تبدو فرنسا لي في ضوء ما سبق، جملة من المشاعر المتناقضة احس بها كلما الفظ اسمها، فانا تائهة بينها، الا ان تاريخها المناضل الذي استطاع كسر الاستبداد الملكي اولا لينتهي الى رفض اي قيد يحد من حرية الفرنسيين، يجعلني هذا التاريخ اشعر ببعض الارتياح النفسي لاختياري لها، انه يؤكد لي ما اعتقدته و اعتقده الى الان بأن الانسان هو صانع الاقدار.

لا نولد ابطالا او جبناء، انما مسارنا و التزامنا في هذه الحياة يحددان قدرنا و قدري ارتبط لفترة معينة بهذا البلد الذي يحرك في اعماقي جميع استعداداتي النفسية للانفجار فتتملكني رغبة الانصهار بالطبيعة، حيث لا استطيع فصل تجاربي عن جيناتي فأنا حصيلة مورثات وتأثير بيئة المنشأ والتجارب المتراكمة بعدها.

شدني الى باريس، بحثي اللامنتهي عن حرية بمضمونها العميق و ليس التشبث بنتائح ظاهرية سطحية، فالحرية في البدء اختيار و من ثم التزام بما نختاره حتى و إن كانت له عواقب غير مرغوبة، اننا نرغب بالحرية للحرية نفسها. لا لمصالح انوية صغيرة فهي التي تقودنا الى مفاهيم جديدة و الى ذلك الوقود الانساني الضروري للحياة كضرورة الهواء للتنفس.

اعرف ان باريس لن تعطيني ما ابحث عنه و ذلك لاعتقادي انه لا مدينة او بلد استطاع ان يتجاوز الاطار الضيق الذي يحصر الانسان داخل دائرة عرقية و قومية و افكار اخرى تصب في مصلحة جماعته، الا انه في باريس يمكن على الاقل و ضمن هذه المعتقدات الضيقة ان يحدد الفرد اذا اراد طريقه و مساره، فله الحق في التفرد بأرائه و افكاره. نتكلم هنا عن حقوق الافراد و افساح المجال الحر للبحث عن ابداعات جديدة.

لننظر الى وجودنا في هذه الحياة، نرى ان رحلتنا القصيرة فيها تصب قبل كل شيء في سعي الانسان وراء ازدياد وعيه لتشمل جميع الكائنات الحية فالانسان استطاع و منذ ملايين السنين ان يطور جهازه الحسي للارتقاء تدريجيا نحو افكارخارجة عن اطارها الضيق المحدود.

رحلة البشرية هي رحلة واحدة تصب في هدف واحد وهو الحرية، حيث لايمكن العثور عليها دون التحرر من الرغبات الانوية التي تكبلنا، وعندها يمكننا الرقي باحاسيسنا وبالتالي التعامل مع الافكار الجديدة المطروحة بتناغم منسجم.

حرية، ابحث عنها في كافة بقاع الارض، فأفتش دوما عن افكار و رؤى انفلتت من مضمون الانتماء الجغرافي المحدود و الانتماء النوعي لتحثني على الغوص في الاعماق و التبعثر في الفضاءات الرحبة لاتجاوز المسافات الملموسة و اعي جميع المشاعر المحسوسة في كل كائن حي لاتحد معها و المس قاعها حتى اتعرف الى ذاتي فتكون رحلتي المعرفية حصيلة الذات الكامنة في كل الكائنات وفي كل مكان و زمان.


ها انا اعود قليلا الى مدينتي التي كنت اعشقها يوما من الايام، باريس مدينة النور كما يرغب بوصفها عشاقها و محبوها، فأتساءل ان كنت قد اعتبرتها يوما من الايام منبرا للنور او الاشعاع الفكري؟

لا اذكر ماذا كانت تعني لي، اذكر فقط انني عشقتها في زمن مضى و كرهتها في زمن اخر، مدينة مليئة بالتناقضات كداخلنا المتصارع بين حاجاتنا و عاداتنا وبين الرغبة في تحرير هذا الداخل من كوابحه.


باريس تعكس طبيعتنا الانسانية ببشاعتها وجمالها فهي تستقطب جميع الجنسيات و القوميات و الاديان و المعتقدات وجميع الميول النفسية و الجسدية، لا ترفض احدا الا انها تمارس على الجميع ضغوطاتها النفسية فينفر المرء هاربا عنها الاف الاميال. انها اشبه بفتاة اقنعتنا بجمالها و فرضته علينا كمفهوم مطلق حتى و ان كنا لا نؤمن بالمطلق نفسه، فقد عرفت كيف تغسل ادمغتنا و تجعلنا بشكل لاواعي نطلق عليها ما ترغبه، وجردتنا من حقنا في طعن مقوماتها حتى ان فعلنا بتنا جهلة للجمال و الابداع و الحرية.

هذه المدينة التي تهيل علينا سوط السادية كي نستلذ قليلا و نتعذب كثيرا سوى انني ما ملت يوما للمازوشية كي اقبل ما تفرضه علينا من مفاهيم و اسس و مصطلحات، فقد تعلمت التفكيك والتحطيم بعد ان حطمت قيودا و عادات قديمة وبنيت من حطامها مفرداتي و معاييري للفن و النور و الابداع.

فهل يحق لباريس الاستيلاء على صفة النور ابدا ومطلقا كما يستولي الملك على العرش؟

اجيب بالعودة قليلا الى هذا المصطلح المستلهم من عصور التنوير، فما هو التنوير وما معناه ؟

اعتبر quot;كانطquot; ان التنوير هو حرية الحكم و العقل فالتنوير هو الرؤية الواضحة لما نشاهد، اي الحكم من خلال الذات الفردية على كل الاسس و المفاهيم و العادات و فهم الطرق التي ادت الى بديهيات علمية، فلا يكفينا ان نردد ما يقوله العلماء او مؤسسو النظريات كي نلقب انفسنا بالمتنورين بل ينبغي ان نخضع كل شيئ للنقد الذاتي لنستنتج من بعد احكاما مرشحة هي الاخرى دائما وابدا للتحطيم.

من هنا اعتبر انه لمن المجحف في حق مدن اخرى قدمت و تقدم للبشرية افكارا جديدة ان نحرمها من لقب quot;عاصمة النورquot;، لقد توقفت باريس عن العطاء منذ زمن و اصبحت كالعجوز التي تستسلم لمباضع الجراحين في عمليات تجميل متتالية علها تستأنف غوايتها و بريقها الضائع. نعم تبدو باريس اليوم عاجزة عن قتل داخلها الكهل المترهل لتولد من جديد بداخل متجدد اكثر شبابا.

ثمة من يغضب لهذا الحكم على هذه المدينة البراقة، و لاختلافي عن جميع الذين سلموها مفاتيح الجمال، و لاضير في ذلك فأنا أعرّض الاشياء لأحكامي الذاتية وأحلل الكلمات و المفردات و القيم لابني عليها احكاما مستمدة من تجاربي و قراءاتي و خصائصي الشخصية و مقارنتها بخصائص و تجارب اخرين واسعى في هذه السيرورة للتجرد من مشاعر مستلهمة من تاريخ قديم، ناهيكم انني اشعر بأنه من واجبي أن اساعد باريس على التحرر من القاب تجردها من جوهرها الحر.

باريس، اعتبرها بعض الفلاسفة و الادباء في عصور التنوير مركزا للالهام بل اعتبرت فرنسا فضاء للنور لانها امتلكت الحماس و الشجاعة في درء الاستبداد فكانت ملهمة للمفكرين و الشعراء. ومع ذلك نواصل طرح السؤال عن حقها بالاحتفاظ بهذا اللقب الى الابد و على مدار الزمن. الم يعلمنا تاريخها ان الانسان جدير بتغيير المفاهيم، و ان الحرية طريق طويل يبدأ اولا بالفكر والقياس من خلاله، او ليس الانسان الحر هو الذي يحكم على الامور و الاشياء من خلال دراسة مجردة تبدأ من ذاته اولا وتمتد الى اللامتناهي..

او ليس اجحافا في حق باريس، في حق هذه المدينة التي ناضلت في زمن ما و الباحثة عن الحرية في زمن اخر، ان نحرمها من تجديد كينونتها عبر نفض جميع النعوت التي نسجنها فيها ضمن اطار ضيق وسطحي، علها تتمكن من اطلاق افكار و مفاهيم جديدة و تتحرر من كل المفردات الوهمية المهمشة ؟ ذلك ان الجمال و الابداع متغيران و الكائن المسجون في مفردات سطحية و المعلق على نظرة الاخرين، هو بالتاكيد انسان زائل وبائس.

لانني احببت باريس يوما، فانا ارغب بفك اسرها من جميع التسميات علها تتعمق اكثر في ذاتها و كيانها لتتشكل من جديد و تخلق معايير جديدة فاتوحد معها مجددا و اسبح في فضاءات تمردها.

قيل عن باريس الكثير الا انني لا اجد فيها الا القليل، ربما لان عيني تعودت على اسلوب بنائها الفني فأصبح نظري يستسيغ كل المدن التي لا تشبهها، و ربما لان النظر مع الوقت يصبح قادرا على رؤية القبح في الجمال واستخراج الجمال من القباحة.

لقد اصبحت بعد كل السنوات التي امضيتها هنا كالسمكة في حوض نظيف و مزخرف تحيطه الورود فصرت اتطلع الى العوم في انهر و بحور واسعة غير عابئة باوساخها. نعم اشعر وكأن هذه المدينة تلتف كالافعى حولي وتطبق على عنقي وتقطع انفاسي، لذا اغادرها دوما لفترات قصيرة حتى لا تبتلعني حية فأنا في عراك دائم مع مفاهيمها الجمالية و شوفينيتها اللامحدودة.

وربما استطيع القول ايضا ان باريس كما هي، ساعدتني على قلب الموازين فأصبحت اتمعن بالصيغ المتداولة قبل الانجراف اليها و تبنيها، كما حثتني على تجريد معظم العبارات و الافكار الى حروف متناثرة، بل ربما اوحت لي بوجوب الغوص في الذات لفهم الذوات الاخرى و هي من قادتني الى ملامسة شعوري الضائع للاحساس بالكائنات الاخرى كما علمتني كيف انتصر على الكره و الحب في آن واحد.

علمتني ايضا، كيف احول التجربة السيئة الى حسنة للاستفادة منها، علمتني... و لا اعلم بعد كل ذلك ماذا علمتني؟ الا انني اعلم انني تصالحت معها و تصالحت مع ذاتي.

تتملكني خواطر كثيرة متعارضة ومتداخلة هي اشبه بهيأة هذه المدينة فهي تعكس نفسها في شخصية كل فرد، فنراها الجميلة الساحرة في اعين السذج و القبيحة الدميمة في اعين العاجزين عن التوغل في اعماقها و نراها ماكرة و لصة وغانية في اعين اخرين وانا اراها كما ارى نفسي، فهي كل التحولات و التغيرات و هي المتقمصة في كل المفردات و العبارات الجميلة و الدميمة والسطحية و العميقة، هي تلك التنهدات و الاهات الخارجة من معذبيها و محبيها، هي العاشقة المتجددة الهاربة من قيد سجانها.


رندا قسيس

[email protected]


الجزء الاول