تعتبر الأعياد والاحتفالات الشعبية فرصة مناسبة للشعوب والمجموعات البشرية لتعبر عن ذاتها وابراز هويتها الخاصة،وذلك من خلال العروض والمهرجانات الفنية وتزيين ساحات الاحتفال بالأعلام والرموز القومية والحضارية والدينية الخاصة بها.لكن في سوريا تبدو الأمور مختلفة كلياً فيما يتعلق بالاحتفالات الخاصة بالقوميات الغير عربية.اذ تجري احتفالاتها في أجواء يسودها التوتر والقلق والاحتقان،وذلك بسبب التضييق على الحريات والحقوق القومية للأكراد والآشوريين والمضايقات الأمنية على مختلف نشاطاتهم السياسية وفعالياتهم الثقافية والاجتماعية.ففي كل عام،عشية احتفالات الأكراد بعيد quot;نوروزquot; في 21 آذار، واحتفالات الآشوريين(سريان/كلدان)بعيدquot;الأكيتوquot; في الأول من نيسان،تستنفر الأجهزة الأمنية وتزيد من اجراءاتها الأمنية وبشكل لا فت في مدن وبلدات الجزيرة ومحافظة الحسكة.كما لو أن هذه الأعياد هي مناسبات لأعمال الشغب والفوضى وليست مواسم للبهجة والفرح بقدوم الربيع.وفي اطار الحملة الرسمية التي تشنها السلطات السورية على الأعلام والرموز القومية الآشورية والكردية،تقوم السلطات بابلاغ أصحاب المطابع ودور النشر بعدم طبع أية اشارات أو رموز أو اعلام تخص الأكراد أو الآشوريين وتحذرهم من عواقب مخالفة هذه التعليمات.فكما هو معلوم،في quot;سوريا البعثquot; لا يسمح برفع أية راية غيرquot;راية العروبةquot;.أما الرايات والرموز الحضارية الأخرى الغير عربية يجب أن تزال وتمحى من الخريطة السياسية والثقافية لدولة البعث.وفي اطار هذه الحملة الغير مبررة، أجبرت شركات النقل والمؤسسات الاقتصادية الآشورية على إزالة العلم الآشوري من على حافلاتها وإعلاناتها التجارية. وقبل أيام حرمت الجهات الأمنية في محافظة الحسكة المطرب الآشوري المغترب حبيب موسى من الغناء في حفلة بمدينة القامشلي،وذلك عقاباً له على مشاركته في احتفالات رأس السنة الآشورية وحمله للراية الآشورية وإشادته بالشعب الآشوري من خلال أغانية القومية الحماسية.

من الطبيعي أن تلقى سياسات التمييز القومي والاستبداد الثقافي التي تنتهجها حكومات البعث، تجاه الأكراد والآشوريين وغير العرب عموماً، رفضاً واستهجاناً من قبل ابناء هذه القوميات، وكثيراً ما تسبب احتقانات سياسية واجتماعية، وبشكل خاص في الشارع الكردي الأكثر تعصباً وحماسة وحرصاً على ممارسة حقوقه القومية.فوفق العديد من المصادر،وخلال الاحتفالات بأعياد نوروز في آذار الماضي بالقرب من مدينة الرقة، اصطدم جمهور كردي،بعد أن رفض انزال اعلام كردية وصور لزعامات سياسية كردية من مكان الاحتفال، مع قوات الشرطة والأمن تسبب بوقوع قتلى وجرحى بين الأكراد برصاص الشرطة.وكان المشهد المأساوي ذاته تكرر في احتفالات نوروز 2008 بمدينة القامشلي.طبعاً،وبغض النظر عن مدى اتفاقنا أو اختلافنا مع الخطاب الكردي وشعاراته السياسية،لا من مبرر لجوء الشرطة،وهي المسئولة عن حماية وأمن المواطن، إلى السلاح وإطلاق الرصاص على اناس يحتفلون بعيدهم لحسم الخلاف معهم،أياً تكن الشعارات والاعلام التي رفعوها أو الاستفزازات التي قد تكون بدرت منهم. لا جدال على أهمية وضرورة احترام quot;العلم الوطنيquot; لسوريا ورفعه في كل المناسبات والاحتفالات الخاصة والعامة ومن قبل جميع السوريين وبمختلف انتماءاتهم الاثنية والدينية والسياسية.لأن في الالتفاف حول العلم الوطني، تأكيد على قدسية الوطن السوري وعلى التمسك بالوحدة الوطنية وعلى العيش المشترك بين المكونات والشعوب السورية.لكن قطعاً quot;الوحدة الوطنيةquot; لن تنجز بالإكراه وبقمع الحريات وبقهر واضطهاد الأقليات الغير عربية وتهميشها أو إقصاءها.ولا اعتقد هناك ما يضر بالوحدة الوطنية أو يسيء لها إذا ما رُفع العلم الكردي أو الآشوري أو الأرمني الى جانب العلم الوطني لسوريا،لا بل أن في هذه الظاهرة حالة صحية وايجابية تؤكد على الانتماء الوطني لهذه الأقليات وحرصها الشديد على العيش في كنف الوطن السوري والدولة السورية.من هذا المنظور،لا أجد سبباً يجعل السلطات السورية تستفز من مشاهد الاحتفالات القومية ومن رفع الأعلام الخاصة بالأقليات.فإذا كان من حق ابناء القومية العربية وأنصار حزب البعث وحلفاءه رفع أعلامهم القومية والحزبية في مسيراتهم ومهرجاناتهم،أعتقد بأنه أيضاً من حق الأكراد والآشوريين السوريين،شركاء العرب في هذا الوطن،رفع أعلامهم ورموزهم القومية التي تعبر عن هويتهم والتي هي جزء من الهوية الثقافية والوطنية للدولة السورية،بصرف النظر عن المدلولات أو التعابير السياسية للأعلام والرايات المرفوعة.جدير بالذكر،أن الرئيس بشار الأسد قال في سياق إحدى كلماته quot; ان القومية الكردية جزء من التاريخ السوري ومن النسيج السوريquot;.و الرئيس الراحل حافظ الأسد قال،مخاطباً السريان من خلال كلمة رحب فيها بالمشاركين في المجمع السرياني بدمشق:quot; سوريا بلدكم وعندما نقول هذا لا نعطيكم ما هو ليس لكمquot;.لكن رغم هذا الكلام الايجابي للرئيسين،لم يحصل أي تطور ايجابي يذكر أو تحول مهم في موقف الحكومة السورية وحزب البعث من قضايا وحقوق الأكراد والآشوريين(سريان/كلدان) السوريين.اذ مازالت الأولوية هي لنهج التعريب ورفض الاعتراف الدستوري بالأكراد والآشوريين،ومازالت تهمة التشكيك بوطنية هذه القوميات جاهزة كلما هي احتجت على مظالم تلحق بها أو طالبت بحقوقها القومية والديمقراطية وبمساواتها مع الأغلبية العربية في الحقوق والواجبات،ومازال عشرات الآلاف من الأكراد السوريين محرومين من حق التجنيس.

الحملة الحكومية على الأعلام الآشورية والكردية،من دون شك، هي تؤكد من جديد على عمق أزمة أو إشكالية الهوية الوطنية للدولة السورية الحديثة التي اختزلها حزب البعث بـquot;العروبة والاسلامquot; وأقصى الهويات السورية الأخرى. ففيما يتمسك الآشوريون والأكراد وغير العرب عموماً بالهوية الوطنية السورية ويبدون حرصاً شديداً على الاندماج في وحدة وطنية سورية في ظل دولة مدنية ليبرالية تكفل لهم حقوقهم والحفاظ على هويتهم الحضارية والثقافية،بينما تقوم الاستراتيجية القومية لحزب البعث على ذوبان وانصهار غير العرب في بوتقة quot;القومية العربيةquot;وليس في البوتقة الوطنية السورية. لأن وفق عقيدته القومية، تتعارض الوطنية السورية مع الوطنية العربية،وهي(الوطنية السورية) عقبة كبيرة في طريق جمع الدول العربية وتوحيدها في دولة عربية واحدة.ورغم سقوط quot;أكذوبة التاريخ العربي الرسميquot; الذي يُعلم بالمدارس الحكومية في سوريا وفي معظم الدول العربية،مازال حزب البعث ومعه الكثير من القوميين العرب ينظرون للدولة السورية الحالية على أنها مجرد كيان سياسيquot;قطرquot; مؤقت زائل،سيذوب في مشروع quot;الدولة- الأمة العربيةquot; المنشودة.بتعبير آخر،يرفض حزب البعث العربي الاشتراكي الاعتراف بالهوية السورية كهوية وطنية نهائية للدولة السورية،وهذا يفسر عدم ورود كلمةquot;سورياquot; في دستوره القومي،الذي مازال يشكل الركيزة الأساسية لمنطلقاته الفكرية والسياسية.

سوريا
مهتم بقضايا الأقليات
[email protected]