منذ أن بدأت الكتابة عن العراق وشؤونه في إيلاف العزيزة لم أتوقع شيئا ولم يحدث. فكل شيء حدث كما توقعت، وأحيانا حدث بأكثر مما توقعت، وأخرى بأقل منه بقليل. والسبب ليس عائدا إلى عبقريتي الخارقة في رصد المقدمات واستخراج النتائج، ولا إلى مهارتي السياسية الفائقة، بقدر ما هو عائد إلى طول مرافقتي لأغلب الذين جاءت بهم رياح الاحتلال على رأس الوليمة، وإلى سهولة قراءة أفكار هؤلاء الرفاق ومنطلقاتهم ونواياهم، الظاهرة والمستترة، على حد سواء.
فقبل الانتخابات الأخيرة، وأثناءها وبعد إعلان نتائجها، توقعت ألا يفوز أحد من المتنافسين المخضرمين بالأاغلبية السحقة من مقاعد البرلمان. وتوقعت وما زلت أتوقع ألا يتمكن أياد علاوي من الإمساك بكرسي رئاسة الوزارة. وقلت إن هذا غير ممكن عمليا ونظريا معا. فلا إيران، ولا الأحزاب الشيعية المرتبطة بها، ترغب أو تتحمل التضحية والسماح لهذا الموقع الحساس بأن يذهب لطائفة العرب العراقيين السنة، على قلة مقاعدهم في البرلمان القادم، في مواجهة الوحدة الحتمية والمؤكدة بين الحليفين اللصيقين، الوطني ودولة القانون، مهما أرغى التيار الصدري وأزبد في مشاكسة المالكي، مرحليا وليس استراتيجيا، خصوصا وأن مقتدى الصدر نفسَه قابع في (قم) ويتنفس هواء الولي الفقيه هناك. مع التذكير بأن خلاف مقتدى مع المالكي ليس مبدئيا ولا عقائديا ولا وطنيا بقدر ما هو غضب دفين من مقتدى الصدر لأن المالكي قصم ظهر تياره الصدري في البصرة والنجف ومدينة الثورة بعد أن طفح كيله وتجاوز كل حدود اللياقة والذوق والاصول والنظام والقانون.
هذا مضافٌ إلى التحالف الحتمي والطبيعي بين الكتلة الإيرانية والكتلة الكردية، بدوافع مصلحية محضة، لا علاقة لها بعمق الصداقة ولا طول أمدها، ولا بالمشاعر الأخوية التي عول وما زال يعول عليها علاوي كثيرا، دون جدوى.
لكن، والحق يقال، إن الواجب يفرض على جلال الطالباني، باعتباره ما زال رئيس العراق، دستوريا وواقعيا، دعوة علاوي لتشكيل الحكومة، مع منحه فترة محددة لإنهاء مشاوراته. وبعد فشله الأكيد في تحقيق المستحيل المتمثل في انضمام ائتلاف الحكيم إليه ضد دولة القانون، سيصبح دستوريا وقاونيا وديمقراطيا تكليف الشخص الذي ستتفق عليه أغلبية النواب لتشكيل الحكومة، بأي لون كان، وبأية صيغة يرونها مناسبة لهم ولمصالحهم. ولن يكون ملزما لهم إشراك بعض قادة العراقية فيها، وفق المنظور الديمقراطي الذي يتبجح الجميع باحترامه. وهذه أسلم طريقة ليستمر فرسان العملية السياسية في الزعم بأنها ديمقراطية ودستورية، حتى ونحن نعلم علم اليقين بأنها طبخة حصى لا تشبع ولا تغني من جوع.
ومن البداية نعترف بأن إيران هي الأقوى على الساحة العراقية، والذي تريده، وحده، هو الذي سيكون.
وهاهو ممثل العراقية السيد رافع العيساوي في طهران يعلن بعد لقائه بـ لاريجاني: أوصلنا هذه الرسالة بوضوح، بأننا في (العراقية) مستعدون لأن نبني أفضل العلاقات مع جميع دول الجوار العربية والاسلامية، وخاصة (الجمهورية الاسلامية الايرانية).
انطلاقا من هذه المسلمات والبديهيات يصبح الأفضل والأشرف والأكثر عقلانية للعراقية أن تعتذر، بتلقائية وطيب خاطر، عن المشاركة في الحكومة القادمة التي اتفقنا على أنها ستكون حكومة أغلبية برلمانية، وتركها كلها لتحالف (الائتلاف والقانون) والأكراد، حتى وإن كانت، كما يصفها السيد أياد علاوي، من لون طائفي واحد، والتفرغ الكامل للمعارضة النشطة القوية التي تجعل وزراء الحكومة القادمة يرتعشون خوفا من رقابتها وإصداراتها. وهذا هو الأسلم لسمعتها وهيبتها، ورئيسها ولجميع مكوناتها، ولحلفائها العرب والأجانب، والأكثر حفظا لماء الوجه، وانسجاما مع الأخلاق العلمانية التي يقود جبهتها السيد أياد.
أما تهديد علاوي بالحرب الطائفية، إذا ما استبعد من الحكومة القادمة ولم يكلف بتشكيل الحكومة، وإذا ما تحالف الائتلاف ودولة القانون، فهو قصور سياسي فاقع، لم يكن متوقعا منه على الإطلاق.
فمعارضته الغاضبة الصاخبة لأي تحالف محتمل بين ائتلاف الحكيم والمالكي ليست من الديمقراطية ولا من العلمانية في شيء. فمن حق أي ٍ كان أن يتحالف مع أي ٍ كان. وها هو علاوي نفسُه، وقادةُ قائمته العراقية أجمعين، يحاولون التحالف مع أي ٍ كان، لا يكلون ولا يملون من طـَرْق جميع الأبواب، والحج إلى كل العواصم الشقيقة وغير الشقيقة من أجل تجييش الجيوش الدولية والإقليمية لضمان حصةٍ أكبر في كعكة الحكومة القادمة.
بل إن التلويح بالحرب الطائفية لا يعني سوى أنه رسالة (عضلاتية)، وليست عقلانية، يريد علاوي ورفاقه أن يبلغوها أولا لطهران وثانيا للمرجعية وثالثا للحكيم ورابعا للماكي وخامسا للرياض وسادسا لواشنطن وثامنا لأنقرة وتاسعا لدمشق، وهي أن علاوي قائد للطائفة السنية، وعليه فإن ن تشكيل حكومة من نواب ائتلاف الحكيم والمالكي والأكراد، بدون الطائفة التي يمثلها، إنما هو إعلان حرب طائفية ضد الطائفة كلها.
هذا شيء معيب في مقاييس أي فكر إنساني متحضر. بل هو عز التعصب الطائفي، وعز المتاجرة بالطائفية التي تغنى أياد علاوي وحلفاؤه في القائمة العراقية بشتمها ولعنها كثيرا قبل الانتخابات وأثناءها وبعدها.
فالتلويح بالمفخخات والساطور والحنطة المسمومة ليس سلوكا ديمقراطيا أبدا، بل هو ديكتاتورية الرأي الواحد، وعنجهية العقيدة الواحدة، وأنانية المصلحة الشخصية الضيقة، تماما كما كان يحدث أيام ديمقراطية المرحوم وحزبه القائد.
بعبارة أخرى إنها (ديمقــتاتورية) بشعة وقميئة، مهما حاول أياد علاوي وميسون الدملوجي وصالح المطلق وحسن العلوي تلطيخها بأحمر الشفاه ومساحيق تجميل الخدود، ديمقراطية (ألعب أو اُخرّب الملعب)، والعياذ بالله.
التعليقات