في 24 نيسان من كل عام تأتي ذكرى المجازر التي لحقت بالشعب الارمني. إنني أقف بخشوع مع الأخوة من الشعب الارمني أمام هذه الكارثة والذكرى الأليمة والتي تشكل وصمة عار في جبين الإنسانية جمعاء.

في الفترة التاريخية 1913 و1915 تعرض الشعب الأرمني الى الإبادة على أيدي قادة الإتحاد والترقي العنصريين الذين سيطروا من الناحية الفعلية على السلطة في السلطنة العثمانية عام 1908. الأرمن يقولون أن الضحايا بلغوا مليون ونصف المليون، بينما يدعي الأتراك أن الرقم هو بحدود 300000. السبب وراء تلك المجازر كان وقوف الأرمن الى جانب الروس في الحرب العالمية الأولى. أنا لست بصدد بحث التاريخ بتفاصيله الآن، وإنما أريد الوصول الى ما يجري الآن في العالم حول تلك الإبادة.

منذ عقود واللوبي الأرمني يحاول إستصدار قرار من الكونغرس الأمريكي يعترف فيه بأن تلك الحوادث هي quot;جريمة ضد الإنسانيةquot; أي جريمة إبادة. الدولة التركية تقول أن مثل هذه القضايا ليست من شؤون السياسيين أو الحكومات أو البرلمانات، وإنما أمر عائد تماماً الى المؤرخين والآكادميين فقط.

الحرب العالمية الأولى 1914 1918 أشعلت الشرارة في حدوث تلك المجازر. الدولة العثمانية أو رجل اوروبا المريض لم تكن قادرة عسكرياً وإقتصادياً في تحمل أعباء تلك الحرب. السلطان العثماني كان حاكماً بالإسم، بينما السلطة كانت في أيدي الإتحاد والترقي الشوفيني. هؤلاء كانوا منبهرين بالقوة الالمانية وأجبروا السلطان على الدخول في الحرب الى جانب الألمان يحدوهم الأمل في الحصول على بعض الفتات على طاولة الالمان من غلة الحرب بعد الإنتصار كما توهموا.

الارمن كانوا عماد السلطنة العثمانية. هم كانوا النخبة بدءاً من منصب الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) أحياناً ووزراء ورجال أعمال وصناعة وتجارة وصحافة وفن ومسرح.....الخ و طبعاً عن جدارة. كل هذا إنقلب عكساً مع زيادة نفوذ الإتحاد والترقي منذ عام 1908.

مع ظهور بوادر الحرب العظمى بدأ الظن أن الارمن سيقفون مع الروس أي الوقوف مع العدو الخارجي. عنصريوا الإتحاد والترقي إستغلوا الفرصة وفرضوا على السلطان الذي كان عبارة عن صورة رمزية إصدارما يسمى بـ quot;قانون التهجيرquot; الشهيروالذي كان القصد منه ضمناً هو إبادة الارمن. تم طرد الارمن من بيوتهم والإستيلاء على ممتلكاتهم وتجميعهم على الطرقات في جميع أنحاء وسط وغرب وجنوب تركيا وسوقهم مشياً على الأقدام. أثناء التهجير جرت جريمة الإبادة الرهيبة التي يعجز الإنسان عن وصف همجيتها. عدة آلاف من المهجرين وصلوا الى الحدود السورية وفضلوا الإقامة بين الكرد.

ماذا عن الارمن في المناطق الكردية في السلطنة والمتاخمة للقفقاس وارمينيا وغيرها والتي كانت تابعة للنفوذ الروسي؟. القوات الروسية دخلت الى الأراضي العثمانية من الشمال أو بالأحرى المناطق المختلطة بالأرمن والكرد. قبل ذلك كان الروس قد فتكوا بمسلمي القفقاس. الناجون من هؤلاء فروا من الموت ونشروا أخبار المجازر الروسية الرهيبة بين السكان في كل مكان وطأت فيه أقدامهم. دب الذعر بين السكان الكرد وباتوا ينتظرون قدرهم الذي أصبح نفس مصير وقدر السلطان والسلطنة العثمانية. قسم من القفقاسيين الكرد هرب جنوباً حتى وصل قسم منهم الى الأراضي السورية، وكانوا ولا يزالون يحملون لقب quot;مهاجرquot; حتى يومنا هذا،حيث وصل اللقب الى الأحفاد وكاتب هذه السطورعاش معهم في نفس القرية ردحاً من الزمن.

الأرمن وقفوا الى جانب القوات الروسية المهاجمة وقاموا بإرتكاب المجازر الوحشية ضد السكان الكرد المجاورين للقفقاس لا ذنب الا لكونهم مسلمين تابعين للسلطان الذي كان بمثابة quot;الخليفةquot; في ذلك العهد. وخرجت الأمور من مسار الحرب بين الجيوش النظامية في تلك المنطقة لتتحول الى حرب أهلية ضارية بين المدنيين من الكرد والأرمن يفتكون ببعضهم بدعم من الجيشين التركي والروسي كلٍ على حدة. للمزيد يرجى الرجوع الى المؤرخ الكبيرالدكتور كمال مظهراحمد في كتابه (كردستان أثناء الحرب العالمية الأولى).

بإختصار إرتكبت الدولة التركية الإبادة ضد الارمن، بينما تعرض الكرد الى إبادة، وإن كانت أقل حجماً، على يد الحلف الروسي الارمني، وكان من بين نتائجها أن طالت الحوادث الأبرياء من المسيحيين في بعض المناطق الكردية بسبب روح الإنتقام أو الطمع المادي واللاأخلاقي المنحط على يد البعض من الذين لم يكن في دواخلهم ذرة من الإنسانية ولطخوا أياديهم القذرة بدماء أخوتهم وجيرانهم حتى الأمس القريب. إلا أن السبب المباشر والقطعي كان القرار السياسي الرسمي للدولة أي quot;قانون التهجيرquot;.

إذا لم يكن الأمركما ورد آنفاً، كيف بإمكاننا تفسير ما يلي: كيف عاش الكرد والأرمن لآلاف السنين متآخين لا يفرق بينهم الدين حتى صدور الفرمان المشؤوم؟

ثم أن الكرد لم يكن لديهم أي كيان سياسي وبالتالي لم يكن هناك قرارسياسي كردي ضد الأرمن. أي أن ما حدث كان عبارة عن قرارات فردية لبعض من ضعاف النفوس في أجواء حربٍ أهلية مدعمومين بالفرمان السلطاني وتداعيات التحالف الروسي الارمني. في الحروب الأهلية تحدث المجازر وراينا ما حدث في لبنان في النصف الثاني من القرن العشرين وquot;القتل على الهويةquot;. أما الحرب الطائفية في العراق في هذه الآونة من القرن الواحد والعشرين فهو غني عن التعريف.

لماذا إلتجأ كل الارمن تقريبأ في سوريا الى المناطق المأهولة بالكرد حصراً ووجدوا الصدرالرحب والحماية والأمن؟. في تلك الفترة لم يكن هناك وجود للفرنسيين والدولة السورية لم تكن قد تشكلت بعد.

أنقذ البعض من الأرمن الكرد في بعض المناطق التي كانت تحت سيطرتهم وكذلك تم نجاة الكثيرين من الارمن والسريان على يد الكرد أيضاً وذلك إنطلاقاً من الأعراف العشائرية والأخلاق الجبلية السامية.

القصد هنا ليس إيجاد التبريرات لما حدث، بل هو إلقاء المزيد من الضوء على الجريمة حتى لا تتكرر وكذلك تنقية التاريخ من الأكاذيب التي كانت ورائها غايات سياسية وبالضبط كيفية وقوع الارمن في حبائل مؤامرات الدولة التركية لإلقاء قسم من الجريمة على كاهل الكرد.

ماتنادي به تركيا اليوم بصدد ترك الأمر للمؤرخين هو عين الصواب.

ولكن لماذا لا تفتح تركيا الباب للدخول الى أرشيفها؟.

ولماذا لا يصرالأرمن على فتح ذلك الأرشيف كذلك؟. هذا سنتحدث عنه في الجزء الثاني من المقال.

[email protected]