على ضوء التحرك الأخير لهيئة المساءلة و العدالة

قبل أن يتحدث السيد علي الدباغ عن هيئة العدالة والمساواة طالبا باسم حكومته إعادة النظر بعمل الهيئة كنت مع جمع من عراقي الغربة الذين اعتادوا الجلوس يوميا لمناقشة الوضع العراقي وكأنهم لا يملكون حديثا غيره.


قراءة سريعة للوضع وأبجدية توزيع القوى تأخذك بشكل نمطي إلى وضعها في خانات رئيسة رغم تعدد الائتلافات على الجهة الواحدة. لكني كنت ممن يرون إن الانتخابات الأخيرة قد غيرت من هذه النمطية، وإن أولئك الذين يمارسون قراءة ما تحت السطح السياسي بقليل يستطيعون رؤية إن الصورة باتت غير متطابقة لما قد تبدو فوقه، ففي الجانب الشيعي كان ينبغي معرفة إن من انتخب المالكي قد نأى بدرجة معينة عن المحورة الطائفية التي كانت قد فَعّلتها ظروف السنوات السابقة للانتخابات، ولم يكن المالكي نفسه، الذي كان جزءا من معادلة المحاصصة بعيدا عن معادلة التأثر والتأثير، ففي فترة حكمه بدأ المالكي يدرك إن المعادلة التي جاءت به إلى الحكم أرادت منه أن يكون خيال مآته وليس رئيسا بلحم ودم، وإن برنامجها ذاته هو نقيض لبرنامج بناء الدولة الوطنية وإعادة تفعيل وحدة العراقيين، وإن هذا البرنامج يصب بالضرورة لصالح قوى يهمها أن تبقى الدولة العراقية في حدود ما رسمته اتفاقات سابقة لم تبقي من الدولة إلا الاسم.


بهذا صار حكما على المالكي أن يختار، ولم يبدو إن الرجل قد تردد أو إنه تأخر في إعلان اختياره، وبتصريحات من نوع حتمية الخروج من الأغلبية الطائفية إلى أغلبية البرنامج السياسي سار المالكي بعيدا عن حلفائه السياسيين السابقين الذين أتوا به إلى السلطة، وبدأت تكوين الدولة يبتعد عن بنيتها السابقة وكان ذلك إيذانا بقرب ولادة تحالفات سياسية من شأنها أن تعبر عن تكوين بنيوي عراقي جديد كان المالكي قد ساهم بشكل رئيس في بنائه بعد أن بدأ يبتعد عن معادلات وقوى اللادولة.


على الجانب السني لم يستطع سطح المرحلة الشفاف أن يمنع رؤية ما يجري تحته، لقد كانت المتغيرات وما تنتجه من تداعيات متناغمة قد قامت بترتيب أمورها السياسية على السطح مباشرة، خاصة وإن هذا الجانب بدى أكثر دينامكية وأكثر استجابة للمتغيرات بحكم إنه الجانب الأكثر استهدافا للتغير، فبعد أن كان تم تصنيفه، على الأقل عموديا، على النظام السابق، فإن احتضان سياسيه للصدامين وأنصار القاعدة ومشاركته في صنع مرحلة العنف السابقة وما جابهها من تواصلات على الجانب المقابل سرعان ما أحدث انقلابا حقيقا سواء على صعيد ترتيب وشعبية قواه المشاركة أو القريبة من العملية السياسية، أو على صعيد الالتحاق السابق لمعارضيه بالقوة الأشد رفضا للعملية السياسية، وخلال هذه الفورة البركانية فإن الحمم والأبخرة المتصاعدة من فوهة هذا المكان كانت قد حملت إلى السطح قوى غادرت فوهته لكي تقترب من شوارع ومدن جنوبية ووسطى تلك التي انتظرت بدورها أن تبرد هذه السيول لكي يجري استقبالها كجزء من الطوبو بولوغرافيا العراقية الجديدة، وفي فترة قصيرة جدا ظهرت تنظيمات الصحوة التي كان لها الفضل الأكبر في مطاردة تنظيم القاعدة ونبذ العنف المضاد للعملية الديمقراطية كما غادرت فوهة البركان قبائل كانت إلى حد الأمس القريب تقاتل أو تتعاطف مع تنظيمات القاعدة وتحالفاتها الإجرامية.


مرحلة ما بعد الانتخابات مباشرة كان يمكن قراءتها بعينين مختلفتين، الأولى مقيدة بمعطيات المرحلة السابقة وراغبة تماما في استمرار معادلتها السياسية، ومعنى ذلك استمرار نظام المحاصصة الطائفية والقومية كما كان. والثانية خلقتها معطيات المراحل الأخيرة بما فيها من تطورات على الجانب الشيعي بقيادة المالكي مع امتدادات وطنية له في الجسم السني، وأخرى كانت جرت على الجانب السني مع امتدادات وطنية واضحة لها على في الجسم الشيعي.


بالعين المجردة صار يمكن رؤية ( دلتا ) أوجدها هذا التداخل الذي أفرزه جريان النهرين، السني والشيعي، في مناطق متقاربة وأخرى متلاصقة، وصارت المرحلة الجديدة في مواجهة وأمام حتمية التعامل مع هذه الدلتا الوطنية التي صار أطرافها المالكي وما يمثله على جانب وعلاوي وما يمثله على الجانب الآخر، وعلى الجانبين، من الرجلين ومن دلتاهما المشتركة، باتت تتوزع القوى السياسية وفق ترتيب مضغوط بالعديد من العوامل الداخلية والخارجية.


كل المحاولات تركزت في المرحلة الأولى على رؤى لا ترى هذه الدلتا ولا تعترف بها أو تهاب المرور في منعطفاتها لأنها لم تكن تملك بعد قوارب الرحلة في مياه السهل الخصوبي الجديد، وفي نفس الوقت كانت هناك قوى إقليمية ليس في صالحها هذه التكون الطوبوغرافي لذلك لا بد وأن إتجه عملها لهدمه وردمه.


والآن لنعد إلى جلسة الإغتراب التي كنت قد اشرت إليها في بداية المقالة. القراءة على السطح للموقف الأخير لهيئة العدالة والمساواة كان تحسب بشكل مباشر وكأنما قد تم ذلك الموقف بدفع من المالكي ومن دولة القانون، لاحظوا معي الآن كيف إن قراءة غير معومة بمعطيات مرحلة واحدة بإمكانها أن تساعد على التركيز. لقد كان المالكي هو من تزعم عمليا تحريك هيئة العدالة والمساواة بالاتجاه الذي يعطيه قدرة تحجيم خصمه المتمثل بالعراقية وأصاب مأربه ذاك من خلال إبعاد المطلك ومعه ناشطون آخرون في تجمع علاوي.
في ذات الوقت كان المالكي يأمل أيضا أن يفوز بقدر كبير من الأصوات يخوله لأن يكون القوة المقررة على صعيد إدارة التحالفات على الجانبين وخاصة على الجانب الشيعي، لكن ذلك لم يحدث بالشكل الذي تمناه وإن كان الرقم الذي حصل عليه قد كشف عن حجم موقعه الزعامي، لكن محاصرة هذا الموقع بالذات قد اصبحت أكثر من مطلوبة على الجانب ( الشيعي ) لأخذ زمام المبادرة من المالكي.


الآن أصبحت أمامنا ثلاثة مساحات، الأولى مساحة التحالفات السابقة التي تضم الائتلافات الشيعية الكردية والثانية المساحة التي تواجهها والتي كانت تضم التحالفات السنية السابقة التي بدأ انهيارها يسير بوتائر متسارعة كنتيجة متناغمة مع حدة وسعة وديناميكية التغيير على هذا الجانب، في الوسط من بدأت المساحة الجديدة تتكون وهي عبارة عن ( دلتا وطنية ) كان قد كونها خروج الأنهار في الجانبين عن مجاريها السابقة واقترابها من بعض لتكوين هذه الأرض الخصبة المشتركة.


إن مستقبل العراق الجديد سيجري صناعته في هذه الدلتا الخصبة: على أطرافها سوف تكون هناك قوى من الجانبين تسعى حثيثا لردمها، وفي المساحة القريبة من مركز هذه الدلتا هناك قوى دولة القانون تتحرك على جانب وقوى العراقية تتحرك على الجانب الآخر القريب.


ومن أجل منع الالتحام بين نهرين عراقيين بانت مياههما تصفى بلفتر الوطنية لخلق دلتا عراقية خصبة هناك قوى من مصلحتها أن يكون خط التالوك الطائفي بائنا عريضا ومشرعا بقوانين راسخة.


ومن المهم للمراهنين كثيرا على إمكانية أن تخلق هذه الدلتا عراقنا الجديد أن يفهموا إنه في مساحة ذلك التالوك الطائفي فإن كثيرا من الخطوات التي توجه في ظاهرها ضد علاوي هي في حقيقتها ضد المالكي أو ضدهما معا في نفس الوقت، ولذلك جاء سؤالي في تلك الجلسة العجائزية الاغترابية وهو يبحث عن إجابة له في تلك الدلتا: لماذا لا نفهم إن تحرك هيئة العدالة والمساواة وهو يستهدف علاوي على السطح يستهدف المالكي تحت السطح مباشرة، من حقيقة أنه يستهدف ردم تلك الدلتا أولا وسد الطرق على المالكي لكي لا يسبح في مياهها ولكي يعود من حيث جاء على الجرف الآخر من خط التالوك.


إن هذه الرؤيا توجب على الرجلين أن يتحسسا وقع أقدامهما وحساب المشترك بينهما وإدراك إن كل خطوة تستهدف أحدهما على ذلك الخط تستهدف الثاني في نفس الوقت، وإن بعض الخطوات قد تجري تحت اليافطة المعادية لعلاوي ولكنها في الحقيقة تستهدف المالكي قبله، وفي النتيجة فإنها تستهدف ردم الدلتا العراقية التي حققها اقتراب النهرين العراقيين الرائعين من بعضهما البعض، ومن الحق أن نقول إن كلا الرجلين كان لهما دورا مشهودا في تكوين تلك الدلتا الوطنية الخصبة ومن الحق عليهما أن يحسنا زرعها.
ومعنى ذلك:
إن الثقافة العراقية الجديدة بانت من الوضوح بما يشجع على التفاؤل، ففي مساحة هذه الدلتا الخصبة من الممكن لفسائل البرحي العراقية أن تنمو بشكل سريع تاركة الحشف لرمل الصحراء.


والنخلة الباسقة تولد من فسيلة. فإذا إجتمع لهذه الفسيلة الماء والخضراء والعقل الحسن فإن بإمكان البرحي العراقي أن يثمر من جديد.
والله على البرحي العراقي وعلى الدلتا العراقية.