( تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم ) قرآن كريم

(اذا ما كنتَ أنت على صواب، فليس من الضروري أن أكون أنا على خطأ)


ما تعرض شئ للإبتزاز والإحتواء مثلما تعرضت الحقيقة، الكل يدّعي امتلاكها من دون الآخرين، فكأنها لهم خُلقت واليهم تعود وهذا خلاف الواقع ومنطق السنن، فالحقيقة ليست مطلقة نهائية ولا أحادية ثابتة، إنما هي نسبية متحركة، منفتحة على التنوع وكل الإحتمالات، فالحقائق الجاهزة والمعلبة لا تصمد كثيرا امام حراك الواقع ودفق الحياة فالحقيقة لا تكفّ عن السيرورة، ( وهي خطأ مصحح باستمرار ) هذا ما نص عليه الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار (1884- 1962) وهذا الرأي ينطوي على مبدأ معرفي اساسي لا يمكن تغافله : ( ينبغي العودة النقدية على الذات في كل مرة تقطع فيها الذات مسارا معرفيا معينا ) واضافة لنسبية الحقيقة وحراكها الجدلي مع الخطأ فهي لا تقبل الاحتكاراو التجيير لحساب شخص او فئة ،وهذا ما اشار اليه المتصوف الكبيرجلال الدين الرومي وقد تلمس جذر المنهج الاحتكاري اذ يقول:
( الحقيقة مثلها مثل مرآة سقطت فتشظت، فأخذ كلٌ منا قطعة منها وظن أنه يمتلك الحقيقة كلها ) وهذا منزلق خطير يجعل كل من يدعي امتلاك الحقيقة لوحده يقر من حيث يشعر او لايشعر بأن الآخر على خطأ وباطل ومصيره الاقصاء، بل احيانا الحذف والتصفية، وعندها لا يمكن تصور أي لون من الوان الحوار مع الآخر الذي لا ينتمي الى ما ننتمي اليه، سواء على صعيد المعتقد او الفكر او الرأي، ولا يمكن أن ينشأ أي شكل من اشكال التعايش السلمي والحضاري بين اعضاء هذه الجماعات والآخر، وتصبح فرص الحياة معرضة لهزات وبراكين تتفجر بأية لحظة ولأتفه الأسباب. وتتناسل عن هذا المنهج
( منهج احتكار الحقيقة ) تداعيات عميقة تصيب النسيج الإجتماعي وتراتبية العلاقات فيه، ومن هذه التداعيات:

اولاً : يتم تقسيم المجتمع او الجماعات تقسيما quot; مانوياً quot; ثنائيا، حق وباطل، كفر وايمان، اخلاص وخيانة، وطنية وعمالة، من لم يكن معنا فهو علينا، الى ما هنالك من التقسيمات الحدّية والقاطعة والتي ليس بينها أي درجة من درجات الوسطية او الإعتدال ولا مكان هنا لنسبية الأمور وظرفيتها.

ثانياً: الجمود على الموجود، حيث أن الموجود هو الحقيقة، وهل هناك بعد الحقيقة شئ، وبالتالي الموجود يبقى كما هو لا يمس ولا يناقش، وهذا هو داء معظم الملل والنحل والآيديولوجيات والقناعات المسبقة والمنغلقة، وهذا التوجه يجر اصحابه احيانا للعيش خارج الواقع لان مقولاتهم التي يعتبرونها حقائق لاتناقش اصبحت بلا مصداقية علمية او عقلية، لذلك يهرب بها اصحابها الى خارج ( الواقع ) الذي رفضها ويحاولون التعايش معها ويتنكرون للعقل والمنطق بل يعتبرون العقل ضلالة والمنطق زندقة

ثالثاً : هذا الجمود بدوره يحيل الى التقديس والتأويلات المتكلفة كآلية لحماية الحقيقة المشتبهة من ضغط حركة الواقع العلمي والحضاري ومسيرة الزمن التي لا ترحم .

رابعاً : اتساع دائرة المحرّمات ( التابو ) لتصبح اسلاكاً شائكة والغاماً تعرقل حركة العقل وتحجّم نطاق فعالياته التي تقاوم و ترفض منهج احتكار الحقيقة.

خامساً : التأسيس لعبادة الأفراد ودفع الناس باتجاه الخنوع والسكوتيّة، لأن السرّ المقدس للحقيقة لايعرفه إلاّ هذا النفر القليل وبالتالي يجب الخضوع لهم والسكوت بحضرتهم.

في الواقع أن النقاط السالفة الذكر لكل واحدة منها جملة من الإنعكاسات السلبية والتأثيرات الجانبية والتي تتجاوز في مضاعفاتها المتواليات الحسابية البسيطة، بل تزداد تعقيداً على تعقيد بمرور الزمن وبزيادة القطاعات التي تقع في فخ هذه التوجهات الخطيرة والتي لا ينجوا منها حتى بعض الطبقات المتعلمة لسبب او لآخر، وهنا تزداد درجة الخطورة، لأن هذا اللون من المتعلمين يشكلون واجهة دعائية ورصيداً محسوباً لهذه الأفكار المدمرة ويكونون امتداداً مخيفاً في اوساط بعض الشباب متأثرين بما يمرّ به العالم من قضايا ساخنة وأحداث متفجرة وما تفرزه من مناخات محتقنة تساعد على تكريس هذه الإتجاهات المتطرفة ونموهها .