هناك جدل دينى إسلامى بين كبار الفقهاء عبر التاريخ الإسلامى حول الناسخ والمنسوخ، حيث يؤيد الأغلبية من الفقهاء الثقاة حدوث هذا النسخ بين الآيات المكية والآيات المدنية، حيث نسخ القرآن المدنى الكثير مما جاء بالقرآن المكى أو ما جاء به من آيات التسامح فى مرحلة الإستضعاف، وهو جدل دينى داخل الإسلام ولا يعنينى ولا يخصنى بقدر تطبيفه على أرض الواقع وما لاحظته من إستخدام هذا الموضوع عمليا فيما يتعلق بالحريات الدينية وحقوق غير المسلمين.
فى العام الماضى زار مفتى مصر الشيخ على جمعة وزارة الخارجية الأمريكية وادلى بحديث لصحيفة واشنطن بوست قال فيه أن الحرية الدينية متاحة فى الإسلام ولا يوجد حظر أو حجر على أى مسلم فى أن يترك دينه بكل حرية وفى أى وقت، واستخدم لتأييد وجهة نظره العديد من الآيات المكية التى تدعم الحريات الدينية وحق اٌلإنسان فى الايمان والكفر، وبعد أن هبط من الطائرة مباشرة بعد العودة إلى القاهرة واجهه الصحفيون بما نشر على لسانه فى واشنطن وإقراره بحق المسلم فى التحول عن دينه فتراجع عن كل كلامه مؤكدا على أن الردة فى الإسلام مجمع عليها وبأنه لا ردة فى الإسلام ومن ثم لا يحق للمسلم تغيير دينه، واستخدم لتأييد ذلك العديد من الآيات المدنية والأحاديث مدعما بها وجهة نظره.
إن اخطر ما فى قضية الناسخ والمنسوخ، وما يؤيد حدوث ذلك، هو أن الآيات المكية التى تدعو صراحة للحريات الدينية وتتحدث عن حق المسلم فى أن يؤمن أو يكفر لم تطبق فعليا ولا ليوم واحد فى التاريخ الإسلامى كله، رغم دعوات المصلحين المسلمين من المعتزلة إلى بن رشد إلى المصلحين فى العصر الحديث وليس انتهاءا بشيخ الأزهر الراحل الدكتور محمد سيد طنطاوى الذى أعلن صراحة أن الإسلام لا يجبر احد على الدخول فيه أو البقاء به رغما عن إرادته الحرة، ومع هذا فأن مؤسسة الأزهر التى كان يترأسها فضيلة الشيخ طنطاوى هى من أكثر المؤسسات الدينية التى تقف عائقا أمام حرية الفرد فى الاختيار الحر للديانة التى يعتنقها.
إن المتابع للتاريخ الإسلامى فى امتداده حتى اليوم يجد ثلاثة خطابات مختلفة: الاول خطاب المصلحين، وهم قلة صغيرة مهمشة ومضطهدة طوال هذا التاريخ، ولكن خطابهم واضح فى دعم الحريات الدينية، وإعلاء العقل والمصلحة على النص، والإيمان بالآيات المكية التى تدعو إلى الحريات والدعوة إلى الاخذ بها.
الخطاب الثانى هو خطاب المتطرفين، وهو خطاب أيضا يتسم بالوضوح وبالصراحة فى تقسيم العالم بين دار الإسلام ودار الحرب، وبين المؤمنين والكفار، ووجوب محاربة الكفار والمشركين حتى يسود الإسلام على العالم، ويؤمنون كذلك بالولاء والبراء وبأن المرتد عن الإسلام مستوجب القتل... وهو خطاب كما هو مبين واضح فى تطرفه وعدوانيته وإعلانه للحرب على غير المسلمين.
الخطاب الثالث، وهو الخطاب المرواغ، والذى يمثل التيار الأكبر طوال التاريخ الإسلامى، وهو تيار يقبل القول ونقيضه فى نفس الوقت وعنده خطاب دينى مختلف لكل مناسبة، ويعتمد على قاعدة الغاية تبرر الوسيلة، واللى تغلب به العب به. وهو خطاب كما هو واضح مراوغ ومضلل يستخدم التقية لإخفاء توجهاته الحقيقية... وكما قلت أن هذا الخطاب هو الحاكم للتيار الرئيسى خلال التاريخ الإسلامى وحتى وقتنا هذا.
قضية الناسخ والمنسوخ أنتقلت إلى الدستور المصرى، فجاءت المادة الثانية الخاصة بالشريعة الإسلامية لتنسخ عمليا المواد الخاصة بالحريات الدينية والحريات العامة والمواطنة بل وتسمو على ال 114 مادة الأخرى التى يتكون منها الدستور المصرى. ولهذا تكرر المشهد الذى حدث مع المفتى مئات المرات مع السياسيين والدبلوماسيين المصريين فى الخارج أو أثناء مقابلاتهم مع شخصيات أجنبية داخل مصر، حيث يعترفون بحق المصريين جميعا فى الحريات الدينية والتحول الدينى عندما يتحدثون فى الخارج ومع وفود اجنبية، فى حين ينكرون هذه الحقوق ويحاربونها عمليا على أرض الواقع. فى فبراير الماضى وقف الدكتور مفيد شهاب يتحدث امام مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة عن حرية العقيدة فى مصر وعن المادة 46 من الدستور وعن الحريات الدينية المتاحة للمصريين، وكان يتحدث بثقة وكأنه يتكلم عن أمريكا أو الاتحاد الاوروبى. نفس الشئ سمعته من السفير المصرى فى واشنطن سامح شكرى أمام أحدى الكنائس المشيخية فى واشنطن حيث كرر نفس كلام مفيد شهاب حرفيا، وعلمت بعد ذلك أن الخارجية المصرية توزع ردودا معدة بعناية مسبقا على كافة دبلوماسييها فى الخارج للرد على التساؤلات المتوقعة فيما يتعلق بالملف القبطى وبوضع الحريات العامة والدينية فى مصر.
على أرض الواقع المسألة مختلفة تماما حيث تتعاون كافة المؤسسات فى مصر وعلى رأسها المؤسسات الأمنية والتشريعية والقضائية من آجل تعطيل كافة مواد الدستور المتعلقة بالحريات الدينية لصالح المادة الثانية من الدستور. نفس المسئولين الذين يتحدثون عن الحريات الدينية بهذا الخطاب المراوغ فى الغرب هم أنفسهم الذين يعطلون الحريات الدينية فى الداخل ويقفون حجر عثرة أمام حقوق المصريين المقررة لهم فى المواثيق الدولية التى وقعت عليها مصر.وبهذا تكون المادة الثانية فعليا قد نسخت المواد الأخرى من الدستور، وبهذا يكون الغاء هذه المادة شرطا ضروريا لتفعيل مواد الدستور الأخرى.
الاسبوع الماضى رفضت المحاكم المصرية قضية المتحول محمد حجازى وعلقتها إلى آجل غير مسمى، ورفضت قضية التؤامين ماريو واندروا رغم إنهما لا يعرفان الإسلام ولم يعيشوه ولو ليوم واحد، ورغم تعاطف الكثيرين فى مصر مع قضيتهم، ورغم التناول المكثف لهذه القضية فى وسائل الإعلام المصرية والأجنبية حتى وصفتهم محطة سى بى ان الامريكية بأنهماquot; مقاتلان من آجل المسيحيةquot;، ورغم كل ذلك أجبرهم القضاء المصرى على التحول للإسلام فى الوثائق الرسمية ضد إرادتهما الحرة!!!. وقد صرحت والدة الطفلين لمحطة ال بى بى سى بعد الحكم بأن القضاء فى مصر يزرع الفتنة، ولكن الصحيح أن المادة الثانية هى التى تزرع الفتنة والخراب والدمار، وهى تلغى كافة مواد الدستور وكافة القوانيين المدنية، وإنها سيف مسلط على الدولة المدنية وعلى رقاب المصريين فى مصر، وأن القاضى الذى أصدر الحكم لم يعتمد على قانون بل قفز مباشرة إلى المادة الثانية وفسرها بأنها ضد الحريات الدينية، وبأن ترك الإسلام ردة ومن ثم اصدر حكمه المشين الذى يتنافى مع أبسط قواعد الحريات الدينية ومع بديهيات حقوق الإنسان المعاصر.
إن قواعد العدالة كما يعرفها القانونيون تشمل المساواة أمام القانون، حيث يطبق القانون بشكل متساو على الجميع بدون استثناء بصرف النظر عن اللون أو الجنس أو العرق أو الدين، والمساواة الأهم هى لدى القانون بأن يكون القانون نفسه محققا لمبدأ المساواة بما فى ذلك الدستور وهو القانون الأعلى، ولكن الدستور لا يحقق هذه المساواة نظرا لوجود المادة الثانية، والأخطر بأن هذه المادة تعطل وتنسخ عمليا أى مادة قانونية تحقق هذه المساواة أو تدعم الدولة المدنية طالما رأى مفسروها بأنها تتعارض مع الشريعة الإسلامية.
ومن ثم فأن الحديث عن المساواة أو الدولة المدنية فى ظل وجود هذه المادة هو كلام لغو وعبث، لأن هذه المادة تقف كحائط صد ضد قيم الدولة الحديثة، وضد مبادئ حقوق الإنسان، وضد العدالة، وضد الوحدة الوطنية، وضد السلام الإجتماعى، وضد قيم التقدم، وضد الحداثة، علاوة على إنها تفرغ أى شئ جيد من محتواه لكى يصبح مثل الأصداف الخاوية.