ـ مَنْ منِّا خلق الديمقراطية؟
ـ لا أحد.
ـ مَنْ منِّا قبلَ أنْ يخلقها لنا الآخر؟
ـ لا أحد.
لا أريد هنا الخوض في أصل الديمقراطية وفصلها، لأنها مفهوم خلافي دينامي، وليس على شاكلة واحدة يمكن رفضها أو قبولها، كما يتصور البعض. وقد تبلور هذا المفهوم وأثريت قاعدته النظرية ولو نسبيِّاً في مجمل اللغات الحيَّة المتداولة في الفكر السياسي الحاكم لعالمنا الجميل هذا، ومن ذلك بطبيعة الحال الفكر السياسي العربي الذي وعلى الرغم من محنة وجوده وتعامله مع مساحات تنتشر الدكتاتوريات فيها بشكل وبائي مرعب، إلا إنَّه لم يتقاعس أبداً عن دوره في الشرح والتأصيل النظري للديمقراطية، فقد حظي هذا المصطلح بإهتمام موسوعتنا السياسية وجاء تفصيله موائماً لما هو عليه في موسوعات أخرى، وهو على سبيل الإختزال quot; الحرية والمساواة، ومبدأ حقوق الإنسان، في دولة يقوم كيانها على مؤسسات سياسية ومدنية، يتم تداول السلطة فيها على أساس الأغلبية، مع حفظ حقوق الأقلياتquot;1. أما عن المنظور الديني للديمقراطية فقد تعلق بمناهج وتفسيرات النص، والتي هي في النهاية مناهج إحتمالية لها علاقة وطيدة بالسياقات والظروف التاريخية التي أنتجتها. فثمة تفسيرات تشير الى تضمن الفرشة النظرية الإسلامية على منظومة سياسية ديمقراطية يستدل عليها بـ (الشورى، البيعة، الإستخلاف، العدل، المساواة). وهناك تفسيرات تنفي علاقة النص الديني بمجمل ما للديمقراطية من بنى، وتستدل على ذلك بكون فرض الطاعة الوارد في قوله تعالى (يا ايها الذين امنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم فان تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر ذلك خير واحسن تاويلا) النساء 59، لا يتفق ومفهوم الحرية و المشاركة في إنتاج القرار. وقد أختلفت نتائج القراءتين بإختلاف المقدمات التي بني عليها كلٌ منها. والسؤال المطروح هنا هو التالي: هل تجوز معالجة مادة الخلاف على مفهوم الديمقراطية من منظور فردي إنساني، بعيد عن الغيب وتدخلات السماء، تأسيساً على كون تدين الإنسان صفة لاحقة أو مضافة على وجوده الأول كذات حرة؟
لعلِّي لا أجانب الصواب إذا قلت إن الإجابة عن تساؤل كهذا ستؤدي الى معضلات وبؤر إشكالية عميقة، ليس أولها إصرار الآيدلوجيا الطائفية السائدة اليوم و الإسلام السياسي على أن يلبس الديمقراطية عِمامة، ولا آخرها رفض شريحة واسعة من المجتمع العربي القبول بأن فكرة الديمقراطية هي ليست شرطاً أمريكياً، ولا خارطة سريِّة رسمتها قوى معادية، وإنما هي نتيجة طبيعية لمسارات الوعي، وحتمية تاريخية تتوِّج إنتقال الإنسان من مرحلة العبودية والإستبداد الى مرحلة المدنية وإحترام حقوق الآخر.
والدليل على ما أزعمه من إشكالية في الإجابة هو ما حدث في العراق بعد ثلاثة عقود ونيّف رزحت فيها مجمل مقدرات البلاد تحت حكم الحزب/الرجل الواحد، وأعتقدُ إنه وقتٌ كافٍ أختبرت فيه تلك الآيدلوجيا، ولم تثمر في ساحات تدافعاتها كوجود وكإتجاه سياسي، إلا عن مساحات شاسعة من الخراب، المادي والمعنوي، تجلت بوضوح في إنكسارات نفسية هائلة في شخصية الإنسان العراقي، جعلته لا يثقُ بمستقبله ولا يرى فيه غير مؤشرات الهزيمة، الى حدٍ جعل البعض يحن الى ماضي مستبد صديء، كارثي وموحش، تملأه عربدات القائد الضرورة، التي جعلت العراق يهرول وحيداً خارج رقعة التاريخ.
أقول بعد تلك الفترة السوداء من تاريخ العراق وحين إتفقت مصادفات تاريخية على إزالة حكم الطاغية، أعرب العراقيون، وعلى الرغم من كونهم في واقع مأزوم وبنية إجتماعية أدمنت الحكم الواحد، عن أملهم في التحوَّل الى تجربة ديمقراطية من الممكن تشكلها في الرحم السياسي الموجود في العراق لتكون سبيلاً ربما وحيداً لحماية البلد ولإيقاف إنهيار بنية المجتمع المدني فيه.
ولكن ماذا حدث؟ لقد أكيلت لهم إتهامات قصدت نسف المشروع السياسي العراقي برمته وجعله إمتداداً ذيلياً محتقراً للمشروع quot;الإستعماريquot; في المنطقة. وهناك من أستفزه سقوط الدكتاتورية الصدامية الى الحد الذي حدا به لأن يتخذ من ذلك فرصة لتصفية ما له من حسابات تاريخية مع العراق كوجود وكحضارة، ولذا لم يتوانَ عن الدفع بميكانزمات كراهيته للدرجة التي جعلت التجربة السياسية العراقية مرفوضة بالنسبة له جملة وتفصيلاً، فسعى للتنظير لكون التجربة الديمقراطية في المجتمع العراقي فكرة غرضها تكريس تجزئة العراق الى قوميات وأقليات وطوائف، وهي بوابة لا تؤدي إلا الى الصراعات أو النزاعات السياسية!
إننا لا ننفي ما يحدث من خرق أو خلل في التجربة الديمقراطية العراقية، على إنَّ مرد ذلك عائدٌ لكون التجربة لم تتخط بعد حالة التشكل، والى إن المجتمع العراقي مازال في أوَّل مراحل اليقظة بأهمية أن يفكر بقبول المشروع الديمقراطي، وتفعيل نقله من مستوى الخطاب الثقافي المجرد، الذي يقتصر تداوله على النخب، الى مستوى الجماهير عامة. لأن الديمقراطية مضمون إجتماعي بحت، والعقل الجمعي هو الذي يحدد موجهات ذلك المضمون، وهو الذي يتحكم ويسيطر على ما تؤول إليه صناديق الإقتراع وليس العكس.
نعم، هناك قصورٌ واضحٌ في الإنتخابات النيابية العراقية، ولكنها وعلى الرغم من ذلك سبق في التجربة الديمقراطية، التي هي في نهاية الأمر ليست خطاباً متعالياً، وإنما هي خطاب نسبي هدفه الإلتحام بالجماهير وتظافر الجهود لبناء منظومة سياسية حديثة قوامها دولة المؤسسات. ثمَّ إن علينا أن نحذر النوازع الإستبدادية التي يمكن أن تتخذ من هذا القصور أداة لإفشال التحول الديمقراطي الذي حدث في العراق، والذي وضع نهاية لكل ما تعاقب على مسرح تاريخه من دكتاتوريات، وعقليات بالية حاربت كل من حاول مخالفتها. وإذا كانت العقلانية هي أصل الفكر السياسي، فإن هذه المقدمة توجبُ على المنظر السياسي العراقي أن يجد قنوات مقبولة عقلياً لتفريغ ما نتج وينتج عن تجربة الإنتخابات العراقية من شحنات، وألَّا يدفع بتلك الشحنات بإتجاه معاكس للأصل العقلاني للفكر السياسي، النابذ للصِدام، لأنه بذلك سيحوّلها الى أسس وقواعد نظرية لتبرير ممارسة العنف على إختلاف أشكاله.
إن ما نمر به اليوم لهو إختبارٌ حقيقي للعقل السياسي العراقي، لكي يتخلص من هاجس العنف ويدفع بالمياه باتجاه مقومات حياة لا تنحسر فيها رقعة الديمقراطية لحساب أجندات سياسية بعينها، ولا تضيق فيها مساحة العقل لحساب العاطفة، لأن العواطف الجياشة لا تصنع تواريخ الشعوب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـينظر الديمقراطية وحقوق الإنسان، د، محمد عابد الجابري، سلسلة كتاب في جريدة، إصدارات منظمة اليونسكو،1996، ص5.
التعليقات