المسألة ليست بحاجة لكل ذلك النبش والتحرِّي التاريخي، إذما أراد المرء أن يعرف حقيقة أنّ كل الانقلابات العسكريَّة التي حدثت في مصر وسورية والعراق، وأوصلت النظام الناصري في القاهرة، والبعثي في بغداد ودمشق للحكم، كانت بدعم أو تغذية أو تغطية من الخارج، بشكل مباشر أو بغيره، سواء أكان هذا الخارج، أمريكي أو سوفياتي سابق. ولن يحتاج الأمر من المرء الكثير من التحرّي لإثبات أن بقاء النظم المشار إليها، في الحكم، وديمومة دواليبها التوتاليتاريَّة في هرس الدولة، وهرش خيراتها، وسحق كرامة ونفسيَّة المجتمع والمواطن، أيضاً كان بدعم خارجي. وإذا لم يكن الاستبداد والطغيان الوطني في الدول الشرق أوسطيَّة لا يعيب على نفسه مصادرة الدولة وإتلاف المجتمع، وتعطيل الدستور بفرض حالات الطوارئ والأحكام العرفيَّة والمحاكم الاستثنائيَّة، والانقضاض على المواطن ومحاصرته، ومصادرة حريَّته وتدمير كلّ ما يمتّ بالحيوات الديمقراطيَّة المجتمعيَّة بآصرة، وتوسيع السجون، وتنويع المساجين وصنوف التعذيب والترهيب...الخ، ممارسة كل ذلك، بمعيَّة التغطية والتغذية الخارجيَّة، فلماذا تعيب المعارضة على نفسها إحداث تغيير في النظم التوتاليتاريَّة والاستبداديَّة بدعم من الخارج، بحجَّة الولاء والانتماء الوطني والشرف الوطني...الخ!؟. وإذا كانت النظم الشموليَّة الشرق أوسطيَّة، ترفض فتح قنوات حوار مع معارضاتها، والتهمة الجاهرة دوماً هي: التخابر مع الخارج، والعمالة للأجنبي، والخيانة...الخ، فلماذا لا تنفتح على المعارضة في الداخل، التي ترفض أيَّة علاقة مع الخارج؟!. والسؤال المطروح هنا أيضاً: هل كانت بالإمكان زحزحة الطغيان والاستبداد العثماني لولا الاستنجاد بالدعم الانكليزي؟!. وهل كان بالإمكان زحزحة النظام العراقي السابق، وبقيَّة آل بيت المجيد والعشيرة والطائفة من على سدّة الحكم في بغداد، لولا الدعم والاحتلال الأمريكي؟!. لو استمرّت المعارضات العربيَّة، الشيعيَّة والسنيَّة، والقوميَّة الكرديَّة بالنضال السلمي والعسكري لـ35 سنة أخرى، ضدّ نظام صدّام، هل كان بالإمكان لهذا النظام أن يسقط، لولا الدعم الخارجي لتلك المعارضة؟!. وعليه، أيَّة عاصفة وطنيَّة معارضة في العراق، كان بإمكانها اقتلاع وثن صدَّام من ساحة الفرودس، وسط بغداد، لولا الدبابة الامريكيَّة؟!. وفي الحال السوريَّة، هل يمكن أن نجازف بالحديث عن وجود معارضة، بكل ما للكلمة من دلالة مجتمعيَّة وسياسيَّة؟!. أعتقد أن ما هو موجود في واقع الحال، هو وجود معارضين، لم يأتلفوا تحت سقف معيّن، هدفه الوصول للسلطة. ومسألة التجمّعات العربيّة والكرديّة (أعلان دمشق، المجلس السياسي، التحالف الجبهة، لجنة التنسيق)، كلّها أصبحت طواحين، نسمع جعجعتها ولا نرى طحينها. وإذا سقط بند الوصول للسلطة من أجندة أيّ تيار سياسي، كيف يمكن لنا أن نسمّيه معارضة!؟. كل ما هو موجود في سورية، من تيارات إسلاميَّة، راديكاليّة أو معتدلة، ومن تيارات قوميَّة، عربيّة أو كرديَّة، لا تذكر في أدبياتها وبياناتها وتصريحاتها أنّ هدفها ليس الوصول للسلطة، ضمن اللعبة الديمقراطيَّة التي تبتغي إنجازها!. كل ما هو موجود، يسعى إلى إقناع السلطة الحاليَّة بضرورة إلغاء أدواتها الاستبداديَّة، وإطلاق الحريّات العامّة، مع بقاء النظام الحالي على سدّة الحكم. لكن، أيّ نظام السياسي هو بأدواته. ويستحيل لنظام شمولي أن يجرِّد نفسه من أسلحته القمعيَّة لصالح تحقيق مطاليب وطنيَّة ديمقراطيَّة، سقفها؛ إحلال التنميَّة السياسيَّة والمجتمعيَّة وفكّ الحصار عن المجتمع والتخفيف من خنقه، محلّ ذهنيَّة الأمن وثقافة أذرعه في تسيير شؤون العباد والبلاد. وعليه، إذا سقط خيار الوصول للسلطة من أجندة أيَّة معارضة، تسقط معها صفة المعارضة عنها، أو أقلَّه، قسط كبير منها. وبالتالي، تغدو المعارضة خزَّان احيتاط للسلطة الاستبداديَّة، أكثر من أن تكون ديناميزمات فاعلة ونشطة، ضاغطة على النظم الاستبداديَّة كي تنحو نحو التغيير والإصلاح التلقائي الطوعي، الواعي والمدرك لأهميَّة التحوّل الديمقراطي في حياة الدول والمجتمعات. في الحال السوريّة، ورغم تعرّض، ما يمكن تسميته بالمعارضة، مجازاً، لكلّ هذا السحق والقمع والترهيب، لا زالت هذه quot;المعارضةquot; تبحث عن تسويات ومساومات مع قامعها وساحقها، والتغنِّي بأوهام التغيير الوطني من الداخل!. ولقد نجح النظام في سورية، أيَّما نجاح، في تطويع وتمييع هذه quot;المعارضةquot;، لدرجة أن الأخيرة، باتت تبحث، بشكل حثيث، عن قنوات اتصال خارجي مع النظام السوري، وليس العكس. الأخوان المسلمون نموذجاً، تارةً عبر الإخوان المسلمين في الأردن، وتارةً عبر حزب quot;العدالة والتنميةquot; التركي. أمَّا الاحزاب الكرديَّة في سورية، فلا تكاد أن تلمح ثغرة، أو بارقة، من أيّ باب أمني في سورية، حتّى تتهافت عليه، بغية إثبات وطنيَّتها، وكأنَّ هذه المعارضة، بحاجة إلى صكوك غفران، أو شهادات حسن سلوك وطني، من النظام الذي من المفترض بأنّها تعارضه!. ورغم كل ما يُقال على أن المجتمع الكردي أكثر تسييساً وتنظيماً من المجتمع العربي في سورية، إلاّ أن الأحزاب الكرديّة، فيها قدرٌ كبيرٌ من البلاء والعطب الذي يجعل المجتمع الكردي محلّ استهداف الآلة الأمنيّة السوريّة بمنتهى الوحشيّة. ولعلّ أبرز أسباب تخلّف الحراك السياسي الكرديّ، هو نوعيّة الطبقة السياسيّة التي يفترض أنّها تدير المشهد الكردي من حسن إلى أحسن، نجدها تنزلق به من سيّئ إلى أسوأ. وكفى دليلاً على ذلك، خيبة الأمل التي انجزتها هذه الأحزاب، عبر انسحابها من تظاهرة quot;كفى صمتاًquot; التي اقترحتها إحدى أعضاء منظمة العفو الدوليّة، وتبنّتها الأخيرة!. والحقّ أن العُذر الذي قدّمته هذه الاحزاب الكرديّة، كان أوقح من ذنب الانسحاب من التظاهرة!. وينمّ ذلك العذر عن جهل سياسي وقصور وطني، ويؤكّد للاحزاب والمعارضين العرب السوريين، وبخاصّة، الشرائح المنزلقة نحو الشوفينيّة منها، ألاّ شريك كردي وطني معهم، رغم أن المبادرة لم تكن مبادرة هذه القوى والشخصيّات!. هذه المناسبة الوطنيّة، والتغطية والرعايّة الدوليّة لها، كانت على الأحزاب الكرديّة أن تستثمرها سياسيّاً وإعلاميّاً، أيّما استثمار، تأكيداً على تمين وتوثيق عرى النضال الوطني الديمقراطي السلمي، بين الشرائح والجهات المعارضة التي تضمّ الاكراد والعرب معاً، وصولاً لتوسيع دائرة النضال. إلاّ أن الأحزاب الكرديّة، أضافت رقماً جديداً إلى سجلّها الحافل بالفشل. وتركت فراغاً يمكن أن يستفيد منه البعض من أعداء حقوق الشعب الكرديّ، في السلطة وquot;المعارضةquot;. لكن حين نراجع سلوك وذهنية قادة الأحزاب الكرديّة، نجد عجب العجاب. وبالتالي، لا نستغرب هذا الفشل والاحباط وخيبة الأمل تلك. وعلى سبيل الذكر لا الحصر، السكرتير الجديد، لأحد الأحزاب الكرديّة، أرسل رسالة جماعيّة، حشر فيها عشرات الايميلات، وخلط quot;عبّاس بدبّاسquot;، ووضع ايميل بان كي_مون الى جانب ايميل أبو نسرين، إلى جانب ايميل شركة نوكيا للهاتف النقّال...الى جانب ايميلات السفارات والمسؤولين في السفارة الامريكيّة والبريطانيّة والسفارات والأوروبيّة...الخ، يزّف للمرسل أجمعين بشرى تولّيه سكرتارتيّة حزبه العتيد!!؟. فتصوّروا يا رعاكم الله!. هذا القيادي، لا يعرف حتّى آداب المراسلة لجهة ترتيب وتصنيف مقامات المرسل لهم. ولا يوجد في حزبه من يدلّه على ذلك!؟. لماذا لم يقل لنفسه: لأجمع الجهات السياسيّة الدوليّة على حدى، والجهات الكرديّة على حدى، والجهات الكرديّة على حدى، كان أجدى وأفضل، لأزفّ لهم خبر اعتلائي منصبي. أو أقلّه، أخفي الايميلات عن بعضها، عبر تقنيّة quot;BCcquot;. والحال هذه، هذا القيادي، ومثله الكثير، يرفض التواصل مع الخارج، وسفارات الدول الأجنبيّة، ثمّ تجده يرسل ايميله للسفارة الامريكيّة والبريطانيّة...! ثمّ الانكى، ما علاقة شركة نوكيا بتوّليه سكرتاريّة حزبه الفخم!؟. بالفعل، هكذا حزب، يلزمه هذا سكرتير!. وحراك يقوده أناس من هذا الطينة، هو جزء من المعارضة السوريّة، بالفعل، ستغيّر النظام من الداخل!. قيادات الحراك الكرديّ السوريّ، صارت محلّ تندّر وأسف وشفقة. لا يعرفون توجيه الايميلات، ويستفسرون عن الاجندات غير الواضحة لأحزاب أخرى!؟. هذا ليس استهداف لشخص فلان، بل استهداف مباشر لجهله في إدارة شؤونه. من لا يعرف كيف يتدبّر مسألة إرسال ايميل، لن يعرف كيف ستبّدر شؤون حزب. هذا، إذا كان هو فعلاً من يدير الحزب، وليس مطيّة أو واجهة وديكور. فما أكثر الواجهات التي مرّت على هذا الحزب، وارتضت ان تكون قناع الزعيم!؟. فإذا كان حَمَلَة القضيّة الكرديّة من هذا الصنف، فألف رحمة على القضيّة، وطوبى للنظام السوري، بهكذا معارضين!. وبالعودة لصلب الموضوع، لم يحقق العرب وغيرهم، إيّ انتصار، ما لم يكن يحظى بدعم خارجي. ولم تحقق النظم الاستبداديَّة أيَّ شكل من أشكال الديمومة ما لم يكن يحظى بشكل من أشكال الدعم أو الصمت الخارجي. والصمت في هذه الأحوال، هو دعم. ثمّة مقولة رائجة في خطابات المعارضين السوريين، وهي: كلّما ازداد العالم انتفاحه على النظام، ازداد الأخير شراسة في قمع المواطنين، وبخاصَّة ذوي الاتجاهات المطلبيَّة الديمقراطيَّة الوطنيَّة!. وكلَّما ازداد الضغط الخارجي على النظام، تخفّ قضبة النظام من على خناق المجتمع وبعض حراكاته الخجولة. وهذه المقولة، تنطوي على نسبة عاليّة الصدق والدقَّة. وبالاستناد عليها، لماذا لا تراجع المعارضة السوريَّة خياراتها في التعاطي مع الخارج؟!. أو لتعترف بأنّ كل مساعيها لإقناع الخارج لدعم مطالبها في الداخل، قد باءت بالفشل، وأنّ النظام قد نجح في سدّ الداخل والخارج أمام المعارضة السوريَّة. وعليه، عن أيَّة معارضة، يمكن أن نتحدّث إذا كانت مشلولة وعازجة عن تحريك الداخل، إو إقناع الخارج؟. كاتب كردي سوري
من خلال كلامها، المعارضة السوريّة تحلف أغزر وأعظم الأيمان بأنّها تنأى بنفسها عن أيّ تواصل أو دعم خارجي ضدّ السلطة. والنظام لا يحسب أيّ حساب لأكثر المعارضات وطنيَّةً واعتدالاً، ولا يحسب أيّ حساب لقمعه الذي يحظى بدعم أو صمت خارجي، للمعارضة. ولذا، ستبقى المعارضة على حال بؤسها، وبل إلى الأسوأ. وستبقى السلطة على حال استبدادها، وبل إلى الأسوأ.
الكثير من النخب العربيَّة، التي تحشر نفسها في خانة المعارضات للاستبداد، تتباهى بكلامها عن رفضها للمجيء على متن الدبابة الأجنبيَّة، كما حدث في العراق، في مسعى تبرير الفشل والعجز الداخلي. لكن، تلك النخب، ومن شايعها، تتناسى، والحال هذه، بأنَّها متورِّطة في ديمومة الاستبداد على رقاب شعوبها. تتناسى بأنَّها قد غدت نسقاً يخدم صيرورة الاستبداد، من حيث لا يحتسب. وتتناسى بأنَّ هذه الذهنيَّة، هي التي تدفع بالمجتمع نحو الانزلاق إلى المزيد من الشلل والعطب والعطالة الوطنيَّة، إلى أن يغدو المجتمع ضحيَّة الاستبداد ووقوده. وبالتالي، لن تتخلّى السلطة الاستبداديَّة عن عاداتها وطبائعها، ما لم تتخلَّ المعارضة عن عاداتها وطبائعها.
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات