quot;الردّ على وَحشيَّة بوحشيّة إقرارٌ بإفلاسنا الأخلاقي والفكري، ويمكن لهذا أن يكون بداية حلقة مفرغة quot;
المهاتما غاندي

لا يمكن للباحث في قضايا اللاعنف في أيّ مكان من دول العالم أن يبلور طروحاته دون الوقوف عند تجربة المهاتما موهنداس. ك. غاندي والاستفادة منها، و إن كانت الظروف الاقليمية والسياسية والزمانية والمكانية تختلف باختلاف مستويات الواقع والظروف المحيطة بها، إلا أنّ المبادئ الكونيّة الجامعة للحضارة الانسانية ومشتركات الحكمة الخالدة تتفق بما لا يدع مجالا للشك على أنّ علاقة الانسان بالانسان، والانسان بالكون، ينبغي ان تكون علاقة تكامليّة لتحقيق المحبة والسلام، وتتمحور حول أهمية وعي الكائن الانساني لعظمة وجوده الذي لا يكتمل إلا باللاعنف واللاإكراه.

وفي زمننا نجد من يحتج معترضًا على المقاومة اللاعنفية مشيرًا الى أنّ ظروف الهند الاستثنائية في مقاومتها لبريطانيا هي التي سمحت بنجاحها، وأنّه لا يمكن الاستفادة من هذه التجربة في عصر العولمة؛ غير أننا نجد أسس quot;الغانديةquot; تكمن في قلب الكائنات وجوهر كلّ الأديان، بل إنَّ من فوائد quot;فتوحات العولمة الفكرية quot; زيادة فرص اللاعنف ونجاحه فيما يتعدى الحدود القومية والدينية، إضافة إلى انّ العولمة لعبت دورا ايجابيًّا لا يستهان به، في الحدّ من عنف الأنظمة الحاكمة المستبدَّة، وتحقيق مساحة أوسع من الديموقراطية وحريّة الفضاء السيبيري والاعلامي، مما يفسح آفاقًا رحبة لإحداث صحوة لاعنفية ضدَّ ما يحصل من جرائم يومية بحقّ البشر عبر التطهير العرقي والاضطهاد وتعنّت الدول المسيطرة؛ أو جرائم بيئية بحق الكائنات الأخرى و الطبيعة وتخريب الغلاف الجوي للأرض.

وليس المطلوب من عرض رؤية غاندي إسقاط التجربة quot;الغاندية quot; كما هي وتطبيقها هنا وهناك، فطرح فكر الرجل لا ينحى بحال من الأحوال إلى جعله كراسة وصايا، أو دستور يجب تطبيقه quot; فلتتحطم الغاندية إن أخطأت. لا يمكن تحطيم الحقيقة. فإذا أصبحت الغاندية إسما آخر للطائفية فإنها تستحق أن تغدو جديرة بالتدمير quot;
بيد أنّ المثال اللاعنفي الذي اتبعه غاندي جدير بالتوقف عنده والاستفادة منه،كونه حوّل الخبرة الروحية والمفاهيم الفرديّة إلى فعلٍ حضاريٍّ، ساهم في فتح كوّة في جدار العنف وساهم في تحرر شبه القارة الهندية.

ويمكن اليوم استلهام التجارب المشتركة في تراث البشرية، التي تؤكد على انّ العدالة والمحبة لا تتحققان إلا باللاعنف، من أجل حماية الانسانية، ولكلّ شعبٍ تراثه الرُّوحي المشرق الذي يشع سلامًا فطريًّا، ويمكن له أنْ يُبلور رؤيته الخاصَّة للاعنف بحسب ظروفة وإمكاناته وجذوره الفكريّة، أسوة بما فعل مُستَنِيري كلّ العصور من سقراط والناصري و دانيال والحلاج وغاندي و محيي الدين ابن عربي وماهافير وناناك و طاغور وتولستوي... وغيرهم، ممّن آمنوا أنّ التغيير الفعلي يبدأ بتحقيق الانسانية والسلام و تربية النفس قبل جهاد البشر، و أنّ نصرة الحقّ لا تكون إلا بالحقّ وبوسائل عادلة.

فمن quot;واجب الآخذين باللاعنف نهج حياة، بدون أن يتزحزحوا عن موقفهم الداخلي الأساسي، أن يبتكروا أساليب عمل جديدة، وأن تتفتق عبقرية الحقيقة الكامنة في مذهبهم عن تجلِّيات بكر.quot;
يقول غاندي quot; اللاعنف هو شريعة الجنس البشري. وهو أكبر و أسمى بما لا يقاس من شريعة القّوة الغاشمة. وهو... لا يليق بأولئك الذين يملكون إيمانًا حيًّا بألوهة المحبّة... لذلك، عندما نقبل باللاعنف كقانون للحياة، من الواجب أن يشمل (هذا القانون ) الكائن بكليته، لا أن يكون مجرد أفعالا منعزلة. ومن الخطأ الكبير الاعتقاد بأنّ القانون يصحّ على الأفراد، ولا يصح على الجنس البشري ككل. quot;
والقانون الذي يعنيه غاندي ليس quot;القانونquot; الذي وضعه الإنسان، بل القانون الذي صَنعته الطبيعة للإنسان.
فالتدريب على ممارسة اللاعنف تبدأ من العلاقات الشخصية مع الآخرين وهو ليس تدريبًا خارجيًّا أو جسديًّا، بل هو الإرادة بعدم ممارسة العنف والقتل حتّى من باب المعاملة بالمثل وامتلاك الجرأة في مواجهة التحديات بما فيها الموت دون أي رغبة في الانتقام.
quot;وما من شجاعة أكبر من رفض الركوع أمام أي سلطة أرضيّة، أيًّا كانت قوتها، وهذا ليس ممكنًا من دون القوّة الجبّارة للروح والإيمان المطلق، بأن الروح وحدها خالدة، وليس أي شيئٍ آخر quot;

وبحسب رؤية غاندي فإن تطبيق اللاعنف يتطلب عاملين :
العامل الأول : وجود إنسان مؤمن باللاعنف سبيل حياة، يحمل بذرة فطرية انسانية تتجاوز الدكاكين quot;الروحيةquot; و التقسيمات القومية والآراء التسلطيّة، والأيديولوجيات المتصلبة، والنظريات الانعزالية، ويتمتع بالقوة والإرادة على زرع بزور التسامح في قلب الأخوة الانسانية
العامل الثاني : وجود مبادئ أخلاقية قابلة للتطبيق في سياق التربية اللاعنفية تتبلور من خلال فعل انساني قوامه المحبّة لكل الخلائق و التضحية من أجل الانسانية وتحمل المسؤولية تجاه الكون والكائنات.
http://marwa-kreidieh.maktoobblog.com/

-----

- كنت قد انتقدت في مقالٍ سابق العولمة بوصفها الاستهلاكي المادي الجشع، بيد ان العولمة بمفهومها الانساني الايجابي مطلوبة : منها عولمة السلام وعولمة اللاعنف وعولمة القيم الانسانية المشتركة، وكلها امور ايجابية ومطلوبة سنتاولها تحت عنوان العولمة البديلة الذي طرحه جان ماري موللر فاقتضى التنويه .
غاندي : هاريجان ، اواسط يوليو 1939 ، ص 197
ديميتري أفييرينوس : غاندي بين القداسة والسياسة - في محاضرة ألقاها خلال ورشة عمل حول : اللاعنف وضبط النفس المنعقدة في مرمريتا 10 و12 تموز يوليو 2009 ndash; سوريا
المهاتما غاندي، هاريجان، الخامس من سبتمبر 1936 ، ص 236 .
المهاتما غاندي ، هاريجان، أواسط أكتوبر 1938 . ص .ص 290 - 291