بعد خمسين عاما تقريبا على حادث الإنفصال الوحدوي و نهاية الجمهورية العربية المتحدة التي جمعت إعتبارا من فبراير 1958 وحتى سبتمبر 1961 دولتي مصر و سوريا في دولة واحدة ضمن وحدة إندماجية كانت التجربة الأولى و الأخيرة في تاريخ العرب المعاصر، كان ينبغي على كل من يبحث في شؤون و شجون و أسرار تلك الفترة العصيبة و الحساسة التحلي بالصبر و المنطق و تحكيم العقل و النظر لذلك الحدث بعد إستعراض بانورامي و تاريخي شامل للأحداث و التطورات التي مرت بالعالم العربي منذ ذلك الحين، وهو ما حاول برنامج ( شاهد على العصر ) الذي يبث من على شاشة ( الجزيرة ) القطرية ملامسة آفاقه و حواشيه، فعلى مدى أكثر من شهرين أتيح للإعلام العربي و لأول مرة في التاريخ المعاصر التعرف عن كثب على واحد من القادة العسكريين السوريين الذين أغمط التاريخ حقهم، و من الذين ظل بعيدا عن العيون و الآذان بل أن إسم العقيد الركن ( عبد الكريم النحلاوي ) الذي قاد ورفاقه في أسلحة الجو و البر و البادية في الجيش السوري عملية تصحيح مسار دولة الوحدة التي تحولت بحكم طبائع الأمور إلى عملية إنفصالية ! ظل مقترنا بالخيانة القومية بعد إن إستطاع الإعلام المضلل و الموجه لصالح فكرة معينة و معروفة أن يحرف الوقائع و الأمور و أن يفرض رؤية واحدة و متحيزة للحدث الجلل، و طبعا أثيرت عواصف سياسية و إعلامية عديدة ضد الإعلامي ( أحمد منصور ) و ضد العقيد عبد الكريم النحلاوي و الذي لم تنل من شجاعته و جرأته السنين و ظل مدافعا دفاعا شرسا عن ما فعله و مدافعا أيضا عن الوحدة القومية الحقيقية و ليس عن الوحدة التسلطية التي تحكمها أجهزة المخابرات و يتسلط على إدارتها زمرة من المجرمين و الضباط الجهلاء و تصاغ فيها القرارات وفق وجهة نظر فردية لا علاقة لها أبدا بمصالح الجماهير الحقيقية، المهم أن أحاديث قائد الإنفصال السوري قد أثارت الرأي العام العربي، وقد حاول الإعلامي أحمد منصور توضيح الموقف و تخصيص حلقة خاصة من برنامج ( بلاحدود ) للإجابة على أسئلة الجماهير ووضع العقيد عبد الكريم النحلاوي مباشرة أمام الجماهير للإجابة على الإستفسارات بعد ما يقارب الخمسين عاما على الحدث.. إلا أن ما حصل كان مخجلا فعلا و يؤكد بأن عقلية القطيع و تقديس أصنام الإستبداد لم تزل سيدة الموقف، فقد تعرض النحلاوي و كذلك أحمد منصور لجملة من الإتهامات الظالمة و الروح العدوانية و الإعتراضات الخطابية و تسويق الإتهامات التي هي عبارة عن أكاذيب و تلفيقات كبرى يمكن تسويقها بسهولة، فقد كانت حصيلة برنامج بلاحدود صفرا للأسف بسبب غوغائية بعض المتصلين الذين كان جل همهم ليس الوصول للحقيقة ومحاولة فهم ما حدث من فم أحد صناع الحدث التاريخي وهي فرصة قد لا تتكرر كثيرا بل كانت كل هموهم توزيع الإتهامات و تشويه مواقف الرجل و إعتباره ( خائنا )! بل أن بعض المتصلين لم يتورع أبدا عن السب و الشتم مما أربك البرنامج و أربك المعد و المقدم و الضيف خصوصا و أن الأربعين دقيقة المخصصة لوقت البرنامج لا تكفي أصلا لتوضيح أي شيء فكيف إذا إقترن ضيق الوقت بالغوغائية المفرطة و بسيادة عقلية القطيع و التخوين و التقديس للقادة الراحلين رغم أخطائهم الكارثية و مصائبهم الثقيلة، لقد إستطاع النحلاوي ورفاقه تهديم الجمهورية العربية المتحدة و كانت هشة بالكامل، فهل تمكن الناصريون و البعثيون بعد أن إستلموا السلطة إعتبارا من أوائل عام 1963 في العراق ثم في الشام من تحقيق الوحدة أو إعادة الحياة لدولة الوحدة أم أنهم كرسوا الإنفصال و القطرية و أنهوا للأبد الحلم الوحدوي الذي بقي مجرد شعار و يافطة مرفوعة لكل من حزب البعث الذي إعتبره الهدف الأول من أهدافه و لكنه كان أكبر الأحزاب القومية التي عملت على تخريب الوحدة و إفراغها من مضمونها بل أن القطيعة الكاملة بين فرعي البعث في سوريا و العراق قد أدى لقطيعة إستمرت ربع قرن بين الشعبين السوري و العراقي؟ أما الناصريين فقد تعرضوا لمجزرة على يد البعثيين في العراق كما تم إخصاؤهم في الشام و باتت الوحدة العربية الإندماجية من المستحيلات كالغول و العنقاء و الخل الوفي.. العقيد عبد الكريم النحلاوي لم يرتكب جريمة عظمى أو خيانة قومية كما يحاول البعض حتى اليوم تثبيت ذاك ! بل مارس عملا عسكريا و سياسيا كانت له مبرراته في تلك الظروف خصوصا و أن أهم أعداء الوحدة كانوا وقتها من البعثيين الذين حاولوا أن يكونوا الرقم الصعب في دولة الوحدة و أن يقودوا الشام من خلالها و لكن الزعامة الطاغية لجمال عبد الناصر و طبيعة نظامه الإستخباري القائم على أساس تسليط المباحث و المخابرات على رؤوس العباد إضافة للصراع الداخلي و الخلاف بين عبد الناصر و أهم رجاله من السوريين وهو العقيد عبد الحميد السراج الذي فشل في إدارة صراعه مع المشير عبد الحكيم عامر، لقد كانت جميع الأطراف السياسية في سوريا بما فيهم أقرب المقربين لنظام عبد الناصر يتطلعون للإنفصال الذي كان مطلبا عاما بعد أن تحولت الوحدة لهيمنة إستخبارية و بعد أن عمم النظام الناصري رؤيته الإشتراكية العاطفية و الفاشلة على الإقتصاد السوري المختلف عن الإقتصاد المصري و المتميز بوجود الطبقة البورجوازية الوطنية الصناعية التي نجحت في إدارة المشاريع العملاقة في أميركا اللاتينية بينما دمرتها في الشام إشتراكيات عبد الناصر و البعث الفاشلة؟، كما أن تأميم الصحف السورية و فرض الدكتاتورية الإعلامية كانت من النتائج المرة لتلك الوحدة المستعجلة التي لم تقم على أسس دستورية قوية و لا ضمانات حقيقية بل قامت على أسس عاطفية وهي نفسها بعد نصف قرن التي تحكم بالخيانة على النحلاوي بينما لا تقول شيئا أبدا بحق مؤامرات البعثيين و فشل القوميين في إعادة دولة الوحدة للحياة رغم نهاية أهل الإنفصال ورحيلهم عن مسرح السياسة و القيادو و الإدارة.. لقد فشل البعثيون و القوميون في مباحثات الوحدة الثلاثية في نيسان عام 1963 في القاهرة الإتفاق على أي صيغة وحدوية بعد مفاوضات ماراثونية لم تسفر إلا عن تكريس ليس الإنفصال بل العداء الشديد بين البعث و جمال عبد الناصر؟ فهل كان النحلاوي أو عصاصة او الكزبري لهم تأثير على قادة البعث؟.. بكل تأكيد فإن التاريخ لا يكتب سطوره الرعاع و المؤمنين بنظريات المؤامرة و التخوين و الجهلاء، بل الأحرار و الساعين للإصلاح و في طليعتهم العقيد الركن الشجاع و المؤدب عبد الكريم النحلاوي ورفاقه، نتمنى أن تتاح لذلك الرجل التاريخي الذي ظلمه التاريخ فرصة أخرى و أوسع للتعبير عن رأيه و توضيح ما أغفله و أستعصاه التوضيح، فهجمات الرعاع ليست سوى حشرجات لاقيمة لها و لا وزن أمام عظمة التاريخ و أحكامه القاسية التي لا تعرف المجاملة، لقد كان الإنفصال السوري المصري ضرورة حتمية في ظل الدكتاتورية و الإستبداد، فالوحدة القومية لا قيمة حقيقية لها و لا ضمان لنجاحها مع إغفال و إحتقار الديمقراطية،لقد رحل قادة أحداث 28 أيلول و تفرقت بهم السبل و لكن خلفائهم من البعثيين و القوميين لم يفشلوا في تحقيق إعادة الوحدة بل دمروا الأوطان وكانوا عونا للصهاينة في إحتلال الجولان وحتى العراق باسره بعد عقود... نكرر الغوغائيون و المتخشبون و عبدة الأصنام لن يكتبوا التاريخ أبدا.. بل الرجال هم من يفعل ذلك وهم من طراز العقيد الركن عبد الكريم النحلاوي....

[email protected]