمسيحيين بعد مجزرة كنيسة سيدة النجاة ببغداد قبل أيام من عام 2010، وأشارت إلى أن المسيحيين تعرضوا بانتظام لأعمال عنف وقتل وخطف منذ العام 2004 ومن بين المسيحيين الذين كان عددهم يتجاوز المليون وربع المليون قبل الغزو الأميركي، بقي منهم الآن ما يقارب 550 ألفا، حيث هاجر البقية إلى خارج العراق وسط عجز حكومي عن حمايتهم. إن من ابرز الهجمات المنتظمة على المسيحيين ودور عبادتهم، ندون ما يلي:
1/ في آب / أغسطس عام 2004 أربعة اعتداءات استهدفت أماكن عبادة مسيحية في بغداد واعتداءان آخران في الموصل أوقعت عشرة قتلى وخمسين جريحا على الأقل.
2/ في يوم 16 تشرين أول /أكتوبر، تعرضت خمس كنائس في بغداد لهجمات متزامنة.
3/ في يوم 17 كانون الثاني / يناير 2005، خطف المطران جورج كاتسموسي في الموصل.
4/ في يوم 15 آب / اغسطس و 19 تشرين الثاني/ نوفمبر 2006، خطف كاهنان من الكنيسة الكلدانية في بغداد سعد سيروب ودوغلاس البزي ولا يزال مصيرهما مجهولا.
5/ في يوم 3 حزيران/ يونيو 2006، مقتل الكاهن رغيد غني وثلاثة من مساعديه أمام كنيسة في الموصل.
6/ في يوم 6 حزيران/ يونيو 2006 خطف الكاهن هاني عبد الأحد.
7/ في يوم 13 تشرين الأول/ أكتوبر 2007، خطف كاهنين من السريان الكاثوليك في الموصل على أيدي مجموعة مجهولة.
8/ في يوم 6 كانون الثاني/ يناير 2008، جرت اعتداءات بسيارات مفخخة استهدفت كنيسة القديس بولس الكلدانية وكنيسة في كركوك.
9/ في يوم 29 شباط / فبراير 2008، خطف رئيس أساقفة الكلدان في الموصل المطران فرج رحو مع حراسه الشخصيين، وعثر على المطران مقتولا في 13 آذار / مارس قرب الموصل.
10/ في يوم 5 نيسان/ ابريل 2008، جرى اغتيال الكاهن يوسف عادل من كنيسة السريان الارثودكس في بغداد.
11/ في يوم 28 أيلول/ سبتمبر و 11 تشرين الأول/ اكتوبر 2008، جرى اغتيال 11 مسيحيا على الأقل في الموصل، وحدوث أعمال عنف ضد المسيحيين في نهاية 2008 أسفرت عن سقوط 40 قتيلا وأدت هذه الجريمة الى هجرة قسرية ل 12 ألف مسيحي من المدينة.
12/ في يوم 12 تموز2009/ يوليو 2009، جرى مقتل أربعة مسيحيين وإصابة 32 بجروح في ستة اعتداءات استهدفت مختلف الكنائس في بغداد.
13/ في يوم 26 تشرين الثاني/ نوفمبر 2009، جرى تفجير دير وكنيسة في مدينة الموصل.
14/ في يوم 15 كانون أول/ ديسمبر 2009، جرى انفجار سيارة مفخخة في الموصل استهدف كنيسة للسريان الارثودكس، ومدرسة مسيحية بالقرب منها مما أدى إلى مقتل طفل وإصابة 40 بجروح مختلفة.
15/ في يوم 23 كانون الأول / ديسمبر 2009، جرى مقتل اثنين في اعتداء استهدف أقدم كنيسة في الموصل.
16/ في يوم 13 و 23 شباط/ فبراير2010، جرى مقتل ثمانية مسيحيين في الموصل وضواحيها.
17/ في يوم 2 أيار/ مايو 2010 سقط بعض القتلى و 80 جريحا استهدف الحدث حافلة تقل طلابا وموظفين كانوا متوجهين من مدينة الحمدانية المسيحية إلى جامعة الموصل.
18/ عاشت الموصل بالذات رعبا مسيحيا على امتداد سنوات 2006 و 2007 و 2008 جراء التهديدات والقتل العشوائي وإشاعة الرعب والهجمات المنظمة على الكنائس المسيحية.
19/ تعرضت في نوفمبر / تشرين الثاني 2010، كنيسة سيدة النجاة ببغداد إلى أسوأ حدث مأساوي باحتجاز المصلين المسيحيين فيها، ومن ثم تعّرض قسم كبير منهم للقتل ونقل الجرحى إلى المستشفيات جراء هجوم إرهابي قام به بعض الإرهابيين مساء

تحليل واقع الهجمة المعاصرة
لقد تعرضت العديد من كنائس بغداد والموصل إلى هجمات تخريبية إرهابية وهي تقصد دور العبادة للمسيحيين، وذلك بسلسلة من التفجيرات بعبوات ناسفة او سيارات مفخخة أو أحزمة ناسفة ضمن حملة مسعورة ومبرمجة تستهدف إرهاب وزرع الرعب عند المسيحيين العراقيين من دون اي معرفة بجذور هذه الأقوام الأصيلة ومن دون أي تثمين أو تقدير لعراقيتهم ولا أي تعاطف مع حياتهم وشراكتهم وتعايشهم مع المسلمين منذ ألف وأربعمائة سنة.. كان مجتمع العراق منسجما بكل أطيافه وأجناسه وأنواعه وأديانه وطوائفه كما بدا إذ لم تسجل حوادث عنف أو قتل أو اضطهاد دموي كما يدّعي بعض الجهلاء.. ولكن يبدو واضحا أن مشروعا مدبرا لتحطيم وحدة العراق ونسيجه الاجتماعي، كما تستهدف العمليات الإرهابية أيضا ترويع المسيحيين وإجبارهم على الرحيل من وطن ثبتت فيه جذورهم في أعماقه، وذلك الى بلدان الشتات بعد سلسلة من الهجرات والتغرب الذي ذاقته أجيال من المسيحيين العراقيين منذ انقلابي 14 تموز / يوليو 1958 و8 شباط / فبراير 1963، وما تلا ذلك من السياسات المغامرة العسكرية والاستبدادية الهمجية التي اتخذها انقلابيو تموز/ يوليو 1968 في العقود الثلاثة الأخيرة وسعيهم المحموم إلى تصفية القوى السياسية العراقية المعارضة لا بل حتى المتحالفة معهم في السلطة وما خلفته تلك السياسات العقيمة من آثار وترسبات نشهد نتائجها من دمار شامل وخراب سايكلوجي ترك آثارا اقتصادية واجتماعية ونفسية خطيرة وعميقة عند العراقيين الذين عانوا وما زالوا يعانون من الأهوال والكوارث. وكان من نتائجها المباشرة هجرة وتهجير ما يقارب من أربعة ملايين عراقي يشكل المسيحيون منهم نسبة تصل إلى 14%! هنا يتساءل المرء: ما هي الدوافع الأساسية وراء هذه الأعمال الإجرامية ضد العراقيين والمسيحيين من بينهم؟
اولآ: أهي محاولة لفك عرى التلاحم بين الأديان والطوائف الدينية في العراق بإشعال نار الفتنة الطائفية والدينية والتمهيد لحرب أهلية لإبطال العملية السياسية الجارية؟
ثانيا: أم أن المسيحيين العراقيين قد أصابتهم شائبة ولا يرتقون إلى مرتبة المواطنة وان شبهة العمالة للاميركان والغرب قد علقت بهم وبالتالي لا بد من اجتثاثهم لتطهير ارض العراق منهم ndash; كما تعلن الجماعات الإرهابية -؟
ثالثا: أهي محاولة جادة من جانب هذه القوى لإفراغ العراق من المواطنين غير المسلمين وتحويل فسيفساء العراق إلى لون واحد وحيد ممل ومقيت؟؟

بماذا نجيب على هذه الاسئلة؟
لقد بقيت مثل هذه الممارسات المشينة ضد المسيحيين العراقيين وكنائسهم بالذات محصورة في مجموعات متفرقة صغيرة ومناطق محددة في العاصمة بغداد وداخل مدينة الموصل تحديدا. زد على ذلك تدفق عناصر خارجية ذات وجهة قومية أو دينية متطرفة للغاية عبر الحدود العراقية في مسعى لجعل العراق ساحة ساخنة لتصفية الحسابات، مما يتناقض ومصلحة العراق والعراقيين في هذا الظرف الذي يحتم على العراقيين الإسراع في إعادة بناء ما دمرته الحروب بما في ذلك الحرب الأميركية الأخيرة على العراق التي أطاحت بنظام صـدام حسين.. ولقد تأكد بأن المسـيحيين العراقيين لهم من الوعي والمواطنة ما جعلهم يتلقون هذه الصدمات كما يتلقاها غيرهم من العراقيين.. وتتضح الصورة بوقوف العراقيين كلهم مع إخوانهم المسيحيين وتعاطفهم مع معاناتهم، إذ اعتبروها جزءا من المعاناة التاريخية الكبرى التي يعاني منها كل العراقيين. من المؤسف له جدا، خمول الحكومة العراقية عن معالجة هذه المخاطر، وكأن المسيحيين ليسوا من هذا الشعب، وليسوا من أقدم سكان هذه الأرض العريقة! إن الحكومة العراقية تتحمل مسؤوليتها أمام الله والتاريخ وكل الناس عن وجود المسيحيين العراقيين وكل أبناء الشعب العراقي. وهنا لابد لي أن أعيد القول الذي ناشدت به كل المسؤولين العراقيين أن يكشفوا للعالم كل الحيثيات والأدلة والقرائن للجرائم التي ارتكبت ظلما وعدوانا، ولكنهم ما زالوا يتسترون على كل الجرائم، ويعتمون على منفذيها.. ولا تعرف أية تفاصيل عن الجناة الحقيقيين الذين يرتكبون تلك الأحداث والمجازر.

استنتاجات: رؤية مستقبلية
لقد بدا واضحا للعيان بإن المسيحيين العراقيين لا يعانون من أية عقدة نقص سواء في ما يتعلق بجذورهم الوطنية، أم في هويتهم الحضارية وانتمائهم إلى تراب العراق، إذ أنهم قد تربوا على المحبة وألالفة والسـلام في أرض الرافدين، وكانوا من الصابـرين والصامدين بوجه حملات ألإبادة وألأضطهادات الوحشية التي مارسها ضدهم ملوك الفرس والرومان الوثنيين حتى جاء الإسلام الحنيف ليكونوا في حمايته أعزاء وحضاريين، ولا تزال آثار الكنائس والأديرة والمقابر باقية في مناطق واسعة من وسط وجنوب العراق كالمدائن وبغداد وتكريت والنجف وكربلاء والكوفة وفي أعالي الفرات إضافة إلى الموصل وسهولها في نينـوى ومحيطها ونوهـدرا واربيل وكركوك والبلدات المحيطة بهما وغيرها. لقد امتزجت دماء العراقيين من المسلمين والمسيحيين وبقية الأديان والطوائف والأعراق في خضم المعارك والحروب التي خاضوها عبر التاريخ سوية في الدفاع عن العراق وترابه وبيته المشـترك وعن نهريه العظيمين ونخيله وجباله ووديانه وسهوله وصحرائه جيلا بعد جيل.
إن المسيحيين العراقيين لا يمكن أبدا أن يختفوا عن وطنهم، وسيمكثون في أرضهم التي وجدوا عليها منذ آلاف السنين، وسوف لن تقتلعهم أية قوى مضادة.. كما أثبتت الأيام الصعبة إن نزعتهم الوطنية وحبهم للعراق أقوى من كل التحديات.
إن ما يحصل من تهجير للمسيحيين في العراق اليوم، وكذلك تصاعد المد الأصولي الإسلامي المتطرف والمشبوه والذي تتوضّح ارتباطاته الإرهابية بأجهزة استخبارات خارجية تستهدف المسيحيين والمسلمين معاً سيغدو له آثاره المدمّرة على مجتمعاتنا قاطبة.. كما ان عمليات الفرز الطائفية وتوليد التفسخّات المذهبية التي تنتجها حالة المنطقة برمتها سيؤثّر تأثيرا بالغا في الضد من المشروعات السياسية والتحديثية التي تتطلّع لبناء كتلة اقتصادية إقليمية مؤثّرة، وستبقى منطقتنا مرتهنة لإرادات الهيمنة ومشروعات المخططات من اجل إعادة تشكيل خارطة الشرق الأوسط، ولا يكمن الخوف من مشروعات سياسية باتت مكشوفة في كل تفاعلاتها، بقدر ما يكمن الخوف من مشروعات اجتماعية تشرذم التماسكات والتعايشات المألوفة، بل وأنها تحطّم حالة الألفة والانسجام والشراكة التاريخية التي عهدها التاريخ منذ أربعة عشر قرنا..
إن ما يحدث في دواخل العراق لم يكن قد حدث أبدا على مّر التاريخ، بحيث افتقد الأمن افتقادا كاملا، وبات المسيحيون وغيرهم من الأقليات الدينية تعيش رعبا حقيقيا، وأنهم تمرسوا على حالة من ثقافة الخوف على المصير، الأمر الذي يدفع بجانب كبير من المسيحيين للتفكير بالهجرة، وهي هجرة في الحقيقة لم تنقطع منذ أعوام عدة.
لقد اثبت المسيحيون العراقيون بأن لهم القدرة على تجاوز هذه المحنة التاريخية الأصعب لأن من شأنها إذا ما استمرّت في التفاقم والتعقيدات، أن تغير من طبيعة التكوينات الاجتماعية العراقية وبالتالي سينسحب هذه كله على المنطقة، فيدمّرها اجتماعياً وثقافياً وحضارياً.

الخاتمة
وأخيرا، لابد لي أن أقول بأن كتابتي عن المسيحيين العراقيين ومشاركتي إياهم معاناة كل العراقيين يأتي في المقام الأول من باب الحرص على وجودهم الحضاري في الشرق وبقائهم في أوطانهم العريقة وفي العراق بالذات، فهم من العناصر التكوينية التاريخية الأولى في هذه المنطقة من العالم والتي يشكّل بقاؤها بالفعل مانعا وتحديا حقيقيا لقيام بيئة متوحشة توظّف التعصب، وتتبنّى التطرف، وتؤمن بالكراهية وبالتالي تستخدم العنف المؤدي إلى كوارث تاريخية خطيرة. إن بقاء المسيحيين في أوطانهم سيقيهم من خطر الإبادة والانصهار في مجتمعات أخرى.. ان وعي العراقيين باهمية هذا الطيف المتلون الرائع الذي يتعايش ويسالم كل العراقيين، ضرورة اساسية، وينبغي على العراقيين احترام كل الاطياف الاجتماعية ومساعدتهم في نيل حقوقهم المشروعة في كل مجالات الحياة، مع الاعتزاز العراقي الرسمي والشعبي بهوية هذا التكوين القديم وانتماءاته وبيئاته وتقاليده واعرافه وطقوسه ولغته الآرامية التي بقيت منذ أحقاب طوال وهي تعيش في مجتمعات إسلامية متنوعة، وسيجد مسيحيو العراق من المهاجرين وبعد مائة سنة من اليوم إنهم قد ذابوا في مجتمعات أخرى كما هو حال من هاجر من المسيحيين السوريين واللبنانيين إلى أمريكا الجنوبية! أن بقاءهم مغروسون في العراق يشكل ترسيخاً للمجتمع العصري المتعددة العناصر والمتنوع في وحدته الحضارية.. آمل أن تكون النخب المسيحية العراقية صاحبة دور نهضوي حضاري في القرن الواحد والعشرين، مستلهمة خطى الرواد الاوائل، وهي ترسم ملامح حقيقية للتجديد كما كان لها من ادوار سابقا. وان تثير أسئلة فكرية وسياسية وثقافية جديدة لعلها تسهم في بلورة خلاص نهضوي جديد نحفظ خلاله وجودنا الحضاري في العراق المتنوع وتسهم بالتالي ً في تكوين المصير العراقي برمته..
انتهت

www.sayyaraljamil.com