منذ خريف عام 1914 تم العمل بفتوى تبيح قتل المسيحيين في السلطنة العثمانية، وإذا كانت المذابح الأرمنية قد عرفت للعالم أجمع، إلا أن ما تم ذبحه من الآشوريين (السريان، الكلدان) واليونانيين يبلغ قرابة ثلاثة أرباع المليون، وهذا خلال ثلاثة سنوات من العمل بمثل هذا الفرمان. التبرير الشعبي لهذه المذابح المروعة، كان أن الأرمن يقومون بمؤامرة الغرض منها سلخ الأراضي العثمانية، وكان العرب لم يقوموا بنفس الأمر، ولكن الحقيقة أن المذبحة لم تكن الأولى التي اقترفت بحق المسيحيين، فالآشوريين، وهم شعب من كنائس مختلفة (شرقية، كاثوليكية، أرثوذكسية) اقترفت بحقهم مذابح مختلفة لحد أن القرن المبتدئ بعام 1836 إلى عام 1933 شهد مذابح عديدة بحقهم وهم لم يكونوا قد رفعوا مثل هذا الشعار ومنها مذابح بدرخان بك، مذابح المير محمد أمير راوندوز ومذابح 1895 وآخر مذبحة كبرى كانت في منطقة دهوك والتي عرفت بمذبحة سميل 1933 وفي هذه المذابح لم يخسر الاشوريين الأراضي والممتلكات بل خسروا مئات الآلاف من الأنفس عدا الأنفس التي اعتنقت الإسلام لخلاص الذات، ولولا هذه المذابح لكان مصير المنطقة ودور الآشوريين فيها مغايرا، من لاعب تابع في السياسية إلى لاعب رئيسي.
عندما يستنكر بعض الإخوة من الكورد اتهام الآشوريين (السريان) للكورد فإن المسألة حقا تثير استغراب الآشوريين، صحيح أن الكورد كلهم لم يشاركوا في هذه المذابح، لا بل إن بعض من القيادات الكوردية استنكرتها والبعض الآخر آوى الكثير من الآشوريين أو الأرمن، وهذا كله لا ينكر، ولكن القوات التي قادها بدرخان بك ومحمد كورد والخيالة الحميدية كانت في غالبيتها من الكورد إن لم يكن كلها في بعض الحالات، ومن قام بالمذابح وتحت لافتة الإسلام في مناطق التي تواجد فيها شعبنا كان بعض جيراننا وجيراننا معروفين بالطبع. الصحيح أن الكورد لم يكونوا يمتلكون حكومة، وكان قرارهم بيد الآخرين ولكن الأيدي الكوردية وعملية تمجيد بدرخان بك وسمكو الشكاكي ومحمد كور باعتقادنا فيها إهانة كبيرة لضحاياهم وهم هنا كل شعبنا وهذا ما لا يمكن قبوله، وفي الجانب الآخر أن هؤلاء الممجدون لم يقدموا أي إضافة للقضية الكوردية غير تلطيخها بدماء الأبرياء. وفي كل ما سبق نحن لا نتهم الشعب ولا الحكومة القائمة في إقليم كوردستان العراق، ولكن من حقنا أن يكون لنا وجهة نظر مفهومة من قبل الإخوة الكورد.
واليوم إذا تمر الذكرى الخامسة والتسعون لبدء المذابح (ابتدأت في المناطق الأرمنية ومن ثم امتدت إلى بقية المناطق) فإن الجميع مطالب بفتح صفحة جديدة لبناء المنطقة، وهذه الصفحة لن تنفتح إلا باعتراف الجناة أو من خلفهم في إدارة المنطقة بما تم بالفعل وليس إعطاء تبريرات لتخفيف الألم والشعور بالمذلة التي يشعرها لحد الآن أبناء الضحايا وكلنا أبناء لهؤلاء الضحايا. إننا كآشوريين نعاني من تهميش دورنا السياسي ومن حق شعبنا في الوجود وفي المشاركة في صناعة قرار بلدنا في كل من تركيا والعراق وسوريا، بحجة كوننا أقلية عددية رغم تمايزنا القومي، ولا يسأل أي واحد من كان سبب تحولنا إلى أقلية. فإذا كان وريث الجاني يعتبر نفسه أكثرية وباسم هذه الأكثرية يريد أن يدير ويفتي ويشرع، وهو يتمتع بهذه الكثرة لان اجداده شاركوا أو كانوا أداة جعلنا أقلية، فلنا أن نتساءل، هل بقاء الآشوريين مهمشين بهذه الصورة في وطنهم بيت نهرين (سوريا والعراق وتركيا) فيه ذرة من العدالة الإنسانية؟ أن كل ما فيه هو تذكيرهم بان من قتلهم لم يستولي على أراضي الضحايا وممتلكاتهم ونساءهم وبناتهم في بعض الأحوال، بل إن ورثتهم يمتهنون كرامة أحفاد الضحايا في تعييريهم بكونهم الأقلية. بالطبع الكلام السابق لا يشمل الإخوة الكورد بل يشمل الأتراك في تركيا والعرب في العراق وسوريا والأذريين في إيران.
صحيح أن الدول لا يبنيها التاريخ، ولكن الأصح أن ما حدث في التاريخ قد يترك دمل وجراح لا تشفى في ظل نكران الجاني ومحاولة تبرير فعلته أو اشتراط اعتراف البعيد والمحتل، لكي يعترف هو؟ أننا بحثنا في التاريخ ليس لنكء الجراح ولكن لتصحيح المسار الخاطئ، ويجب ورغم ضعف الآشوريين الحالي أن يعتقد أحد من الناس أنهم في طور النسيان، بل بالعكس أن الكثير من التصريحات والمواقف الغير المسؤولة تنمي فيهم روح العداء وهذا ما لا نشجعه إلا أنهم بشر وهم يرون أن الأمور تزداد تعقيدا في حالتهم فالخيار الرابح في الغالب هنا هو الخيار المتطرف، وليس الخيار العقلاني الذي يدرك أن أي صراع حتى وإن كان من خلال المناقشات وخلق الحزازيات لن يفيد أحد. إن شعوب المنطقة كلها تعيش وضعا متفجرا، فليس لديها أفق منفتح للمستقبل، ويمكن القول إن أفقها داخل كل شعب هو المزيد من التزمت القومي والديني ومنح مصيرها بيد هذه التوجهات، مما ينعكس على العلاقات في ما بينها. إن المطلوب ليس تجريم الشعوب بالتأكيد، ولكن المطلوب خلق حركة نقدية لتاريخ المنقطة ولتاريخ كل شعب من داخله، فهل يمكننا الاستفادة من المؤرخين الإسرائيليين الجدد؟
من الواضح أن الكورد كمثال لم يعانوا تاريخيا من العرب، سوى في الفترات الأخيرة (أنفال كنموذج صارخ لمحاولة الإبادة، التي قادها النظام الصدامي ضدهم) ، فمعاناتهم الكبرى كانت مع الأتراك، ولكن من الواضح أن العلاقات العربية الكوردية وعلى المستوى الشعبي تكاد أن تكون في الحضيض، ونظرة واحدة للتعليقات المتبادلة في إي نقاش يطرح في منتديات النقاش سترينا ذلك. إن سبب ذلك هو بالتأكيد استلام أطراف متزمتة قوميا وغير متفهمة لمخاوف ومعاناة الآخر، عدى فقدان الحوار والتواصل الموضوعي بين الجهات الفاعلة أن وجدت خارج إطار المصالح السياسية. فنسيان فرنسا لما اقترفته ألمانيا لم يأتي بسلام بين ديغول واديناور، بل شمل حوارا معمقا ونقدا ذاتيا مارسته الأطراف المختلفة، لحين الوصول إلى حالة تعايش سليمة مكنت البلدين من قيادة أوربا إلى وحدتها الحالية. فهل سنرى حركة نقد تاريخية من داخل كل شعب لتاريخه الحديث ولمستوى علاقاته من جيرانه، أم أن كطل شعب سيعتبر نفسه فوق النقد والآخرين هم الشياطين؟