هل يمكن أن تكون الأم التي أنجبت الكون المرئي ثقباً أسود؟
عندما اتضحت الصورة لعلماء الفيزياء الفلكية وعلماء الكونيات وعلماء الفيزياء النظرية وعلماء فيزياء الجسيمات، بشأن خارطة الكون وهيئته وشكله ومكوناته، وبدا واضحاً لهم بفضل اكتشاف العالم أدوين هبل Edwin Hubble أن الكون في حالة تمدد وتوسع دائم ومضطرد، وهو كذلك في حالة حركة وخلق دائم، وإن نجومه ومجراته تولد وتكبر وتشيخ وتموت وتصطدم ببضعها البعض ويبتلع بعضها البعض الآخر، وإن البيغ بانغ Big Bakg الانفجار العظيم قد لا يمثل نقطة الانطلاق الأولى والوحيدة وليس قبلها شيء، لبدء الوجود، وإنما هو نقطة بداية لا أكثر من ذلك، لكوننا المرئي هذا، وقد يكون سبقه، وربما سيعقبه، عدد لا متناهي من الانفجارات العظيمة في سيرورة دائرية لا بداية لها ولا نهاية، كما تجرأ البعض منهم على تجاوز المحظور وكسر المسلمات السائدة في عدد من المفاهيم والنظريات والمواضيع التي ما انفكت تزداد غموضاً على الرغم من التقدم العلمي والتكنولوجي الذي تحقق، و لا زالت تشكل لغزاً يستعصي على الفهم البشري في مستواه العلمي الحالي. ومن بين هذه الموضوعات المادة السوداء matiegrave;re noir أو الداكنة والطاقة المظلمة eacute;nergie sombreأو المعتمة وأصل المادة والكتلة وأخيراً وليس آخر لغز الثقوب السوداء، وتساءل البعض بنوع من التحدي: ما الذي يمنعنا من التفكير وافتراض أن يكون كوننا المرئي هذا وليد ثقب أسود، عكس التفكير السائد بأن الثقب الأسود يأكل ويبتلع في داخله كل شيء ولا يخرج منه شيء فكيف يمكن أن يولد مادة وطاقة وحياة؟


في البداية لم يكن هناك من يريد أن يصدق بوجود الثقوب السوداء وما يزال بعض العلماء المرموقين في وقتنا الحاضر من ينكرون جود الثقوب السوداء بناءاً على معطيات وحسابات علمية ورياضية جادة خاصة بهم تستحق الاحترام. وكان آينشتين قد أكد وفق نظريته النسبية العامة والخاصة، أن من ميزات وخصائص الزمكان أنه يتشوه deacute;former بفعل تأثير وتفاعل المادة لاسيما إذا كانت مادة ذات كتلة هائلة، حيث يمكن أن ينكمش الزمكان إلى أصغر حجم ممكن أو لامتناهي في الصغر infiniment petit وربما إلى حد الاختفاء الكلي لكليهما كما لو أن مسخاً monstre أقوى بكثير منهما قد ابتلعهما وهو الأمر الذي لم يكن معروفاً آنذاك، وسماه العلماء فيما بعد بالثقب الأسود الذي لا تراه العين ولا ترصده أجهزة الرصد والمراقبة المتوفرة في ذلك الوقت، أي يتعذر مشاهدته حيث لا يفلت من داخله شيء ولا حتى الضوء لكن تأثيره الثقالي هائل وقوة جاذبيته مذهلة. واعتبرت ظاهرة الثقب الأسود بمثابة aberration أو عاهة كونية أو شيء رياضي مجرد وفريد من نوعه. ومن ثم ركز بعض العلماء جهدهم لدراسته باستفاضة وقدموا ما لديهم من تفسيرات ونظريات بشأنه ومنهم العالم البريطاني الفذ ستيفن هوبكنغ Stephen Hawking. ثم أكتشف آخرون وجود ثقب أسود عملاق داخل مجرتنا درب التبانة وثقله يزيد ثلاثة ملايين مرة عن ثقل الشمس أما أكبر ثقب أسود تم اكتشافه لحد الآن فإن حجمه أكبر من نظامنا الشمسي برمته وهو ذو كثافة مهولة ويجذب إلى داخله كل ما هو حوله، وحتى الزمكان ينطوي على نفسه بفعل ثقالة الثقب الأسود، وكل ما يلج إليه يختفي إلى الأبد في داخله حيث يوجد المجهول الأعظم، ولا يستشعر منه سوى كتلته التي لا تشبع من التهام المواد لأخرى المحيطة به. والثقوب السوداء موجودة في كل مكان في الكون المرئي وفي جميع المجرات حتى لو لم يراها أحد ولكن أشيع عنها أنها آكلة النجوم ويمكن أن تعرض مستقبل ومصير الكون المرئي للفناء.


بدأت فكرة وجود ثقوب سوداء تفرض نفسها منذ سنة 1969 على يد العالم الأمريكي جون وبهلر john Wheeler الذي استمدها من فكرة كانت متداولة بين الأوساط العلمية قبل قرنين من ذلك التاريخ بشأن طبيعة الضوء، ففي عهد اسحق نيوتنNewton قيل أن الضوء يتكون من حبيبات أو جسيمات particul وفي عهد آينشتين Einstein ثبت أن للضوء طبيعة ثانية وهي أن الضوء عبارة عن موجات ondes والفكرتان صحيحتان كما أثبت ذلك ميكانيكا الكم أو نظرية الكوانتاmeacute;canique quantique التي تقول أن الضوء موجة وجسيم في آن واحد وبالتالي فإن الضوء باعتباره جسيم يتأثر حتماً بقوة الثقالة أو الجاذبية. وكان أحد العلماء البريطانيين وهو جون ميتشيل قد اكتشف سنة 1783 ظاهرة غريبة تتعلق بوجود نجوم هائلة الكتلة وذات مجال جاذبية أو ثقالة هائلة أيضاً لا يمكننا أن نراها أو نرصدها آنذاك ولكن يمكن أن نشعر بشدة وقوة جاذبيتها وهي ناجمة عن إنهيار نجوم هائلة الكتلة على نفسها تحت تأثير ثقالتها أو جاذبيتها شبه اللامتناهية وهو ما عرف بالمستعر العظيم supernovae فتقوم النواة في مثل تلك النجوم بابتلاع كل المادة المكونة للنجم وما حولها، حتى الضوء، وتشكل فيما بعد ما يشبه الفراغات السوداء في الفضاء. ونفس الشيء توصل إليه العالم الفرنسي لابالاس Laplace في نفس الفترة الزمنية وبصورة مستقلة عن جون ميتشيل ولكن لم تطلق تسمية الثقوب السوداء على تلك الظاهرة الكونية إلا حديثاً. ولم يتحدث أي عالم قبل بداية القرن العشرين عن نظرية علمية تفسر على نحو واضح ومقنع كيفية تأثير الثقالة أو الجاذبية على الضوء إلى أن جاء آينشتين بنظريته النسبية العامة سنة 1951 عندما طبقت على النوم الأضخم كتلة في الفضاء.
فالنجم الضخم الكتلة عندما يولد تقوم كمية كبيرة من غاز الهيدروجين في الانقباض والتقلصcontraction على نفسها للداخل بفعل قوة الثقالة الهائلة أو بسبب شدة الجاذبية وخلال عملية الانكماش فإن ذرات الغاز تصطدم بعضها بالبعض الآخر على نحو تواتري يزدادا أكثر فأكثر ويتسارع أكثر فأكثر ويسخن بدرجة عالية جداً إلى حد معين ينجم عن الاصطدام تلاحم بين ذرات الهيدروجين بدلاً من ارتدادها الواحدة عن الأخرى ويتولد من عملية تلاحم ذرات الهيدروجين بدرجات حرارة عالية جداً غاز الهيليوم وإن الحرارة المنطلقة من هذا التفاعل هي التي تولد سطوع النجم كما تؤدي الحرارة الزائدة إلى زيادة الضغط في الغاز المنبعث لكي يكون موازيا لشدة الجاذبية حتى يتوقف الغاز عن الانكماش. تظل النجوم مستقرة ضمن هذا التوازن حيث يتم توازن حرارة التفاعلات النووية مع شد الجاذبية أو الجذب الثقاليattraction gravitationnelle. ولكن بعد وقت طويل يقاس بالملايين وبمليارات السنين ينفذ ما لدى النجم من الهيدروجين ويفرغ من الوقود الذري. وكلما زاد الوقود نفذ بسرعة أكبر ونتيجة لذلك فإنه كلما كانت كتلة النجم ضخمة كلما احتاج لأن يسخن أكثر ليوازن جذب الثقالة أو شد الجاذبية في النجم، وكلما زادت السخونة استنفذ الوقود بسرعة أكبر وهكذا، فعلى سبيل المثال تحتوي شمسنا على وقود يكفيها لمدة 5 مليار سنة قادمة، وهناك نجوم ضخمة الكتل تستهلك وقودها خلال مائة مليون سنة وفي حالة نفاذ وقود النجم يبرد هذا الأخير وينكمش على نفسه. وإذا كانت كتلة النجم أقل من حد شاندراسيخار نسبة للعالم الهندي سبراهمانيان شاندراسيخار Subrahmanyan Chandrasekhar الذي اكتشف هذا الحد للتنافر الذي يمكن أن يعمل به مبدأ الاستبعاد أو المبدأ الطارد principe drsquo;exclusion وهو المبدأ القائل بأنه عندما يصبح النجم صغيراً في الحجم فإن جسيمات المادة تغدو متقاربة جداً من بعضها البعض عندها سيكون لها سرعات مختلفة حسب مبدأ بوليprincipe de pauli الطارد أو المعروف بمبدأ الاستبعاد مما يجعل الجسيمات تتحرك مبتعدة عن بعضها مما يدفع النجم للتمدد وأن يبقي نفسه في نصف قطر ثابت وحالة توازن بين جذب الثقالة أو شد الجاذبية من جهة والتنافر الناجم عن مبدأ الاستبعاد الطارد من جهة أخرى، فإنه سيتوقف عن الانكماش وأن يستقر في حالة عرفت بحالة القزم الأبيض التي تطلق على بعض النجوم في الكون المرئي. وهناك حالة أخرى يمكن أن يصير إليها النجم الذي يمتلك كتلة تساوي ضعف أو ضعفي كتلة شمسنا لكنه يبدو أصغر من قزم أبيض وينطبق عليه حساب مبدأ الاستبعاد بالتنافرreacute;pulsion بين النيترونات والبروتونات بدلاً من التنافر بين الالكترونات ولذلك يسمى بالنجم النيوتروني ويساوي نصف قطرها أقل من عشرة أميال. أما النجم التي تزيد كتلتها على حد تشاندراسيخار فسوف تتولد لديها مشكلة كبيرة عندما تستنفذ وقودها. ففي حالات معينة تنفجر كمستعر كبير supernovae سوبر نوفا أو أن تتمكن من أن تقذف قدراً معيناً من المادة إلى خارجها بكمية تكفي لتخفيض كتلتها لأقل حد يكون دون حد تشاندراسيخار وبهذا يتجنب كارثة التقلص بالجاذبية أو الثقالة. واستناداً إلى نظرية النسبية العامة تكون الفرادة singulariteacute; داخل الثقب الأسود لامتناهية في الكثافة، وانحناءة الزمكان، مما يشبه الحالة التي تسبق الانفجار العظيم حيث عند هذه الفرادة تنهار قوانين العلم وتنتفي القدرة على التنبؤ. وهناك حافة للثقب الأسود تسمى بالأفق Horizon وإن أفق الحدث هذا هو حد لمنطقة زمكانية لايمكن الفرار منها أو الإفلات بأي شكل من الأشكال مما يشكل غطاءاً حول الثقب الأسود لايمكن المرور منه إلا باتجاه واحد هو من الخارج إلى الداخل فقط حيث يستحيل الخروج كما هو شأن الرحلة من الحياة إلى الموت. وقد أقيم الدليل على وجود الثقوب السوداء رياضياً قبل أن يكون هناك أي دليل أو برهان مختبري أو من المشاهدات والرصد والمراقبة التلسكوبية. ويعتقد علماء بوجود ثقوب سوداء تبلغ كتلتها مائة مليون مرة كتلة الشمس خاصة في مراكز الكوازاراتles quasars. ولكن ظهر في الآونة الأخيرة علماء هامشيون بفكرة ثورية تقول بأن الثقوب السوداء يمكن أن تكون مصدراً لولادة أكوان جديدة. وبالتالي يمكننا كتابة سفر تكوين علمي جديد يروي قصة جديدة للخلق تقول أن الثقوب السوداء التي تلتهم كل شيء حتى الضوء، هي التي اضاءت الشعاع الأول للكون المرئي بناءاً على مشاهدات فلكية observations astronomiques وبدلت الدور التقليدي للثقب الأسود من القاتل إلى الخالق.


صيغت هذه الفرضية في الحقيقة لأول مرة إبان تسعينات القرن المنصرم وأطلق المنظرون عليها فرضية ماقبل البيغ بانغ preacute; Big- Bang مستندين إلى نظرية كونية ثورية هي نظرية الأوتارla theacute;orie des cordes الفائقة وكانت هذه النظرية قد أعدت للمضاربة على نظريتي الكم والنسبية للجمع بين ميكانيكا الكوانتا meacute;canique quantique والنسبية العامة relativiteacute; geacute;neacute;rale وتزويج قوانينهما المتباينة والمتعارضة ظاهرياً. وقد قام العالمان الإيطاليان في الفيزياء النظرية غابرييل فينزيانو Gabriele Veneziano و موريزيو غاسبريني Maurizio Gasperini بإدخال كون آخر قبل ولادة كوننا المرئي الحالي الذي نعيش فيه. وفي هذا العالم ما قبل التاريخ preacute;historique الذي يحدد عمر كوننا، والذي تخترقه الموجات الثقالية ondes gravitationnelles، يمكن أن توجد منطقة ذات كثافة عالية، تنهار على نفسها مكونة ثقباً أسوداً عملاقاً. والحال أنه، في نظرية الأوتار، عندما تقترب التقلصات من الحد اللانهائي infini تغدو الثقالة أو الجاذبية طاردة أو استبعادية reacute;pulsive. عند ذلك ينبض الثقب الأسود ويدخل في حالة من التمدد والتوسع expansion قد يكون ذلك هو الانفجار العظيم أو أول صرخة لكوننا المرئي، أو لكون آخر، إذ أن كوننا ليس إلا واحداً من بين العديد من الأكوان المنبثقة من الثقب الأسود العملاق. وفي سنة 2007 لجأ عالم ألماني هو مارتن بوجوفالد martin Bojowald ولكن وفق معدلات تابعة لنظرية توحيدية أخرى معروفة باسم الثقالة الكمية أو الكوانتية العقدية أو الدوارة gravitation quantique agrave; boucles في إطار نموذج أو موديل يتأرجح بالتناوب، ومرحلياً، بين الانفجار العظيم والانكماش العظيم Big Crunch أو الانهيار نحو الداخل لتكوين ثقب أسود آخر، وهكذا دواليك، بلا بدابة و لا نهاية، عندها يطرح السؤال التالي: هل يمكن أن تشكل الثقوب السوداء في الكون المرئي، البذور لميلاد أكوان أخرى؟ بعض العلماء يعتقد بصحة هذه الفرضية، ومعدلات النسبية العامة لا تعارضها او تمانع في ذلك لأنها تصف التماثل والتناظر symeacute;trique للثقب الأسود، أي الثقب الأبيض، الذي تطرقت له في مقال سابق، والذي تنبثق منه المادة التي ابتلعها الثقب الأسود مما يؤكد فرضية استحالة إفناء المادة أو استحداثها من العدم والمعضلة هي أنه لم يتمكن أحد من رؤية الثقب الأسود ولا الثقب الأبيض.


بقي أن نشير إلى أن هناك قلق كبير نشأ بين بعض العلماء من إمكانية ظهر ثقب أسود صغير أو ميكروسكوبي داخل مصادم الجسيمات العملاق LHC كحدث علمي جوهري حسب فرضية العالم ماتيو شوبتويك Matthew Choptuik الذي صمم النموذج لهذا الثقب الأسود بواسطة المحاكاة الكومبيوترية والحال أن هذا القلق غير مبرر حسب توضيح البروفيسور ماتيو إذ يستحيل تحقق هذا الحدث في إطار النموذج القياسي الستاندارد لفيزياء الجسيمات، وحسب هذا النموذج، ولكي تتحول جسيمتنان متصادمتان عفوياً إلى ثقب أسود، بنفس الكتلة، ينبغي توفير طاقة تسمى طاقة بلانك بقيمة 1016 وستة عشر صفراً بعدها، من التيرافولت TeV، وهذه الطاقة ليست بمتناول البشر على الأرض، والحال أن الطاقة القصوى للمصادم الأرضي LHC لا تبلغ سوى 14 TeV وهو الأضخم والأكبر والأكثر قوة وفعالية على الأرض حتى هذا التاريخ في العقد الأول للقرن لواحد والعشرين. وللحصول على الطاقة اللازمة لخلق الثقب الأسود ينبغي توفير طاقة تعادل طاقة مجرة بأكملها، وهذا أمر مستحيل على البشر في الوقت الحاضر، والمسألة ما تزال نظرية وحسابية رياضية بحتة في إطار نظرية الأوتار من أجل إظهار ثقب أسود بطريقة المحاكاة تبعاً لفرضية تعدد الأبعاد في الكون التي تقول بها نظرية الأوتار بيد أن تلك الأبعاد صغيرة جداً ومنطوية على نفسها ولا يمكننا رؤيتها. إلى جانب أن نظرية ستيفن هاوكنغ Stephen Hawking حول الثقوب السوداء أثبتت أن هذه الأخيرة تتبخر حسب صيرورة كوانتية أو كمية processus quantique معينة ومعروفة، ومع مرور الوقت تفقد كتلتها تدريجياً، لهذا، وحسب هذا المنطق، فإن الثقب الأسود في المصادم، لو ظهر، وهذا مستحيل الآن، فإنه سيختفي ويتبخر في الحال نظراً لصغر كتلته مقارنة بكتلة الثقب الأسود في أعماق المجرات.

[email protected]