حتى بدايات القرن العشرين،كانت تركيا العثمانية حاضنة لأكبر تجمع مسيحي في المشرق(نحو3 مليون).اليوم لا يتجاوز عددهم 2% من نسبة سكانها البالغ أكثر من 70 مليون نسمة.هذا التراجع الكبير في تعداد المسيحيين يعود بشكل أساسي الى تعرضهم لسلسة مذابح جماعية وعمليات تهجير قسرية على يد الجيش العثماني. أعنفها كانت في ربيع وصيف عام 1915،حيث قتل أكثر من مليون أرمني،ونحو نصف مليون من الآشوريين(سريان/كلدان) وعشرات الآلاف من الروم اليونانيين.نُفذت هذه quot;الجرائم الانسانيةquot; بتخطيط وتدبير من حركةquot;الاتحاد والترقيquot;، التي أطاحت بالسلطان (عبد الحميد) عام 1908،وتميزت بأفكارها العنصرية القائمة علىquot;أن لا يبقى في تركيا سوى الأتراكquot;.ولأجل تحقيق هذا المشروع الشوفيني، قرر قادة هذه الحركة الطورانية التخلص من الأقليات المسيحية،التي وصفوها بـ(الأعشاب الضارة)،وتتريك الأقليات المسلمة، كالأكراد والعرب، واذابتهم في القومية التركية.سعى الأتراك الى التعتيم التام على جرائم اسلافهم العثمانيون ومحوها من ذاكرة التاريخ، لكنهم أخفقوا بفضل تصميم الأرمن على تحريك قضية المذابح على الساحة الدولية وطرحها كقضية انسانية على الضمير العالمي،من جهة أولى.وبفضل ما تحفظه سجلات التاريخ من شهادات موثقة لعديد من المؤرخين والباحثين والدبلوماسيين، الذين واكبوا أحداث تلك المذابح المروعة. منهم المؤرخ البريطاني المعروف (أرنولد توينبي) الذي يقول في مذكراته:quot;لم يكن المخطط يهدف إلا إلى إبادة السكان المسيحيين الذين يعيشون داخل الحدود العثمانيةquot;. ويقول،هنري مورغنطاو (لسفير الأمريكي في تركيا ما بين 11913 ndash; 1916) في كتابه (قتل أمة): quot;في ربيع عام 1914وضع الأتراك خطتهم لإبادة الشعب الأرمني... وقد دفع التعصب الديني عند الغوغاء والرعاع الأتراك ومن معهم من الأكراد لذبح معظم الأمم المسيحية التابعة لهم الى جانب الأرمنquot;.
نجحت النخب الأرمنية، أو ما يعرف بـquot;اللوبي الأرمنيquot;، في دول المهجر الأوربي والأمريكي في كسب تعاطف المجتمع الدولي مع قضيتهم وإقناع حتى الآن أكثر من عشرين دولة للاعتراف بـquot;المذبحة الأرمنيةquot;.وفي السنوات الأخيرة، تمكنت quot;المنظمات الآشوريةquot; في دول المهجر والشتات من فتح ملف مذابح الآشوريين(سريان/كلدان) ونقل قضيتهم المنسية الى العديد من البرلمانات الأوربية، الى جانب القضية الأرمنية،فضلاً عن اقرار العديد من المنظمات والهيئات الدولية بأن ما حصل لمسيحيي السلطنة العثمانية من مذابح أعوام ( 1915 ndash; 1918 ) هو quot;إبادة جماعيةquot;.لهذا،في كل عام مع اقتراب الذكرى السنوية( 24 نيسان ) لـquot;الهولوكست المسيحيquot; ترتفع quot;حُمىquot; الدولة التركية خوفاً من انضمام دول جديدة الى قائمة المعترفين بـquot;الهولوكوستquot;.وعشية ذكرى المذبحة هذا العام، تعاظمت مخاوف قادة وزعماء تركيا الاسلامية من شبح الهولوكوست المسيحي الذي يلاحقهم حيثما توجهوا.فبعد أسبوع واحد من اقرار quot;لجنة العلاقات الخارجيةquot; في مجلس النواب الأمريكي بالابادة الارمنية- يدعو القرار( ليست له صفة القانون) الرئيس الاميركي الى استخدام كلمة quot;الابادةquot; لوصف quot;التصفية المنهجية والمتعمدة لمليون ونصف مليون ارمني في عهد السلطنة العثمانية بين 1915 و1923- صُدمت تركيا،حكومة وشعباً، بتبني برلمان quot;مملكة السويدquot; مشروع قرار يصف ما حصل للأرمن والأقليات المسيحية الأخرى بـquot;الابادة الجماعيةquot;، بعد جلسة طويلة وشاقة عقدها في 11آذار الماضي شهدت نقاشات حامية بين الإتلاف اليميني الحاكم والمعارضة اليسارية التي تقدمت بمشروع القرار الذي أقر بفارق صوت واحد،وينص علىquot;ان السويد تعترف بابادة،عام 1915،الأرمن والآشوريين والسريان والكلدانيين واليونان الذين كانوا مقيمين في اراضي السلطنة العثمانيةquot;.ومن المقرر أن يناقش quot;مجلس العموم البريطانيquot; نهاية نيسان الجاري مشروع قرار مماثل يتعلق بالمذبحة الأرمنية.
بلا ريب،أن الثقل السياسي لدولة السويد لا يقارن بما للدول الأوربية الأخرى التي سبقتها في الاعتراف بالمذبحة، مثل فرنسا وألمانيا وايطاليا.لكن،ورغم تأكيد وزير الخارجية السويدي على أن نهج حكومته المؤيدة لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي quot;لم يتغيرquot; ولن يتأثر بقرار البرلمان، شكل القرار السويدي صدمة سياسية كبيرة للأتراك و رفع quot;حُمىquot; الدولة التركية من الهولوكوست المسيحي وضاعف مخاوفها من شبح المذبحة،وذلك لأسباب عديدة منها،أولاً:باعتبار السويد من الدول الصديقة لتركيا وتربطها معها علاقات سياسية وتجارية قوية وهي بالفعل من الدول الأوربية المتحمسة لدخول تركيا الى الاتحاد الأوربي.ثانياً:كون القرار السويدي لم يقتصر على ذكر quot;ابادة الأرمنquot; فحسب،كما كان الحال مع قرارات برلمانات الدول الأخرى، وانما أقر أيضاً بأن المذابح وعمليات الابادة طالت أقليات مسيحية واثنية أخرى،مثل الآشوريين(سريان/كلدان) واليونان.ثالثاً:الصفعة السويدية جاءت بعد نجاح الحكومة التركية، بزعامة حزب العدالة والتنمية الاسلامي،في تطبيع العلاقات بين تركيا و جمهورية أرمينيا،صاحبة القضية والمعنية الأولى بالمذابح،وتوقيع اتفاق تاريخي معها تضمن تشكيل لجنة مستقلة من المؤرخين والباحثين لدراسة الأحداث والظروف التي أحاطت بمذابح الأرمن.
ما أراده الأتراك من هذا الاتفاق والتطبيع مع أرمينيا، هو اغلاق باب الاعتراف الدولي بالمذبحة الأرمنية وإبعاد عنهم كابوس quot;كرسي الاعترافquot; بالهولوكوست المسيحي.فمن دون شك، تركيا تدرك جيداً ما يترتب على هذا الاعتراف من ثمن باهظ، سياسي ومادي.بدءاً من مطالبة أرمينيا بالولايات الأرمنية السبع التي تحتلها الدولة التركية، كانت السلطنة العثمانية قد قتلت وهجرت سكانها الأرمن إبان الحرب العالمية الأولى.ومن قيام المجتمع الدولي بإلزامها بدفع تعويضات مالية كبيرة للأرمن ولبقية الأقوام المسيحية التي طالتها المذابح.مثلما أُلزمت ألمانيا بدفع مليارات الدولارات لإسرائيل تعويضاً عن quot;الهولوكست اليهوديquot; الذي حصل إبان الحكم النازي اثناء الحرب العالمية الثانية.
وليس سراً، بأن تقرب الحكومات التركية من quot;دولة اسرائيلquot; وعقد معها اتفاقات أمنية وعسكرية وتجارية، كان الهدف الأساسي منه هو دفع اسرائيل للتحرك على الساحة الدولية واستخدام نفوذها لدى الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوربية للتخفيف من ضغوطها على الدولة التركية وإبعاد عنها شبح الاعتراف بالهولوكوست المسيحي.لكن يبدو أن رياح العالم الحر تجري بما لا تشتهي سفن الدولة التركية.وبات الأتراك على يقين تام بأن لا مناص من الاعتراف بالمذبحة عاجلاً أم آجلاً وتحمل مسؤولياتهم القانونية والأخلاقية عن خطايا وجرائم اسلافهم العثمانيون،خاصة إذا ما أصروا (الأتراك)على الدخول الى quot;الفردوس الأوربيquot;.لهذا،ثمة تبدل ايجابي نسبي طرأ على الخطاب التركي الرسمي والنخبوي فيما يخص quot;القضية الأرمنيةquot; وبدأت حكومة حزب العدالة والتنمية الاسلامي تنفتح، وان بحذر شديد، على هذه القضية المعقدة والشائكة والبحث عن ذرائع ومبررات سياسية وأمنية لوقوع المذابح لتخفف من مسؤوليات الدولة التركية عنها.لا ننفي استغلال الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوربية عموماً قضية المذابح لابتزاز تركيا سياسياً وفرض مزيد من الشروط عليها فيما يخص تحسين أوضاع حقوق الانسان والحريات الديمقراطية وحقوق الأقليات الاثنية والدينية داخل تركيا، مثل الأكراد والأرمن والآشوريين(السريان)،كذلك للتأثير على الموقف التركي من الأزمة القبرصية، حيث يحتل الجيش التركي منذ عام 1974 النصف الشمالي من الجزيرة.لكن هذا لا يقلل من أهمية الضغوط الدولية لإرغام تركيا على الاعتراف بالمذابح وإنصاف الأرمن والشعوب المسيحية الأخرى التي طالتها عمليات الابادة.
في اطار تطور الموقف الدولي من quot;المذبحة الأرمنيةquot;،من المؤسف حقاً أن الموقف العربي والاسلامي، على المستوى الرسمي والنخبوي والشعبي، مازال يتراوح بين النكران والتجاهل والتبرير للمذابح.فباستثناءquot;لبنانquot; المتميز بنظامه السياسي وبثقل الأرمن فيه،لم تعترف حتى الآن أي من الدول العربية والإسلامية بالمذبحة الأرمنية،في حين سارع معظمها الى إدانة المذابح بحق مسلمي كوسوفو والبوسنة والهرسك وطالبت بإحالة المسئولين عنها من الصرب الى محكمة الجنايات الدولية.كان من المفترض أن تبادر الدول المحيطة بتركيا(سوريا، العراق، ايران)الى الاعتراف بالهولوكوست المسيحي، كونها احتضنت قوافل المسيحيين الهاربين من ويلات المذابح،فهذه الدول تعتبر بمثابة شاهد على جرائم السلطنة العثمانية بحق هؤلاء المسيحيين العزل. لكن يبدو أن quot;العقدة الاسلاميةquot; مازالت تشكل العقبة الأساسية التي تحول دون اعتراف دول ومنظمات وهيئات العالم العربي و الاسلامي بـquot;الهولوكوست المسيحيquot;، الذي حصل إبان الحكم العثماني عام 1915.طبعاً،أن المواقف والسياسات الغير مبدئية، التي تنتهجها الدول العربية والاسلامية تجاه القضايا الانسانية وحقوق الشعوب المقهورة، تثير الكثير من الشكوك حول مصداقية هذه الدول ويضعف موقفها أمام المجتمع الدولي والعالم عندما تطالبه بنصرة قضايا العرب والمسلمين.
سوريا
مهتم بقضايا الأقليات
[email protected]
التعليقات