يرى جودت سعيد ان التطور البشري وسيرورة الحضارة الانسانية تدفع الإنسان رغمًا عنه إلى الديمقراطية التي تعني العقل والإقناع والسلم، ويشير الى انه وبحسب هذه الرؤية للتاريخ (quot;فقد أعلنتُ موت الحربquot;، مع أول تفجير نووي، فالكبار لم يعودوا قادرين على الحرب، ولكنهم يستغلون جهل الجاهلين ويستثمرون جهلهم ببيعهم الأسلحة، إن الحروب قرابين البشرية، والقتل لم يكن يوما حلاً لمشكلة بل هو مفاقمة لأي مشكلة كما يعلمنا درس التاريخ.

إن وجودنا في هذا العالم ليس عبثًا، ولا باطلاً، ولا لعبًا، إن سعادة الإنسان تنبع من خدمته لقضية عادلة. وأعظم القضايا هي أن يتوقف الفساد وسفك الدماء.
إن مما يسجل للأوربيين أنهم لم يبتكروا وسائل لنقل البشر والمعلومات فقط، بل ابتكروا وسيلة لنقل السلطة غير القتل والوراثة. وسيلة تحترم العقل الإنساني وتحيي معنى الشرعية وتعطي قيمة لاختيار الناس، كما مارسه النبي محمد في القرن السابع، وكثيرًا ما أكرر أن الإنسان هو أعظم ما خلق الله، والديمقراطية هي أعظم ما صنعه الإنسان، وجوهرها أن يؤمن الجميع بعدم اللجوء إلى العنف في حل المشاكل، بل إلى الإقناع وعد الأصوات. إن الديمقراطية خلق جديد، ينمو نحو الأفضل، إن (دمقرطة = جعل العالم ديمقراطية كبيرة) العالم هو التحدي الذي ينتظر المثقفين والساسة حتى يصبح العالم أكثر أمنا وراحة للجميع.

لقد انتهى عهد الأنبياء وانتقلت المسؤولية إلى أهل العلم ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، ومن الظلم إلى العدل ومن الاستعباد إلى الحرية، من الفساد وسفك الدماء إلى ((إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ))، إن أقرب الناس إلى الله هم الذين يُقدِّمون الخدمات لإخوانهم البشر، والأنبياء جاؤوا ليتنافس الناس في فعل الخير، فلنتنافس نحن كيف نصنع السلام العالمي، وكيف نصنع المجتمع العالمي الذي يتساوى الناس فيه أمام القانون، ونكون بذلك حققنا إرادة الله وأمنية الأنبياء. )

وتتبلور نظرية جودت سعيد في اللاعنف من خلال محاور quot;عقدية quot; وجودية يقدم من خلالها قراءة جديدة عميقة للنص اللاهوتي والمصطلح القرآني تتلخص بمحاور ومفاهيم تترابط فيما بينها وتوضح علاقة الانسان بالكون والمكون والكائنات من خلال اعتماده وتركيزه على مرجعية تاريخية أركولوجية وهذه المرتكزات هي:
bull;توحيد الله
bull;العدل: ((لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ))
bull;الكلمة السواء (( تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ))
bull;اللاإكراه: (( لا إكراه في الدين ))
فتوحيد الله هو إقامة العدل، والعدل هو الكلمة السواء، وهو ما يستوجب اللاإكراه.
(فالعدل بحسب القرآن هو منطلق الثيولوجيا الجديدة، لأنه هو التوحيد، فتوحيد الله الذي في السماء ليس مسألة ميتافيزيقية وإنما مسألة اجتماعية سياسية، أيّ أن لا يكون هناك آلهة بشرية على الأرض، فما دام هناك أصحاب امتيازات في العالم، فلا سلام ولا حقن دماء، بل بؤس في جانب وخوف وقلق في جانب آخر، بؤس ومعاناة عند الغالبية من سكان الكوكب وخوف وقلق عند القلة المترفة، يعني أن يتقلب الجميع في جحيم الخوف والقلق، سواء على لقمة العيش أو على الامتيازات، وحسب القرآن فإن الغاية من الرسل والنبوات هي ((لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)) [الحديد، 25]، وهذا ما تبينه أيضًا آية السواء التي أرسلها الرسول محمد إلى ملوك زمانه: ((تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ)) [آل عمران، 64]،

في إشارة واضحة إلى أن توحيد الله في السماء يعني أن نساوي بين الناس على الأرض. إن هذه النظرة إلى التوحيد والعدل تَجعل المثالية واقعية، والغيب شهادة، والإلهي بشريًا، والخارق سُننية، وبِهذا فقد صار الدين علمًا.وكل شيء صار علما يصير عالميا.
والعدل يستوجب الديموقراطية و اللاإكراه وهي الواردة بقوله تعالى (quot; لا إكراه في الدينquot; هي الرشد، وأن الإكراه في الدين هو الغي، فالجملة الثانية شرح وبيان للجملة الأولى، فجملة ( لا إكراه في الدين ) بها تبين الرشد من الغي، فالإكراه هو الغي، واللاإكراه هو الرشد، وكذلك الجملة الثالثة تفسير وبيان للجملتين السابقتين. (( فَمَنْ يكفُرْ بالطّاغوتِ )) الذي هو الإكراه، ومن يفرض دينه بالإكراه، ومن يؤمن بالله الذي يقرر أنه لا إكراه في دينه وفي الدين كلياً، فمن التزم هذا فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها.

وهنا نكون قد وصلنا إلى فكرة كبيرة جوهرية، هي أن الدين لا يجوز نشره بالقوة والإكراه والدين هو تفسير الكون، أي الوجود كله بِما فيه الإنسان.

وعلاقة الإنسان بالوجود وبالناس الآخرين هي المبدأ والمنتهى: ((سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ))[فصلت،53]، وعند هذه النقطة يمكن بحث الدين، أو فكرة الإنسان عن الوجود، والفكرة التي يريدها القرآن من الناس في فهم العالم والتي نرجو أن نتمكن من توضيحها من ناحية النصوص، ومن الناحية البيولوجية التاريخية.

إن العدل وكلمة السواء ليست عدمية، لأن العدل للإنسان ليس عبثاً ولا عدمياً ولا باطلاً بل محاولة إخفاء ذلك أو عدم رؤيته من خلال التاريخ هو العبث، نعم يمكن أن ييئس الناس من طول الحياة العابثة التي يعيشونها ولكن الحياة لا تضيع هدفها.
laquo; ولِكَثرةِ الإثْم تبرُد المحبةُ raquo; انجيل متى ( 23: 12 ). )

ويقول سعيد في محاضرته خلال مؤتمر بلجيكا حول دور quot;الفاعلين الدينيين في بناء السلم والديموقراطية: (إن هذا التحليل يشعرني براحة عظيمة كيف لا وأنا أستند إلى التاريخ والأنبياء وحقائق الحياة، وأدعو إلى كلمة السواء التي يفسرها القرآن بأنها ((لا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ)) [آل عمران، 64]، أي أن لا يكون أحد فوق القانون، فهذا هو الشرك، وهو الذنب الذي لا يغتفر، وهو الظلم العظيم الذي يحبط كل الأعمال ولا تنفع معه بقية الطاعات، وهو المنتج لكل مآسي التاريخ، ألا من كان له أذنان للسمع فليسمع.


مفهوم اللاعنف في فكر جَوْدَت سَعِيد (1)

---
جودت سعيد - الدين والقانون - دار الفكر المعاصر - دمشق سوريا 1998
جودت سعيد - كتاب: كن كابن آدم ndash; مرجع سابق ndash; فصل: الإسلام و ( لا إكراه في الدين )
جودت سعيد ndash; الدين والقانون - فصل لا إكراه في الدين ndash; مرجع سابق

Jawdat Said Mohamed ndash; During the seminar: The role of religious actors in peace-buildingquot; ndash; Ibid، 2 Dec 2009
المراجع:
جودت سعيد - مذهب ابن آدم الأول ndash; دار الفكر المعاصر دمشق ndash; سوريا ndash; 1993 حيث تناول مشكلة العنف في العمل الإسلامي.
جودت سعيد ndash; كن كابن آدم ndash; الفصل السابع ndash; مذهب الرشد: مذهب الأنبياء ابن آدم والانبياءndash; دار الفكر المعاصر ndash; دمشق ndash; سوريا - 1997 - البحث المعنون ndash; النبي والقوة الفكرية.
جودت سعيد: دور الفاعلين الدينين في بناء السلم والديمقراطية - في محاضرة ألقاها في بلجيكا بتاريخ 2- 12 - 2009
جودت سعيد - الدين والقانون - دار الفكر المعاصر - دمشق سوريا 1998 - مبحث quot; وحدة النبوات quot;
جودت سعيد ndash; كن كابن آدم ndash; مرجع سابق ndash; بحث بعنوان ndash; ابن آدم ومشكلة الفساد
جودت سعيد ndash; الإنسان كلا وعدلا ndash; دار الفكر المعاصر ndash; دمشق سوريا ndash; ط1 ndash; 1993 مبحث بعنوان: نظريتا التاريخ.