مع مرور سبعة أعوام على الإحتلال الأمريكي العراقي و نهاية حكم ولربما الوجود السياسي لحزب البعث العربي الإشتراكي/ الفرع العراقي، تتجدد ألأحاديث و البيانات و الآراء حول الصورة المستقبلية لوجود حزب البعث فضلا عن إمكانية عودته للسلطة في العراق؟ وهي مجرد أحاديث تتخذ صفة التهويل و المبالغة أكثر من حقيقتها الواقعية، فحزب البعث بشكله الآيديولوجي المعروف و بتنظيمه السياسي المعلن كان قد إنتهى فعليا وخرج من التاريخ منذ أن قرر الرئيس العراقي السابق صدام حسين الهيمنة على شؤون الحزب و السلطة في إنقلاب 16 تموز/ يوليو 1979 الدموي الذي أطاح بحكم الرئيس العراقي الأسبق أحمد حسن البكر ومجموعة القياديين البعثيين المعروفين من جماعة محمد عايش و غانم عبد الجليل و عدنان الحمداني ومحمد محجوب ووليد سيرت إضافة للقيادي في القيادة القومية الدكتور منيف الرزاز ( صاحب التجربة المرة ) الذي إستطاع النفوذ من إنتقام الرفاق في دمشق في إنقلابهم لعام 1966 و لكنه لم يستطع الهروب من قدره البغدادي في ذلك الصيف المهلك الحارق، لقد رحل حزب البعث لخالقه منذ ذلك التاريخ و خرج منه تماما وهو ينعي حظه بعد أن فشل فشلا ذريعا على المستوى القومي و الوطني و لم يحقق سوى الإنقسامات و التشطير داخل ذاته، بل وكان عائقا حقيقيا في تحقيق أي وحدة عربية أو حتى تضامن عربي من أي نوع، بل تحول الحزب الذي كان وحدويا و جماهيريا ذات يوم بقضه و قضيضه لعقبة حقيقية في طريق التطور السياسي في البلدان التي أبتليت بحكمه وهما العراق و سوريا، فقد تحول الحزب لحاضنة عشائرية أو طائفية بعد أن تمكنت الزعامات العشائرية و المتخلفة من الهيمنة المباشرة عليه، لم يتسن للبعث في العراق أن يتحول لمؤسسة وراثية بسبب التدخل الأمريكي الذي أطلق رصاصة الرحمة على جثة البعث العراقي، ولكنه في الحالة السورية تحول لتنظيم وراثي مسخ فقد أهليته ووجوده و تبخرت شعاراته في ظل توريث ( السلطنة البعثية ) ووفقا لمواصفات المتغلبين على السلطة، لقد حسم السوريون طريق البعث قبل أن تحسمه المتغيرات الدولية، فتحول البعث في الشام لحالة هجينة ولحزب غير مرئي بل لخرقة بالية لاقيمة لها في توجيه الأوضاع؟، أما البعث العراقي فقصته مختلفة بسبب إختلاف التطورات و الظروف الذاتية و الموضوعية!

فالبعث العراقي عاش أتباعه تجربة مختلفة بالكامل بعد أن تمكن تيار صدام حسين من السيطرة عليه وجعله مطية له رغم عدم قناعة تيارات عديدة فيه و لكن عوامل القمع و الخوف من الإبادة قد جعلت الأمور تأخذ مسارات مختلفة بعد أن سقط حكم الحزب من خلال قوة عسكرية خارجية جبارة وبعد أن شعر بعض البعثيين العراقيين من أن الإحتلال رغم قساوته قد حرر إرادة البعثيين من الخوف من التيار القيادي المتغلب و الذي إنهار بالكامل بعد سلسلة مغامراته العسكرية منذ إحتلال وغزو الكويت وحتى حالة الحصار التي أتبعها و إنكفاء جميع القوى السياسية العراقية، فقد إنبثق تيار من البعثيين المبعدين سابقا و الذين كانوا على خلاف مع قيادة صدام حسين جمدوا أنفسهم خلال عقد كامل قبل أن تلجأهم التطورات الحادة لمعاودة بناء التنظيم بالتعاون مع المتبقين من القيادة السابقة و أبرزهم نائب رئيس مجلس قيادة الثورة السابق عزة الدوري الذي كان المراقبون ينظرون إليه بإستصغار و سخرية لإنصهار شخصيته في النظام السابق و لعدم وجود قرارات مستقلة له في ظل ( فوهرر ) بعثي لا يناقش أحدا في قراراته مهما كانت كارثية مثل قرار ( غزو و إحتلال وضم الكويت ) عام 1990؟ ولكن بعد الإحتلال تبينت حقائق مختلفة أظهرت صورة عكسية لما كان سائدا من إنطباعات، فقد تمكن عزة الدوري رغم ( هوانه على الناس ) من التخلص من المطاردة الأمريكية و أكد على إتقانه لفن ( البقاء )؟ بل وفنون المناورة و الخداع وحتى المطاولة وهي عملية ليست سهلة أبدا في عراق يعج بمختلف أصناف و أشكال و ألوان المخابرات من الموساد وحتى مخابرات بوركينافاسو مرورا بمخابرات الدول الكواسر التي نعلم و تعلمون، و لكن مع بقاء و تبلور تيار عزة الدوري في الشارع العراقي فإن اللغة الخشبية البعثية السابقة ظلت هي نفسها لم تتغير، كما أن العقلية السياسية الجامدة هي هي، فكل ما تغير هو النجاح التكتيكي للنسخة البعثية الجديدة في إختراق الأحزاب السياسية و الدينية الطائفية المهلهلة وحيث دخل البعثيون الجدد تحت مظلة الإنتماءات الطائفية و المذهبية لتلكم الأحزاب تحت رايات و شعارات متخلفة و مختلفة و لكنها تتيح لهم الإطلالة الحقيقية على ما يدور، وطبقا لمعلومات خاصة فإن أبرز التنظيمات الطائفية مخترقة من قبل البعثيين وهنالك أسماء أعرفها شخصيا لم تزل نشيطة في التنظيم البعثي السري و تمارس عملها بكل نشاط و إنتهازية في ظل الروح و التخندقات الطائفية المريضة السائدة و طبعا ليست مهمتي كشف الأسماء فتلك مهمة أهل المخابرات النائمين في العسل في العراق؟ و لكنني أقول فقط بأن التمدد البعثي بصيغته الجديدة قد فرض نفسه في الواقع السياسي العراقي رغم أنه قد أفرز أيضا ظاهرة الإنشقاق المعروفة تاريخيا على مستوى حزب البعث.

فهنالك تنظيم بعثي يتبع للمخابرات السورية وهو تنظيم الرفيق محمد يونس الأحمد الذي يمارس العمل العسكري في غرب العراق إعتبارا على عوامل المساندة اللوجستية الإستخبارية السورية، ورغم حرص تنظيمي الدوري و الأحمد على عدم تصعيد الخلاف الإنقسامي إلا أنه موجود رغم قيام قيادة عزة الدوري بالإتصال بالرئيس السوري بشار الأسد الذي قام بإصطحاب نائب الدوري الدكتور أبو محمد وهو واحد من أقوى القيادات البعثية السرية وغير المعروفة للرأي العام و كان يعمل سابقا في قيادة ( جهاز الأمن القومي العراقي ) حتى عام 1990 في زيارته ألأخيرة لتركيا، أي أن النظام السوري ينسق مع فرعي البعث في العراق دون أن يتمكن من توحيد الرؤى و التوجهات التي ظلت متباينة و مختلفة خصوصا و أن هنالك في سوريا يعيش جيل قديم من بعثيي اليسار أبرزهم فوزي الراوي و آخرون يبدو أنهم متعاونين للغاية مع جماعة يونس الأحمد في ظل دعم ورعاية واضحة من المخابرات السورية مع مراعاة ضرورة إستمرار الإنقسام البعثي لأغراض و أهداف و مخططات مستقبلية واضحة، البعثيون في العراق قسم كبير منهم قد إستطاع التشكل مع الحالة الجديدة و الراهنة، فالبعض إنضم للأحزاب و التجمعات ذات الرؤى الوطنية و القومية، فيما فضل البعض الآخر التغلغل وسط الأحزاب الدينية و الطائفية وهو ما حصل فعلا في أحزاب كالفضيلة و سيد الشهداء و التيار الصدري و حتى المجلس الأعلى إضافة طبعا للأحزاب الأخرى المنضوية تحت مظلة قائمة العراقية، فالبعث في العراق تحول لحالة هلامية، فالخبرة البعثية الطويلة في العمل السري إضافة لسنوات الحكم الطويلة التي تجاوزت ثلاثة عقود و نيف قد وفرت للبعثيين مساحات و إمكانيات تحرك وهوامش واسعة للمناورة، ولكنهم في مطلق الأحوال قد أضحوا بخلافاتهم و إنشقاقاتهم المخطط لها من النظام السوري و غيره حالة من الماضي السحيق و تجربتهم الماضية لن يتسنى لها التكرار أبدا كما أنهم يعيشون تناقضات الماضي و إشكاليات الحاضر وغموض المستقبل خصوصا و أن البعث قد تحول لقبيلة تتقاتل مع بقية القبائل السياسية المتناحرة في العراق....!

[email protected]